{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي : على سرير الملك ، ومجلس العزيز ، { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي : أبوه ، وأمه وإخوته ، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام ، { وَقَالَ } لما رأى هذه الحال ، ورأى سجودهم له : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين ، فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } فلم يجعلها أضغاث أحلام .
{ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي } إحسانا جسيما { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام ، حيث ذكر حاله في السجن ، ولم يذكر حاله في الجب ، لتمام عفوه عن إخوته ، وأنه لا يذكر ذلك الذنب ، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي .
فلم يقل : جاء بكم من الجوع والنصب ، ولا قال : " أحسن بكم " بل قال { أَحْسَنَ بِي } جعل الإحسان عائدا إليه ، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده ، ويهب لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } فلم يقل " نزغ الشيطان إخوتي " بل كأن الذنب والجهل ، صدر من الطرفين ، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره ، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة .
{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر ، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها ، وسرائر العباد وضمائرهم ، { الْحَكِيمُ } في وضعه الأشياء مواضعها ، وسوقه الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها .
وقوله : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني السرير ، أي : أجلسهما معه على سريره .
{ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي : سجد له أبواه وإخوته الباقون ، وكانوا أحد عشر رجلا { وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } أي : التي كان قصها على أبيه { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ]
وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له ، ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى ، عليه السلام ، فحرم هذا في هذه الملة ، وجُعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى .
وفي الحديث أن معاذا قدم الشام ، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم ، فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ما هذا يا معاذ ؟ " فقال : إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم ، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال : " لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد ، لأمرت الزوجة{[15302]} أن تسجد لزوجها من عِظم{[15303]} حقه عليها " {[15304]} وفي حديث آخر : أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُق المدينة ، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام ، فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا تسجد لي يا سلمان ، واسجد للحي الذي لا يموت " {[15305]} .
والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ؛ ولهذا خروا له سُجَّدًا ، فعندها قال يوسف : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } أي : هذا ما آل إليه الأمر ، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر ، كما قال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا من خير وشر .
وقوله : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } أي : صحيحة صِدْقا ، يذكر نعم الله عليه ، { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } أي : البادية .
قال ابن جُرَيْج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية . وقال : كانوا يسكنون بالعَربَات من أرض فلسطين ، من غور الشام . قال : وبعض يقول : كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمَى ، وكانوا أصحاب بادية وشاء{[15306]} وإبل .
{ مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [ ثم قال ]{[15307]} { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } أي : إذا أراد أمرا قيض له أسبابا ويسره وقدره ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } بمصالح عباده { الْحَكِيمُ } في أفعاله وأقواله ، وقضائه وقدره ، وما يختاره ويريده .
قال أبو عثمان النهدي ، عن سليمان{[15308]} كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة .
قال عبد الله بن شداد : وإليها{[15309]} ينتهي أقصى الرؤيا . رواه ابن جرير .
وقال أيضا : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا هشام ، عن الحسن قال : كان منذ{[15310]} فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ، ثمانون سنة ، لم يفارق في الحزن قلبه ، ودموعه تجري على خديه ، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب{[15311]} .
وقال هُشَيْم ، عن يونس ، عن الحسن : ثلاث وثمانون سنة .
وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، فغاب عن أبيه ثمانين{[15312]} سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، فمات وله عشرون ومائة سنة .
وقال قتادة : كان بينهما خمس وثلاثون سنة .
وقال محمد بن إسحاق : ذُكر - والله أعلم - أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة - قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين{[15313]} سنة أو نحوها ، وأن يعقوب ، عليه السلام ، بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه .
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : دخل بنو إسرائيل مصر ، وهم ثلاثة وستون إنسانا ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا .
وقال أبو إسحاق ، عن مسروق : دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون من بين رجل وامرأة . والله{[15314]} أعلم .
وقال موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن عبد الله بن شداد : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر . وهم ستة وثمانون إنسانا ، صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف .
وقوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ يعني : على السرير . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : السرير .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : العرش : السرير .
قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : السرير .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : سريره .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : عَلى العَرْشِ قال : على السرير .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ يقول : رفع أبويه على السرير .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : قال سفيان : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : على السرير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : مجلسه .
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت زيد بن أسلم ، عن قول الله تعالى : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ فقلت : أبلغك أنها خالته ، قال : قال ذلك بعض أهل العلم ، يقولون : إن أمه ماتت قبل ذلك وإن هذه خالته .
