{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
قد اشتملت الآية الأولى على معجزة ، وتسلية ، وتطمين قلوب المؤمنين ، واعتراض وجوابه ، من ثلاثة أوجه ، وصفة المعترض ، وصفة المسلم لحكم الله دينه .
فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس ، وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم ، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن ، وهم اليهود والنصارى ، ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه ، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس ، مدة مقامهم بمكة ، ثم بعد الهجرة إلى المدينة ، نحو سنة ونصف - لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها ، وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة ، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس : { مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } وهي استقبال بيت المقدس ، أي : أيُّ شيء صرفهم عنه ؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه ، وفضله وإحسانه ، فسلاهم ، وأخبر بوقوعه ، وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه ، قليل العقل ، والحلم ، والديانة ، فلا تبالوا بهم ، إذ قد علم مصدر هذا الكلام ، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه ، ولا يلقي له ذهنه . ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله ، إلا سفيه جاهل معاند ، وأما الرشيد المؤمن العاقل ، فيتلقى أحكام ربه بالقبول ، والانقياد ، والتسليم كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية ، { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وقد كان في قوله { السفهاء } ما يغني عن رد قولهم ، وعدم المبالاة به .
ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة ، حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض ، فقال تعالى : { قُلْ } لهم مجيبا : { لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله ، ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه ، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم ، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله ، لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له ؟ فهذا يوجب التسليم لأمره ، بمجرد ذلك ، فكيف وهو من فضل الله عليكم ، وهدايته وإحسانه ، أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم ، معترض على فضل الله ، حسدا لكم وبغيا .
ولما كان قوله : { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } والمطلق يحمل على المقيد ، فإن الهداية والضلال ، لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله ، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية ، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية ، ومنة الله عليها فقال :
الحديث في هذا الدرس يكاد يقتصر على حادث تحويل القبلة ، والملابسات التي أحاطت به ، والدسائس التي حاولها اليهود في الصف المسلم بمناسبته ، والأقاويل التي أطلقوها من حوله ؛ ومعالجة آثار هذه الأقاويل في نفوس بعض المسلمين ، وفي الصف المسلم على العموم .
ولا توجد رواية قطعية في هذا الحادث ، كما أنه لا يوجد قرآن يتعلق بتاريخه بالتفصيل . والآيات الخاصة به هنا تتعلق بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وكان هذا في المدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرا من الهجرة .
ومجموع الروايات المتعلقة بهذا الحادث يمكن أن يستنبط منها - بالإجمال - أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فرضت الصلاة - وليس في هذا نص قرآني - وأنهم بعد الهجرة وجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول [ ص ] يرجح أنه أمر غير قرآني . ثم جاء الأمر القرآني الأخير : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . . فنسخه .
وعلى أية حال فقد كان التوجه إلى بيت المقدس - وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى - سببا في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام ، إذ أطلقوا في المدينة ألسنتهم بالقول ، بأن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتهم في الصلاة دليل على أن دينهم هو الدين ، وقبلتهم هي القبلة ؛ وأنهم هم الأصل ، فأولى بمحمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام !
وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقا على المسلمين من العرب ، الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام ؛ وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم . وزاد الأمر مشقة ما كانوا يسمعونه من اليهود من التبجح بهذا الأمر ، واتخاذه حجة عليهم !
وكان الرسول [ ص ] يقلب وجهه في السماء متجها إلى ربه ، دون أن ينطق لسانه بشيء ، تأدبا مع الله ، وانتظارا لتوجيهه بما يرضاه . .
ثم نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول [ ص ] : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .
وتقول الروايات : إن هذا كان في الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة ، وإن المسلمين حينما سمعوا بتحويل القبلة ، كان بعضهم في منتصف صلاة ، فحولوا وجوهم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم ، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة .
