ثم قال تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } يعني : أو مثلهم كصيب ، أي : كصاحب صيب من السماء ، وهو المطر الذي يصوب ، أي : ينزل بكثرة ، { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمات المطر ، { وَرَعْدٌ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب ، { وَبَرْقٌ } وهو الضوء [ اللامع ] المشاهد مع{[59]} السحاب .
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ، ويشكّون تارة أخرى ، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم { كَصَيِّبٍ } والصيب : المطر ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصحابة ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعطية العَوْفِي ، وعطاء الخراساني ، والسُّدي ، والرّبيع بن أنس .
والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات ، وهي الشكوك والكفر والنفاق . { وَرَعْدٌ } وهو ما يزعج القلوب من الخوف ، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع ، كما قال تعالى : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [ هُمُ الْعَدُوُّ ] {[1322]} } [ المنافقون : 4 ] وقال : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ التوبة : 56 ، 57 ] .
والبرق : هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان ، من نور الإيمان ؛ ولهذا قال : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا ؛ لأن الله محيط [ بهم ]{[1323]} بقدرته ، وهم تحت مشيئته وإرادته ، كما قال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [ البروج : 17 - 20 ] .
[ والصواعق : جمع صاعقة ، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد ، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم صاعقة ، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة ، ونقل عن الحسن البصري أنه : قرأ " من الصواقع حذر الموت " بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم :
يحكوك بالمثقولة القواطع *** شفق البرق عن الصواقع{[1324]}
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 )
{ أو } للتخيير ( {[301]} ) ، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار( {[302]} ) على أحد الأمرين ، وقوله : { أو كصيّب } معطوف على { كمثل الذي } . وقال الطبري : { أو } بمعنى( {[303]} ) الواو .
قال القاضي أبو محمد وهذه عجمة ، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل ، ومنه قول علقمة بن عبدة( {[304]} ) : [ الطويل ]
كأنهمُ : صابتْ عليهمْ سحابةٌ . . . صواعقها لطيرِهِنَّ دبيبُ
وقول الآخر( {[305]} ) : [ الطويل ]
فلستِ لإنسيٍّ ولكن لملأكٍ . . . تنّزلَ من جوِّ السماءِ يصوبُ( {[306]} )
وأصل صيّب صَيْوب اجتمع الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعل في سَيّد ومَيّت .
وقال بعض الكوفيين : أصل صيّب صَوِيب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل( {[307]} ) ، فبهذا يضعف هذا القول .
وقوله تعالى : { ظلمات } بالجمع ، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن( {[308]} ) ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفس ، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه ، فإنه سارٌّ جميل ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [ المتقارب ]
فما رَوْضةٌ من رياضِ القطا *** كأَنَّ الْمَصَابِيحَ حوذانها
بأحسنَ مِنْها ولا مَزنةٌ *** دلوحٌ تَكشّفُ أدجانُها( {[309]} )
واختلف العلماء في الرعد : فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم : هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه ، فهي { الصواعق } ، واسم هذا الملك الرعد ، وقيل الرعد ملك ، وهذا الصوت تسبيحه ، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا هو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته : [ المنسرح ]
فجعني الرعدُ والصواعقُ بال . . . فارسِ يومَ الكريهةِ النجدِ( {[310]} )
وروي عن ابن عباس أنه قال : «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت » . وقيل : «الرعد اصطكاك أجرام السحاب »( {[311]} ) . وأكثر العلماء على أن الرعد ملك ، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب . ( {[312]} )
فقال علي بن أبي طالب : «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب » .
وقال ابن عباس : «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب » .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق يتراءى ، وقال قوم : «البرق ماء » ، وهذا قول ضعيف .
والصاعقة : قال الخليل : «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحياناً نار ، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك ، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه » .
وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة » بالسين .
وقال النقاش : «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد » .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع » بتقديم القاف . قال أبو عمرو : «وهي لغة تميم » .
وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت » بكسر الحاء وبألف . واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق .
فقال جمهور المفسرين : «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم . والعمى : هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم ، وفضح نفاقهم ، واشتهار كفرهم ، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا كله صحيح بين .
وروي عن ابن مسعود أنه قال : «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك ، فقالا : ليتنا أصبحنا فنأتي محمداً ونضع أيدينا في يده ، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما ، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين »( {[313]} ) .
وقال أيضاً ابن مسعود : «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعون القرآن ، فضرب الله المثل لهم » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه .
وقل قوم : «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ، ووعيده » .
و { محيط بالكافرين } معناه بعقابه وأخذه( {[314]} ) ، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه حاصراً من كل جهة ، ومنه قوله تعالى : { وأحيط بثمره }( {[315]} ) [ الكهف : 42 ] ففي الكلام حذف مضاف .