وقوله : وخَرّوا لَهُ سُجّدا يقول : وخرّ يعقوبُ وولده وأمه ليوسف سجدا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وخَرّوا لَهُ سُجّدا يقول : رفع أبويه على السرير ، وسجدا له ، وسجد له إخوته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : تَحَمّلَ يعني يعقوب بأهله حتى قدموا على يوسف فلما اجتمع إلى يعقوب بنوه دخلوا على يوسف فلما رأوه وقعوا له سجودا ، وكانت تلك تحية الملوك في ذلك الزمان أبوه وأمه وإخوته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا وكانت تحية من قبلكم ، كان بها يحييّ بعضهم بعضا ، فأعطى الله هذه الأمة السلام ، تحية أهل الجنة ، كرامة من الله تبارك وتعالى عَجّلَها لهم ونعمة منه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : وكانت تحية الناس يومئذٍ أن يسجد بعضهم لبعض .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : قال سفيان : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : كانت تحية فيهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا أبواه وإخوته ، كانت تلك تحيتهم كما تصنع ناس اليوم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : تحية بينهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : قال ذلك السجود تشرفه ، كما سجدت الملائكة لاَدم تشرفة ليس بسجود عبادة .
وإنما عنى من ذكر بقوله : إن السجود كان تحية بينهم ، أن ذلك كان منهم على الخُلُق لا على وجه العبادة من بعضهم لبعض . ومما يدلّ على أن ذلك لم يزل من أخلاق الناس قديما على غير وجه العبادة من بعضهم لبعض ، قول أعشى بني ثعلبة :
فَلَمّا أتانا بُعَيْدَ الكَرَى *** سَجَدْنا لَهُ وَرَفَعْنا العَمَارَا
وقوله : يا أبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا يقول جلّ ثناؤه : قال يوسف لأبيه : يا أبت هذا السجود الذي سجدت أنت وأمي وإخوتي لي تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ يقول : ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها . وهي رؤياه التي كان رآها قبل صنيع إخوته ما صنعوا ، أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدون . قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا يقول : قد حققها ربي لمجيء تأويلها على الصحة .
وقد اختلف أهل العلم في قدر المدّة التي كانت بين رؤيا يوسف وبين تأويلها فقال بعضهم : كانت مدة ذلك أربعين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو عثمان ، عن سلمان الفارسيّ ، قال : كان بين رؤيا يوسف إلى أن رأى تأويلها أربعون سنة .
حدثني يعقوب بن برهان ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا ابن عُليَة ، قال : حدثنا سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان النهديّ ، قال : قال عثمان : كانت بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويله ، قال : فذكر أربعين سنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : رأى تأويل رؤياه بعد أربعين عاما .
قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، مثله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن عبد الله بن شداد أنه سمع قوما يتنازعون في رؤيا رآها بعضهم وهو يصلي ، فلما انصرف سألهم عنها ، فكتموه فقال : أما إنه جاء تأويل رؤيا يوسف بعد أربعين عاما .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن ضرار بن مرّة أبي سنان ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل وجرير ، عن أبي سنان ، قال : سمعت عبد الله بن شدّاد قوما يتنازعون في رؤيا ، فذكر نحو حديث أبي السائب ، عن ابن فُضَيل .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : رأى تأويل رؤياه بعد أربعين عاما .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شداد ، قال : وقعت رؤيا يوسف بعد أربعين سنة ، وإليها تنتهي أقصى الرؤيا .
قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة .
قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين عبارتها أربعون سنة .
قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا هشيم ، عن سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة .
قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزيّ ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين تعبيرها أربعون سنة .
وقال آخرون : كانت مدة ذلك ثمانين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : حدثنا هشام ، عن الحسن ، قال : كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ، ودموعه تجري على خدّيه ، وما على وجه الأرض يومئذٍ عبد أحبّ إلى الله من يعقوب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي جعفر جسر بن فَرْقَد ، قال : كان بين أن فقد يعقوب يوسف إلى يومَ رُدّ عليه ثمانون سنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسن بن عليّ ، عن فضيل بن عياض ، قال : سمعت أنه كان بين فراق يوسف حجر يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا داود بن مهران ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : أُلقي يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن عشرين ومئة سنة .
قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، نحوه ، غير أنه قال : ثلاث وثمانون سنة .
قال : حدثنا داود بن مهران ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : ألقي يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان في العبودية وفي السجن وفي الملك ثمانين سنة ، ثم جمع الله عزّ وجلّ شمله وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : أُلقي يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة ، فغاب عن أبيه ثمانين سنة ، ثم عاش بعدما جمع الله له شمله ، ورأى تأويل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة ، فمات وهو ابن عشرين ومئة سنة .
حدثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا هشيم ، عن الحسن ، قال : غاب يوسف عن أبيه في الجبّ وفي السجن حتى التقيا ثمانين عاما ، فما جفت عينا يعقوب ، وما على الأرض أحد أكرم على الله من يعقوب .
وقال آخرون : كانت مدة ذلك ثمان عشرة سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذُكر لي والله أعلم أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثمان عشرة سنة ، قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها ، وأن يعقوب بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه .
وقوله : وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل يوسف : وقد أحسن الله بي في إخراجه إياي من السجن الذي كنت فيه محبوسا ، وفي مجيئه بكم من البدو . وذلك أن مسكن يعقوب وولده فيما ذُكر كان ببادية فِلَسْطين كذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان منزل يعقوب وولده فيما ذَكر لي بعض أهل العلم بالعَرَبات من أرض فلسطين ثغور الشام ، وبعض يقول بالأولاج من ناحية الشعب ، وكان صاحبَ بادية له إبل وشاء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا شيخ لنا أن يعقوب كان ببادية فلسطين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ وكان يعقوب وبنوه أرض كنعان أهل مواش وبرية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَجاء بِكُمْ مِنَ البَدوِ وقال : كانوا أهل بادية وماشية .
والبدو مصدر من قول القائل : بدا فلان : إذا صار بالبادية يبدو بدوا . وذُكر أن يعقوب دخل مصر هو ومن معه من أولاده وأهاليهم وأبنائهم يوم دخلوها وهم أقلّ من مئة ، وخرجوا منها يوم خرجوا منها وهم زيادة على ستّ مئة ألف . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب وعمرو بن محمد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنسانا ، صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم ، وخرجوا من مصر يوم أخرجهم فرعون وهم ستّ مئة ألف ونيف .
قال : حدثنا عمرو ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : خرج أهل يوسف من مصر وهم ستّ مئة ألف وسبعون ألفا ، فقال فرعون : إن هؤلاء لشرذمة قليلون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن إسرائيل والمسعودي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود ، قال : دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاث وستون إنسانا ، وخرجوا منها وهم ستّ مئة ألف . قال إسرائيل في حديثه . ستّ مئة ألف وسبعون ألفا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، قال : دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاث مئة وتسعون من بين رجل وامرأة .
وقوله : مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشّيْطانُ بَيْنِي وبينَ إخْوَتي يعني : من بعد أن أفسد ما بيني وبينهم وجهل بعضنا على بعض ، يقال منه : نَزَغَ الشيطان بين فلان وفلان ، يَنْزَغُ نَزْغا ونُزُوغا .
وقوله : إنّ رَبّي لَطِيفٌ لَما يَشاءُ يقول : إن ربي ذو لطف وصنع لما يشاء ، ومن لطفه وصنعه أنه أخرجني من السجن وجاء بأهلي من البدو بعد الذي كان بيني وبينهم من بُعد الدار وبعد ما كنت فيه من العبودة والرقّ والإسار . كالذي :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ رَبّي لَطِيفٌ لِمَا يَشاءُ لطف بيوسف وصنع له حتى أخرجه من السجن ، وجاء بأهله من البدو ، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته .
وقوله : إنّهُ هُوَ العَلِيمُ بمصالح خلقه ، وغير ذلك لا يخفى عليه مبادي الأمور وعواقبها . الحَكيمُ في تدبيره .
{ ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجّداً } تحية وتكرمة له فإن السجود كان عندهم يجري مجراها . وقيل معناه خروا لأجله سجدا لله شكرا . وقيل الضمير لله تعالى والواو لأبويه وإخوته والرفع مؤخر عن الخرور وإن قدم لفظا للإهتمام بتعظيمه لهما . { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } التي رأيتها أيام الصبا . { وقد جعلها ربي حقا } صدقا . { وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن } ولم يذكر الجب لئلا يكون تثريبا عليهم . { وجاء بكم من البدو } من البادية لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو . { من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي } أفسد بيننا وحرش ، من نزغ الرائض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري . { إن ربي لطيف لما يشاء } لطيف التدبير له إذا ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ويتسهل دونها . { إنه هو العليم } بوجود المصالح والتدابير . { الحكيم } الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة . روي : أن يوسف طاف بأبيه عليهما الصلاة السلام في خزائنه فلما أدخله خزانة القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلى على ثمان مراحل قال : أمرني جبريل عليه السلام قال : أو ما تسأله قال : أنت أبسط مني إليه فاسأله فقال جبريل : الله أمرني بذلك . لقولك : { وأخاف أن يأكله الذئب } قال فهلا خفتني .
و { العرش } : سرير الملك ، وكل ما عرش فهو عريش وعرش ، وخصصت اللغة العرش لسرير الملك ، و { خروا } معناه : تصوبوا إلى الأرض ، واختلف في هذا السجود ، فقيل : كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض ، وقيل : بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان ، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود - على أي هيئة كان - فإنما كان تحية لا عبادة . قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم . وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة . وقال الحسن : الضمير في { له } لله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : ورد على هذا القول{[6838]} .