عندئذ انطلقت أبواق يهود - وقد عز عليهم أن يتحول محمد [ ص ] والجماعة المسلمة عن قبلتهم ، وأن يفقدوا حجتهم التي يرتكنون إليها في تعاظمهم وفي تشكيك المسلمين في قيمة دينهم - انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم بذور الشك والقلق في قيادتهم وفي أساس عقيدتهم . . قالوا لهم : إن كان التوجه - فيما مضى - إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة ؛ وإن كانت حقا فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل ، وضائعة صلاتكم إليه كلها . . وعلى أية حال فإن هذا النسخ والتغيير للأوامر - أو للآيات - لا يصدر من الله ، فهو دليل على أن محمدا لا يتلقى الوحي من الله !
وتتبين لنا ضخامة ما أحدثته هذه الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف الإسلامي من مراجعة ما نزل من القرآن في هذا الموضوع ، منذ قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسهاط ) -وقد استغرق درسين كاملين في الجزء الأول - ومن مراجعة هذا الدرس في هذا الجزء أيضا . ومن التوكيدات والإيضاحات والتحذيرات التي سندرسها فيما يلي تفصيلا عند استعراض النص القرآني .
أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة ، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة بهم يتجهون إليها . فقد كان هذا حادثا عظيما في تاريخ الجماعة المسلمة ، وكانت له آثار ضخمة في حياتها . .
لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس :
( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) . . فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم ، ويعدونه عنوان مجدهم القومي . . ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله ، وتجريدها من التعلق بغيره ، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة ، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم . . فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام ، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى ، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية ، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية ، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر ، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة ، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ ؛ أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد . .
حتى إذا استسلم المسلمون ، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول [ ص ] وفي الوقتذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم ، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام . ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه . هي حقيقة الإسلام . حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله ، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم بالإسلام ، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته . . كما مر في درس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) . . في الجزء الماضي .
ولقد كان الحديث عن المسجد الحرام : بنائه وعمارته ، وما أحاط بهما من ملابسات ؛ والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه ودينه وقبلته ، وعهده ووصيته . . كان هذا الحديث الذي سلف في هذه السورة خير تمهيد للحديث عن تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بعد هذه الفترة . فتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل ، ودعوا عنده ذلك الدعاء الطويل . . يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعي المنطقي مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده مع ربه . فهو الاتجاه الحسي المتساوق مع الاتجاه الشعوري ، الذي ينشئه ذلك التاريخ .
لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين ؛ وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده ، كما عهد به يعقوب - وهو إسرائيل - ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين .
ولقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت الحرام . . فهو تراث لهما ، يرثه من يرثون عهد الله إليهما . . والأمة المسلمة هي الوارثة لعهد الله مع إبراهيم وإسماعيل ولفضل الله عليهما ؛ فطبيعي إذن ومنطقي أن ترث بيت الله في مكة ، وأن تتخذ منه قبلة .
فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى ، الذي يتجه إليه اليهود والنصارى ، فقد كان هذا التوجه لحكمة خاصة هي التي أشار إليها السياق ، وبيناها فيما سبق . فالأن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة ، وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم - وهو الإسلام - فيشاركوا في هذه الوراثة . . الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه . تحويلها إلى بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم . لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة . حسيها وشعوريها ، وراثة الدين ، ووراثة القبلة ، ووراثة الفضل من الله جميعا .
إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة : الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد ؛ والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة . وهذه كتلك لا بد من التميز فيها والاختصاص . وقد يكون الأمر واضحا فيما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة . . هنا تعرض التفاتة إلى قيمة أشكال العبادة .
إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها ، ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها . . ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئا من التعصب الضيق ، أو شيئا من التعبد للشكليات ! ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة ، وإدراكا أعمق لطبيعة الفطرة ، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار .
إن في النفس الإنسانية ميلا فطريا - ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب - إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة . فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس ؛ وبذلك يتم التعبير عنها . يتم في الحس كما تم في النفس . فتهدأ حينئذ وتستريح ؛ وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا ؛ وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن ؛ وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان .
وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها . فهي لا تؤدي بمجرد النية ، ولا بمجرد التوجه الروحي . ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا : قياما واتجاها إلى القبلة وتكبيرا وقراءة وركوعا وسجودا في الصلاة . وإحراما من مكان معين ولباسا معينا وحركة وسعيا ودعاء وتلبية ونحرا وحلقا في الحج . ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم . . وهكذا في كل عبادة حركة ، وفي كل حركة عبادة ، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها ، وينسق بين طاقاتها ، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص .
ولقد علم الله أن الرغبة الفطرية في اتخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة هي التي حادت بالمنحرفين عن الطريق السليم . فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوة الكبرى برموز محسوسة مجسمة من حجر وشجر ، ومن نجوم وشمس وقمر ، ومن حيوان وطير وشيء . . حين اعوزهم أن يجدوا متصرفا منسقا للتعبير الظاهر عن القوى الخفية . . فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة ، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة . فيتوجه الفرد إلى قبلة حين يتوجه إلى الله بكليته . . بقلبه وحواسه وجوارحه . . فتتم الوحدة والاتساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان ؛ وإن يكن الإنسان يتخذ له قبلة من مكان !
ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه . . فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد ؛ كما أنه بدوره ينشىء شعورا بالامتياز والتفرد .
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم ، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء . ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات . وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات . كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة . وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم ، وعقلية عن عقلية ، وتصورا عن تصور ، وضميرا عن ضمير ، وخلقا عن خلق ، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : إن رسول الله [ ص ] قال : " إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم " .
وقال رسول الله [ ص ] وقد خرج على جماعة فقاموا له : " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها " .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " .
نهى عن تشبه في مظهر أو لباس . ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك . ونهى عن تشبه في قول أو أدب . . لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور ، ومنهجا في الحياة عن منهج ، وسمة للجماعة عن سمة .
ثم هو نهى عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض . نهى عن الهزيمةالداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض . فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين . والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية ؛ فينبغي لها أن تستمد تقاليدها - كما تستمد عقيدتها - من المصدر الذي اختارها للقيادة . . والمسلمون هم الأعلون . وهم الأمة الوسط . وهم خير أمة أخرجت للناس . فمن أين إذن يستمدون تصورهم ومنهجهم ؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم ؟ إلا يستمدوها من الله فهم سيستمدونها من الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه !
ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور ، وأقوم منهج في الحياة . فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه . وما كان تعصبا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو لا على أي أساس آخر ؛ وعلى منهجه هو لا على أي منهج آخر ؛ وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى . فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله ، والوحدة في الأرفع من التصور ، والوحدة في الأفضل من النظام ، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله ، والتردي في مهاوي الجاهلية . . ليس متعصبا . أو هو متعصب . ولكن للخير والحق والصلاح !
والجماعة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه . إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة . فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز . رمز للتميز والاختصاص . تميز التصور ، وتميز الشخصية ، وتميز الهدف ، وتميز الاهتمامات ، وتميز الكيان .
والأمة المسلمة - اليوم - بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعا ، وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعا ، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعا ، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعا . . الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة ؛ والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة ؛ والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور ؛ والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده ، فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها . .
إن هذه العقيدة منهج حياة كامل . وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة ، الشهيدة على الناس ، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله . . وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان ، وفي الأهداف والاهتمامات ، وفي الراية والعلامة . وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له ، وأخرجت للناس من أجله . وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار ، مبهمة الملامح ، مجهولة السمات ، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام !
ثم نعود من هذا الاستطراد بمناسبة تحويل القبلة لنواجه النصوص القرآنية بالتفصيل :
( سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ قل : لله المشرق والمغرب . يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا . وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله . وما كان الله ليضيع إيمانكم . إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) .
