تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

{ 46 - 50 } { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ * قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }

أي { قُلْ } يا أيها الرسول ، لهؤلاء المكذبين المعاندين ، المتصدين لرد الحق وتكذيبه ، والقدح بمن جاء به : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : بخصلة واحدة ، أشير عليكم بها ، وأنصح لكم في سلوكها ، وهي طريق نصف ، لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي ، ولا إلى ترك قولكم ، من دون موجب لذلك ، وهي : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } أي : تنهضوا بهمة ، ونشاط ، وقصد لاتباع الصواب ، وإخلاص للّه ، مجتمعين ، ومتباحثين في ذلك ، ومتناظرين ، وفرادى ، كل واحد يخاطب نفسه بذلك .

فإذا قمتم للّه ، مثنى وفرادى ، استعملتم فكركم ، وأجلتموه ، وتدبرتم أحوال رسولكم ، هل هو مجنون ، فيه صفات المجانين من كلامه ، وهيئته ، وصفته ؟ أم هو نبي صادق ، منذر لكم ما يضركم ، مما أمامكم من العذاب الشديد ؟

فلو قبلوا هذه الموعظة ، واستعملوها ، لتبين لهم أكثر من غيرهم ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ليس بمجنون ، لأن هيئاته{[741]}  ليست كهيئات المجانين ، في خنقهم ، واختلاجهم ، ونظرهم ، بل هيئته أحسن الهيئات ، وحركاته أجل الحركات ، وهو أكمل الخلق ، أدبا ، وسكينة ، وتواضعا ، ووقارا ، لا يكون [ إلا ] لأرزن الرجال عقلا .

ثم [ إذا ] تأملوا كلامه الفصيح ، ولفظه المليح ، وكلماته التي تملأ القلوب ، أمنا ، وإيمانا ، وتزكى النفوس ، وتطهر القلوب ، وتبعث على مكارم الأخلاق ، وتحث على محاسن الشيم ، وترهب{[742]}  عن مساوئ الأخلاق ورذائلها ، إذا تكلم رمقته العيون ، هيبة وإجلالا وتعظيما .

فهل هذا يشبه هذيان المجانين ، وعربدتهم ، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم ؟ "

فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلام هل هو رسول اللّه أم لا ؟ سواء تفكر وحده ، أو مع غيره ، جزم بأنه رسول اللّه حقا ، ونبيه صدقا ، خصوصا المخاطبين ، الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره .


[741]:- في ب: هيئته.
[742]:- في ب: وتزجر
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

قوله تعالى : " قل إنما أعظكم بواحدة " تمم الحجة على المشركين ، أي قل لهم يا محمد : " إنما أعظكم " أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه . " بواحدة " أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام ، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد : هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي . وعن مجاهد أيضا : بطاعة الله . وقيل : بالقرآن ؛ لأنه يجمع كل المواعظ . وقيل : تقديره بخصلة واحدة ، " أن تقوموا لله مثنى وفرادى " " أن " في موضع خفض على البدل من " واحدة " ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أي هي أن تقوموا . ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا . وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود ، وهو كما يقال : قام فلان بأمر كذا ؛ أي لوجه الله والتقرب إليه . وكما قال تعالى : " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " {[13072]} [ النساء : 127 ] . " مثنى وفرادى " أي وحدانا ومجتمعين . قاله السدي . وقيل : منفردا برأيه ومشاورا لغيره ، وهذا قول مأثور . وقال القتبي : مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه ، وكله متقارب . ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل ؛ لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد ، قاله الماوردي . وقيل : إنما قال : " مثنى وفرادى " لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل ، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله ، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة ، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد . والله أعلم . " ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على " ثم تتفكروا " . وقيل : ليس هو بوقف لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا ، أو رأيتم فيه جنة ، أو في أحواله من فساد ، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر ، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب ، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم ، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة ؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة . " إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد " وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الأقربين " [ الشعراء : 214 ] ورهطك منهم المخلصين{[13073]} ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف : يا صباحاه{[13074]} ؟ فقالوا : من هذا الذي يهتف ! ؟ قالوا محمد ؛ فاجتمعوا إليه فقال : ( يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ) ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا . قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . قال فقال أبو لهب : تبا لك ! أما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قال فنزلت هذه السورة : " تبت يدا أبي لهب وتب " {[13075]} [ المسد : 1 ] كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة .


[13072]:راجع ج 5 ص 402.
[13073]:قال القسطلاني في قوله "ورهطك منهم المخلصين": هو من عطف الخاص على العام، وكان قرآنا فنسخت تلاوته.
[13074]:قوله:" يا صباحاه" بسكون الهاء، وهي كلمة يقولها المستغيث، وأصلها إذا صاحوا للغارة لأنهم أكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح، ويسمون الغارة يوم الصباح.
[13075]:راجع ج 20 ص 234.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

{ قل إنما أعظكم بواحدة } أي : بقضية واحدة تقريبا عليكم .

{ أن تقوموا لله } هذا تفسير القضية الواحدة ، و{ أن تقوموا } بدل أو عطف بيان أو خبر ابتداء مضمر ، ومعناه أن تقوموا للنظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم قياما خالصا لله تعالى ليس فيه اتباع هوى ولا ميل ، وليس المراد بالقيام هنا القيام على الرجلين إنما المراد القيام بالأمر والجد فيه .

{ مثنى وفرادى } حال من الضمير في { تقوموا } ، والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلب التحقيق وتقوموا واحدا واحدا لإحضار الذهن واستجماع الفكرة ثم تتفكروا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا أن ما به من جنة لأنه جاء بالحق الواضح ، ومع ذلك فإن أقواله وأفعاله تدل على رجاحة عقله ومتانة علمه ، وأنه بلغ في الحكمة مبلغا عظيما ، فيدل ذلك على أنه ليس بمجنون ولا مفتر على الله .

{ ما بصاحبكم من جنة } متصل بما قبله على الأصح أي : تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ، وقيل : هو استئناف .