{ 21 } { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }
أي : أم حسب المسيئون المكثرون من الذنوب المقصرون في حقوق ربهم { أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بحقوق ربهم ، واجتنبوا مساخطه ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم ؟ أي : أحسبوا أن يكونوا { سَوَاءً } في الدنيا والآخرة ؟ ساء ما ظنوا وحسبوا وساء ما حكموا به ، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين ، ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة ، ويضاد ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرسل ، بل الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب في العاجل والآجل كل على قدر إحسانه ، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى : " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " أي اكتسبوها . والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وقد تقدم في " المائدة " {[13787]} . " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الكلبي : " الذين اجترحوا " عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة . و " الذين آمنوا " علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم . وقيل : نزلت في قوم من المشركين قالوا : إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن ، كما أخبر الرب عنهم في قوله : " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " {[13788]} [ فصلت : 50 ] . وقوله : " أم حسب " استفهام معطوف معناه الإنكار . وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب . وقوم يقولون : فيه إضمار ، أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم . وقيل : هي أم المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان . وقراءة العامة " سواء " بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم ، أي محياهم ومماتهم سواء . والضمير في " محياهم ومماتهم " يعود على الكفار ، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب ، واختاره أبو عبيد قال : معناه نجعلهم سواء . وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر " ومماتهم " بالنصب ، على معنى سواء في محياهم ومماتهم ، فلما أسقط الخافض انتصب . ويجوز أن يكون بدلا من الهاء والميم في نجعلهم . المعنى : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم . ويجوز أن يكون الضمير في " محياهم ومماتهم " للكفار والمؤمنين جميعا . قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا . وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال : قال رجل من أهل مكة : هذا مقام تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية كلها . وقال بشير : بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعْدُهَا ببكاء شديد . وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها ، ثم يقول : ليت ، شعري ! من أي الفريقين أنت ؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين ؛ لأنها محكمة .
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا } : { أم } هنا للإنكار ، و{ اجترحوا } اكتسبوا ، والمراد ب{ الذين اجترحوا السيئات } الكفار لمقابلته بالذين آمنوا ، ولأن الآية مكية : وقد يتناول لفظها المذنبين من المؤمنين ، ولذلك يذكر أن الفضيل بن عياض قرأها بالليل فما زال يرددها ويبكي طول الليل ويقول لنفسه : من أي الفريقين أنت ، ومعناها : إنكار ما حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات ، وفي تأويلها مع ذلك قولان :
أحدهما : أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار لا في المحيا ولا في الممات ، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة ، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء . والقول الآخر : أنهم استووا في المحيا في أمور الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات ، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون ، فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة ، وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } [ القلم : 35 ] وكقوله : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] .
{ سواء محياهم ومماتهم } هذه الجملة بدل من الكاف في قوله : ك{ الذين آمنوا } وهي مفسرة للتشبيه ، وهي داخلة فيما أنكره الله مما حسبه الكفار وقيل : هي كلام مستأنف ؛ والمعنى على هذا أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وأن محيا الكفار ومماتهم سواء ؛ لأن كل واحد يموت على ما عاش عليه ، وهذا المعنى على هذا بعيد ، والصحيح أنها من تمام ما قبلها على المعنى الذي اخترناه ، وأما إعرابها فمن قرأ سواء بالرفع فهو مبتدأ وخبره محياهم ومماتهم والجملة بدل من الجار والمجرور الواقع مفعولا ثانيا لنجعل ، ومن قرأ سواء بالنصب فهو حال أو مفعول ثان لنجعل ، ومحياهم فاعل بسواء ، لأنه في معنى مستو .
{ ساء ما يحكمون } أي : ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.