من السياق القرآني ومن سياق الأحداث في المدينة يتضح أن المقصود بالسفهاء هم اليهود . فهم الذين أثاروا الضجة التي أثيرت بمناسبة تحويل القبلة كما أسلفنا . وهم الذين أثاروا هذا التساؤل : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ) وهي المسجد الأقصى .
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : أول ما قدم رسول الله [ ص ] المدينة نزل على أجداده - أو قال أخواله - من الأنصار ؛ وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا ؛ أو سبعة عشر شهرا ؛ وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر ؛ وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن صلى معه ، فمر على أهل مسجد وهم راكعون . فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله [ ص ] قبل الكعبة ، فداروا كما هم قبل البيت . وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك ، فنزلت : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء . . . )فقال السفهاء - وهم اليهود – ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) .
وسنلاحظ أن علاج القرآن لهذا التساؤل ولتلك الفتنة يشي بضخامة آثار تلك الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف المسلم في ذلك الحين . .
والذي يظهر من صيغة التعبير هنا :
( سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ) .
أن هذا كان تمهيدا لإعلان تحويل القبلة في المقطع التالي في هذا الدرس ، وأخذا للطريق على الأقاويل والتساؤلات التي علم الله أن السفهاء سيطلقونها . . أو كان ردا عليها بعد إطلاقها ، - كما جاء في الحديث السابق - اتخذ هذه الصيغة للإيحاء بأن ما قالوه كان مقدرا أمره ، ومعروفة خطته ، ومعدة إجابته . وهي طريقة من طرق الرد أعمق تأثيرا .
وهو يبدأ في علاج آثار هذا التساؤل ، والرد عليه بتلقين الرسول [ ص ] ما يواجههم به ، ويقر به الحقيقة في نصابها ؛ وفي الوقت نفسه يصحح التصور العام للأمور .
( قل : لله المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
إن المشرق لله والمغرب لله . فكل متجه فهو إليه في أي اتجاه . فالجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها . إنما يفضلها ويخصصها اختيار الله وتوجيهه . . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . فإذا اختار لعباده وجهة ، واختار لهم قبلة ، فهي إذن المختارة . وعن طريقها يسيرون إلى صراط مستقيم . .
بذلك يقرر حقيقة التصور للأماكن والجهات ، وحقيقة المصدر الذي يتلقى منه البشر التوجهات ، وحقيقة الاتجاه الصحيح وهو الاتجاه إلى الله في كل حال .
{ سيقول السفهاء من الناس } الذين خفت أحلامهم ، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر . يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين . وفائدة تقديم الإخبار به توطين النفس وإعداد الجواب وإظهار المعجزة . { ما ولاهم } ما صرفهم . { عن قبلتهم التي كانوا عليها } يعني بيت المقدس ، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال ، فصارت عرفا للمكان المتوجه نحوه للصلاة { قل لله المشرق والمغرب } لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه ، وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } وهو ما ترتضيه الحكمة ، وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة ، والكعبة أخرى .
قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بَعْدَها لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة وهي استقبال بيت المقدس وأنَّ التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لِمَا هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين فإن السورة نزلت متتابعة ، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلاّ ما ثبت أنه نزل متأخراً ويتلى متقدماً .
والظاهر أن المراد بالقبلة المحولة القبلةُ المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرقَ وهي قبلة اليهود ، ولم يشف أحد من المفسرين وأصحاب « أسباب النزول » الغليل في هذا ، على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها .
والذي استقر عليه فهمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبةٌ بديعة وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته ، والكعبة وأن من يرغب عنها قد سفِه نفسه ، فكانت مثاراً لأن يقول المشركون ، ما ولَّى محمداً وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول إنه على ملة إبراهيم ويأبى عن إتباع اليهودية والنصرانية ، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس ؟ ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله : { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] . وقوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] كما ذكرناه هنالك ، وقد علم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وأتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله بعد الآيات المثيرة له وقبل الآيات التي أُنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة ، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلاً بعد مقالة المشركين فيشمخوا بأنوفهم يقولون غيَّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط ، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } [ البقرة : 144 ] الآيات ، لأن مقالة المشركين أو توقُّعَها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشىء عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة .
فالمراد بالسفهاء المشركون ويدل لذلك تبيينه بقوله { من الناس ، } فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون كما روي ذلك عن ابن عباس ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب لأنه لو كان ذلك لَنَاسب أن يقال سيقولون بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريباً من الآي السابقة إلى قوله : { ولا تسألون } [ البقرة : 134 ، 141 ] الآية . ويعضدنا في هذا ما ذكر الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن أن المراد بالسفهاء المشركون وذكر القرطبي أنه قول الزجاج ، ويجوز أن يكون المراد بهم المنافقين وقد سبق وصفهم بهذا في أول السورة فيكون المقصود المنافقين الذين يبطنون الشرك ، والذي يبعثهم على هذا القول هو عين الذي يبعث المشركين عليه وقد روي عن السدي أن السفهاء هنا هم المنافقون .
أما الذين فسروا { السفهاء } باليهود فقد وقعوا في حيرة من موقع هذه الآية لظهور أن هذا القول ناشىء عن تغيير القبلة إلى بيت المقدس وذلك قد وقع الإخبار به قبل سماع الآية الناسخة للقبلة لأن الأصل موافقة التلاوة للنزول فكيف يقول السفهاء هذا القول قبل حدوث داع إليه لأنهم إنما يطعنون في التحول عن استقبال بيت المقدس لأنه مسجدهم وهو قبلتهم في قول كثير من العلماء ، ولذلك جزم أصحاب هذا القول بأن هذه الآية نزلت بعد نسخ استقبال بيت المقدس ورووا ذلك عن مجاهد وروى البخاري في كتاب الصلاة من طريق عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء حديث تحويل القبلة ووقع فيه « فقال السفهاء وهم اليهود { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ، وأخرجه في كتاب الإيمان من طريق عمرو بن خالد عن زهير عن أبي إسحاق عن البراء بغير هذه الزيادة ، ولكن قال عوضها : " وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبَل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما وَلَّى وجهه قبَل البيت أَنكروا ذلك " وأخرجه في كتاب التفسير من طريق أبي نعيم عن زهير بدون شيء من هاتين الزيادتين ، والظاهر أن الزيادة الأولى مدرجة من إسرائيل عن أبي إسحاق ، والزيادة الثانية مدرجة من عمرو بن خالد لأن مسلماً والترمذي والنسائي قد رووا حديث البراء عن أبي إسحاق من غير طريق إسرائيل ولم يكن فيه إحدى الزيادتين ، فاحتاجوا إلى تأويل حرف الاستقبال من قوله { سيقول السفهاء } بمعنى التحقيق لا غير أي قد قال السفهاء ما ولاهم .
ووجه فصل هذه الآية عما قبلها بدون عطف ، اختلافُ الغرض عن غرض الآيات السابقة فهي استئناف محض ليس جواباً عن سؤال مقدر .
والأولى بقاء السين على معنى الاستقبال إذ لا داعي إلى صرفه إلى معنى المضي وقد علمتم الداعي إلى الإخبار به قبل وقوعه منهم وقال في « الكشاف » " فائدة الإخبار به قبل وقوعه أن العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه ، وذكر ابن عطية عن ابن عباس أنه من وضع المستقبل موضع الماضي ليدل على استمرارهم فيه وقال الفخر إنه مختار القفال .
وكأنَّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم ينظرون إلى أن هذا القول وقع بعد نسخ استقبال بيت المقدس وأن الآية نزلت بعد ذلك وهذا تكلف ينبغي عدم التعويل عليه ، والإخبار عن أقوالهم المستقبلة ليس بعزيز في القرآن مثل قوله : { فسيقولون من يعيدنا فسيتغضون إليك رؤوسهم } [ الإسراء : 51 ] وإذا كان الذي دعاهم إلى ذلك ثبوت أنهم قالوا هذه المقالة قبل نزول هذه الآية وشيوع ذلك كان لتأويل المستقبل بالماضي وجه وجيه ، وكان فيه تأييد لما أسلفناه في تفسير قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] وقوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } [ البقرة : 120 ] .
والسفهاء جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سفه بضم الفاء إذا صار السفه له سجية وتقدم القول في السفه عند قوله تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [ البقرة : 130 ] وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوماً هو التنبيه على بلوغهم الحد الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء فإذا قسم نوع الإنسان أصنافاً كان هؤلاء صنف السفهاء فيفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة ، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة .
وضمير الجمع في قوله : { ما ولاهم } عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في اللفظ حكاية لقول السفهاء ، وهم يريدون بالضمير أو بما يعبر عنه في كلامهم أنه عائد على المسلمين .
وفعل ( ولاهم ) أصله مضاعف ولي إذا دنا وقرب ، فحقه أن يتعدى إلى مفعول واحد بسبب التضعيف فيقال ولاه من كذا أي قربه منه وولاه عن كذا أي صرفه عنه ومنه قوله تعالى هنا { ما ولاهم عن قبلتهم } ، وشاع استعماله في الكلام فكثر أن يحذفوا حرف الجر الذي يعديه إلى متعلق ثان فبذلك عدوه إلى مفعول ثان كثيراً على التوسع فقالوا ولى فلاناً وجهه مثلاً دون أن يقولوا ولَّى فلان وجهه من فلان أو عن فلان فأشبه أفعال كسا وأعطى ولذلك لم يعبأوا بتقديم أحد المفعولين على الآخر قال تعالى : { فلا تولوهم الأدبار } [ الأنفال : 15 ] أصله فلا تولوا الأدبار منهم ، فالأدبار هو الفاعل في المعنى لأنه لو رُفع لقيل وَلِيَ دُبُرُه الكافرين ، ومنه قوله تعالى : { نوله ما تولى } [ النساء : 115 ] أي نجعله والياً مما تولى أي قريباً له أي ملازماً له فهذا تحقيق تصرفات هذا الفعل .
وجملة { ما ولاهم } إلخ هي مقول القول فضمائر الجمع كلها عائدة على معاد معلوم من المقام وهم المسلمون ولا يحتمل غير ذلك لئلا يلزم تشتيت الضمائر ومخالفة الظاهر في أصل حكاية الأقوال .
والاستفهام في قوله : { ما ولاهم } مستعمل في التعريض بالتخطئة واضطراب العقل .
والمراد بالقبلة في قوله : { عن قبلتهم } الجهة التي يُوَلَّوُن إليها وجوههم عند الصلاة كما دل عليه السياق وأخبار سبب نزول هذه الآيات .
والقبلة في أصل الصيغة اسم على زنة فِعْلة بكسر الفاء وسكون العين ، وهي زنة المصدر الدال على هيئة فعل الاستقبال أي التوجه اشتق على غير قياس بحذف السين والتاء ثم أطلقت على الشي الذي يستقبله المستقبلُ مجازاً وهو المراد هنا لأن الانصراف لا يكون عن الهيئة قال حسان في رثاء أبي بكر رضي الله عنه :
* أَلَيْسَ أَوَّلَ من صلَى لقبلتكم *
والأظهر عندي أن تكون القبلة اسم مفعول على وزن فِعْل كالذِّبح والطِّحْن وتأنيثه باعتبار الجهة كما قالوا : ما له في هذا الأمر قِبْلَة ولا دِبْرَة أي وِجهة .
