تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

ثم قال تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } يعني : أو مثلهم كصيب ، أي : كصاحب صيب من السماء ، وهو المطر الذي يصوب ، أي : ينزل بكثرة ، { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمات المطر ، { وَرَعْدٌ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب ، { وَبَرْقٌ } وهو الضوء [ اللامع ] المشاهد مع{[59]}  السحاب .


[59]:- في ب: من.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

1

ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة :

( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير ) . .

إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) . . ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) . . ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .

إن الحركة التي تغمر المشهد كله : من الصيب الهاطل ، إلى الظلمات والرعد والبرق ، إلى الحائرين المفزعين فيه ، إلى الخطوات المروعة الوجلة ، التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } .

عطف على التمثيل السابق وهو قوله : { كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده ، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين ، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار ، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه .

وقد استقريْتُ من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرىء القيس في معلقته :

أصاحِ ترى برقاً أُريك وميضَه *** كلمعِ اليدين في حَبِيٍّ مُكَلَّل

يُضيءُ سَناه أو مصابيحِ راهب *** أَمال السليطَ بالذُّبال المُفَتَّل

وقوللِ لَبيد في معلقته يصف راحلته :

فلها هِبَاب في الزمام كأنها *** صهباءُ خفَّ مع الجَنوب جَهَامها{[89]}

أو مُلْمِعٌ وسَقَتْ لأَحْقَبَ لاَحَه *** طَرْدُ الفُحول وضَرْبُها وكِدَامُها

وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو ، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما :

أَفتلك أم وحْشية مسبوعة *** خذلت وهادية الصِّوار قِوامها{[90]}

وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث :

وثْبَ المُسَحَّجِ من عَانَاتِ مَعْقُلَةٍ *** كأنَّه مستبان الشَّكِّ أو جَنِـبُ

ثم قال : أذاك أم نَمِشٌ بالوشْي أَكْرُعُـه *** مسفَّع الخَد غَادٍ نَاشِعٌ شَبَـبُ

ثم قال : أَذاك أم خاضب بالسَّيِّ مَرْتَعُه *** أبو ثلاثين أَمسى وهو مُنْقلب{[91]}

وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } [ الزمر : 29 ] الآية ثم قال : { وضرب الله مَثَلاً رجلين } [ النحل : 76 ] الآية . وقوله : { ما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور } [ فاطر : 19 21 ] الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى : { حتى جعلناهم حصيداً خامدين } [ الأنبياء : 15 ] وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفرداً تعز استطاعةُ تكريره .

و { أو } عطفت لفظ { صيب } على { الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بتقدير مَثَل بين الكاف وصيب . وإعادةُ حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل ، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسَّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه وهم في الغالب لا يكررونه في العطف .

والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة ، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالى : { مَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بنوع إطلاق وتقييد .

فقوله : { أَو كصيب } تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله : { كمثل الذي استوقد } دل على تقدير قوم قوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } وقولُه : { يخطف أبصارهم } [ البقرة : 20 ] . الآية ، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يَجيء فيه ما جازَ في قوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] الخ . فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانِّين في مساكنهم كما عُلم ذلك من قوله : { كلَّما أضاءَ لهم مشَوْا فيه } [ البقرة : 20 ] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مِمَّا اتصل به من الرعد والصواعف ضُر ولم ينفع المارين بها وأضرَّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق ، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغَيث وارد . وفي الحديث الصحيح : " مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى كمثل الغيث أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ " الخ . وفي القرآن : { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } [ الحديد : 20 ] . ولا تَجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني ، ومنه أخذ أبو الطيب قوله :

فتى كالسحاب الجَوْن يُرجَى ويُتَّقَى *** يُرَجَّى الحَيَا منه وتُخْشى الصواعق

والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر ، والرعد لقوارع القرآن وزواجره ، والبَرْق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل .

والصيب فيعل من صاب يصوب صوباً إذا نزل بشدة ، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل .

والظاهر أن قوله : { من السماء } ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرىء القيس :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كجلمود صخرٍ حَطَّه السيل من عَلٍ

إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير ، وكقوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } [ الأنعام : 71 ] وقال تعالى : { فأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] .

والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء ، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى : { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } [ إبراهيم : 24 ] وتطلق على السحاب ، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء " الخ ، ولما كان تكوُّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن .

ويمكن أن يكون قوله : { من السماء } تقييداً للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في « الكشاف » على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله : { من السماء } قيداً للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عالياً كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع .

وضمير { فيه } عائد إلى { صيب } والظرفية مجازية بمعنى معه ، والظلمات مضى القول فيه آنفاً .

والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطراً وبرقاً وتسمى سارية . والرعد أصوات تنشأ في السحاب . والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب ، والرعدُ والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤُها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء ، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق .

وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواماً وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار ، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم .


[89]:- الهباب - بكسر الهاء- مصدر كالهبوب ووهو النهوض والنشاط. والصهباء : السحابة المائل لونها للسواد. والجهام: السحاب لا مطر فه وهو خفيف السير. زالملمع: التي استبان حملها. وأراد الأتان. ووسقت: حملت. والأحقب: هو حمار الوحش وقوله لأحقب أي من أحقب. ولاحه: غيره. وطرد الفحول: خصامها. والكدام: - بكسر الكاف- العض.
[90]:- المسبوعة: التي أكل السبع ولدها. وخذلت بمعنى تأخرت عن صواحبها في الرواح. والهدية المقدمة. والصوار- بكسر الصاد- قطيع الغنم. والقوام – بكسر القاف- ما به يقوم الأمر أي تأخرت النعجة الوحشية ولم تهتد بمقدمة القطيع.
[91]:- قوله أذاك: الإشارة إلى حمار الوحش في الأبيات قبله، وهو الذي أراده بالمسحج. والمسحج: المكدوم وهو من الصفات الغالبة على حمار الوحش لأنه لا ييخلو من كدام في جلده من العراك من الحمر، والنمش- بكسر الميم- الذي به النمش بفتحها وهو نقط بيض وسود، وأراد به الثور الوحشي، والوشى: التخطيط. والمسفع: الأسود. والشيب: المسن من ثيران الوحش. وقوله خاضب أراد ذكر النعام فإ،ه إذا أكل بقل الربيع احمرت ساقاه. والسي – بكسر السين وتشديد الياء- المستوى من الأرض. وأبو ثلاثين أي له ثلاثون فرخا وذلك عدد ما يبيض النعام. ومنقلب: راجع لفراخه فهو شديد السير.