وحكى الطبري : أن يعقوب لما بلغ مصر في جملته كلم يوسف فرعون في تلقيه فخرج إليه وخرج الملوك معه فلما دنا يوسف من يعقوب وكان يعقوب يمشي متوكئاً على يهوذا - قال : فنظر يعقوب إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، هذا فرعون مصر ، قال : لا هو ابنك ، قال : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام ، فمنعه يعقوب من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل ، فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان .
قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القصص ، وفي هذا الوقت قال يوسف ليعقوب : إن فرعون قد أحسن إلينا فادخل عليه شاكراً ، فدخل عليه ، فقال فرعون : يا شيخ ما مصيرك إلى ما أرى ؟ قال : تتابع البلاء عليّ . قال : فما زالت قدمه حتى نزل الوحي : يا يعقوب ، أتشكوني إلى من لا يضرك ولا ينفعك ؟ قال : يا رب ذنب فاغفره . وقال أبو عمرو الشيباني : تقدم يوسف يعقوب في المشي في بعض تلك المواطن فهبط جبريل فقال له : أتتقدم أباك ؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي .
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100 )
المعنى : قال يوسف ليعقوب : هذا السجود الذي كان منكم ، هو ما آلت إليه رؤياي قديماً في الأحد عشر كوكباً وفي الشمس والقمر .
وقوله : { قد جعلها ربي حقاً } ابتداء تعديد نعم الله تعالى عليه ، وقوله : { وقد أحسن بي } ، أي أوقع وناط إحسانه بي . فهذا منحى في وصول الإحسان بالباء ، وقد يقال : أحسن إليَّ ، وأحسن فيّ ، ومنه قول عبد الله بن أبي ابن سلول : يا محمد أحسن في مواليّ ؛ وهذه المناحي مختلفة المعنى ، وأليقها بيوسف قوله : { بي } لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد هو الغاية التي صار إليها{[6839]} .
وذكر يوسف عليه السلام إخراجه من السجن ، وترك إخراجه من الجب لوجهين .
أحدهما : أن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس{[6840]} .
والوجه الآخر : أنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا أوضح{[6841]} .
وقوله : { وجاء بكم من البدو } يعم جمع الشمل والتنقل من الشقاوة إلى النعمة بسكنى الحاضرة ، وكان منزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام في بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية{[6842]} .
و { نزغ } معناه : فعل فعلاً أفسد به ، ومنه قول النبي عليه السلام : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده »{[6843]} .
وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم ، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعاً .
وقوله : { لما يشاء } أي من الأمور أن يفعله ، واختلف الناس في كم كان بين رؤيا يوسف وبين ظهورها : فقالت فرقة أربعون سنة - هذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد ، وقال عبد الله بن شداد : ذلك آخر ما تبطىء الرؤيا - وقالت فرقة - منهم الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض - ثمانون سنة . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر ، وقيل : اثنان وعشرون قاله النقاش - وقيل : ثلاثون ، وقيل : خمس وثلاثون - قاله قتادة - وقال السدي وابن جبير : ستة وثلاثون سنة . وقيل : إن يوسف عليه السلام عمر مائة وعشرين سنة . وقيل : إن يعقوب بقي عند يوسف نيفاً على عشرين سنة ثم توفي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه ، وأراد من صورة جمعهم - لا إله إلا هو - وقال النقاش : كان ذلك الوحي في الجب ، وهو قوله تعالى : { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ يوسف : 15 ] وهذا محتمل .
ومما روي في أخبار يعقوب عليه السلام : قال الحسن : إنه لما ورده البشير لم يجد عنده شيئاً يثيبه به فقال له : والله ما أصبت عندنا شيئاً ، وما خبرنا منذ سبه ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت .
ومن أخباره : أنه لما اشتد بلاؤه وقال : يا رب أعميت بصري وغيبت عني يوسف ، أفما ترحمني ؟ فأوحى الله إليه : سوف أرحمك وأرد عليك ولدك وبصرك ، وما عاقبتك بذلك إلا أنك طبخت في منزلك حملاً فشمه جار لك ولم تساهمه بشيء ، فكان يعقوب بعد يدعوه إلى غدائه وعشائه . وحكى الطبري : أنه لما اجتمع شمله كلفه بنوه أن يدعو الله لهم حتى يأتي الوحي بأن الله قد غفر لهم . قال : فكان يعقوب يصلي ويوسف وراءه وهم وراء يوسف ، ويدعو لهم فلبث كذلك عشرين سنة ثم جاءه الوحي : إني قد غفرت لهم وأعطيتهم مواثيق النبوة بعدك . ومن أخباره : أنه لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يدفنه بالشام ، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام ، ثم مات يوسف فدفن بمصر ، فلما خرج موسى - بعد ذلك - من أرض مصر احتمل عظام يوسف حتى دفنها بالشام مع آبائه .