وإضافة القبلة إلى ضمير المسلمين للدلالة على مزيد اختصاصها بهم إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم لأن المشركين لم يكونوا من المصلين وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلون في صلاتهم ، وهذا مما يعضد حمل « السفهآء » على المشركين إذ لو أريد بهم اليهود لقيل عن قبلتنا إذ لا يرضون أن يضيفوا تلك القبلة إلى المسلمين ، ومن فسر « السفهآء » باليهود ونسب إليهم استقبال بيت المقدس حَمَل الإضافة على أدنى ملابسة لأن المسلمين استقبلوا تلك القبلة مدة سنةٍ وأشهرٍ فصارت قبلة لهم .
وضمير الجمع في قوله : { ما ولاهم } عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور اللفظ حكاية لقول السفهاء وهم يريدون بالضمير أو بمساويه في كلامهم عودهُ على المسلمين .
وقوله : { التي كانوا عليها } أي كانوا ملازمين لها فعَلَى هنا للتمكن المجازي وهو شدة الملازمة مثل وقوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ، وفيه زيادة توجيه للإنكار والاستغراب أي كيف عدلوا عنها بعد أن لازموها ولم يكن استقبالهم إياها مجرد صدفة فإنهم استقبلوا الكعبة ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة .
واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه السلام بناه سليمان عليه السلام ، فلا تجد في أسفار « التوراة » الخمسة ذكراً لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء ، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سنّ استقبال بيت المقدس ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم ووقف أمام المذبح في بيت المقدس وبسط يديه ودعا الله دعاء جاء فيه : " إذا انكسر شعبُ إسرائيل أمام العدو ثم رجعوا واعترفوا وصلوا نحو هذا البيت فأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت لآبائهم وإذا خرج الشعب لمحاربة العدو وصلَّوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتَها والبيتتِ الذي بنيتُه لاسمك فاسمعْ صلاتهم وتضرعهم " إلخ ، وذكر بعد ذلك أن الله تجلّى لسليمان وقال له " قد سمعتُ صلاتك وتضرعك الذي تضرعتَ به أمامي " .
وهذا لا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة ، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله .
وقد قال ابن عباس ومجاهد : كان اليهود يظنون أن موافقة الرسول لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية ، وجرى كلام ابن العربي في « أحكام القرآن » على الجزم بأن اليهود كانوا يستقبلون بيت المقدس بناء على كلام ابن عباس ومجاهد ، ولم يثبت هذا من دين اليهود ، كما علمت ، وذكر الفخر عن أبي مسلم ما فيه أن اليهود كانوا يستقبلون جهةَ المغربِ وأن النصارى يستقبلون المشرق ، وقد علمت آنفاً أن اليهود لم تكن لهم في صلاتهم جهة معينة يستقبلونها وأنهم كانوا يتيمنون في دعائهم بالتوجه إلى صوب بيت المقدس على اختلاف موقع جهته من البلاد التي هم بها فليس لهم جهة معينة من جهات مطلع الشمس ومغربها وما بينهما فلما تقرر ذلك عادة عندهم توهموه من الدين وتعجبوا من مخالفة المسلمين في ذلك . وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل وتقع على الصَّنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب وبذلك يكون المذبح إلى الغرب والمصلون مستقبلين الشرق ، وذكر الخفاجي أن بولس هو الذي أمرهم بذلك ، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة .
وأما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم عليه السلام لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء وعند الصلاة وأنه بناها للصلاة حولها فإن داخلها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وُضعت للمصلي تجاهها وبذلك اشتهرت عند العرب ويدل عليه قول زيد بن عَمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به إبراهمْ *** مستقبل الكعبة وهو قائم
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة ومن جملة معاني إكمال الدين بها كما سنبينه .
وقد دلت هذه الآية على أن المسلمين كانوا يستقبلون جهة ثم تحولوا عنها إلى جهة أخرى وليست التي تحول إليها المسلمون إلاّ جهة الكعبة فدل على أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس وبذلك جاءت الآثار .
والأحاديثُ الصحيحة في هذا ثلاثة ، أولها وأصحها حديث « الموطأ » عن ابن دينار عن ابن عمر " بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة ( قرآن ) وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبِلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " ورواه أيضاً البخاري من طريق مالك ، ومسلم من طريق مالك ومن طريق عبد العزيز بن مسلم وموسى بن عقبة ، وفيه أن نزول آية تحويل القبلة كان قبل صلاة الصبح وأنه لم يكن في أثناء الصلاة وأنه صلى الصبح للكعبة وهذا الحديث هو أصل الباب وهو فصل الخطاب .
ثانيها : حديث مسلم عن أنس بن مالك وفيه " فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حُوِّلت فمالوا كما هم نحو القبلة " .
الثالث حديث البخاري ومسلم واللفظ للبخاري في كتاب التفسير عن البراء بن عازب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، وكان رسول الله يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء } [ البقرة : 144 ] فتوجه نحو الكعبة ثم قال فصلى مع النبي رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله وأنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة ، وحمل ذكر صلاة الصبح في روايتي ابن عمر وأنس بن مالك وذكر صلاة العصر في رواية البراء كلٌّ على أهل مكان مخصوص ، وهنالك آثار أخرى تخالف هذه لم يصح سندها ذكرها القرطبي . فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين وقيل يوم الثلاثاء نصف شعبان منها .
واختلفوا في أن استقباله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس هل كان قبل الهجرة أو بعدها ؟ فالجمهور على أنه لما فرضت عليه الصلاة بمكة كان يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس تألُّفاً لليهود قاله بعضهم وهو ضعيف ، وقيل كان يستقبل بيت المقدس وهو في مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلاً الكعبة وبيت المقدس معاً ، ولم يصح هذا القول .
واختلفوا هل كان استقبال بيت المقدس بأمر من الله ؟ فقال ابن عباس والجمهور أوجبه الله عليه بوحي ثم نسخه باستقبال الكعبة ودليلهم قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } [ البقرة : 143 ] الآية ، وقال الطبري كان مخيراً بين الكعبة وبيت المقدس واختار بيت المقدس استئلافاً لليهود ، وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية : كان ذلك عن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول يكون قوله تعالى : { فلنولينك قبلة ترضاها } [ البقرة : 144 ] دالاً على أنه اجتهد فرأى أن يتبع قبلة الدينين اللذين قبله ومع ذلك كان يود أن يأمره الله باستقبال الكعبة ، فلما غيرت القبلة قال السفهاء وهم اليهود أو المنافقون على اختلاف الروايات المتقدمة وقيل كفار قريش قالوا اشتاق محمد إلى بلده وعن قريب يرجع إلى دينكم ذكره الزجاج ونسب إلى البراء بن عازب وابن عباس والحسن ، وروى القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلى وفي الحديث ضعف .
وقوله : { قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } جواب قاطع معناه أن الجهات كلها سواء في أنها مواقع لبعض المخلوقات المعظمة فالجهات ملك لله تبعاً للأشياء الواقعة فيها المملوكة له ، وليست مستحقة للتوجه والاستقبال استحقاقاً ذاتياً . وذكر المشرق والمغرب مراد به تعميم الجهات كما تقدم عند قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] ، ويجوز أن يكون المراد من المشرق والمغرب الكناية عن الأرض كلها لأن اصطلاح الناس أنهم يقسمون الأرض إلى جهتين شرقية وغربية بحسب مطلع الشمس ومغربها ، والمقصود أن ليس لبعض الجهات اختصاص بقرب من الله تعالى لأنه منزه عن الجهة وإنما يكون أمره باستقبال بعض الجهات لحكمة يريدها كالتيمن أو التذكر فلا بدع في التولي لجهة دون أخرى حسب ما يأمر به الله تعالى ، فقوله تعالى : { قل لله المشرق والمغرب } ، إشارة إلى وجه صحة التولية إلى الكعبة وقوله : { يهدي من يشاء } إشارة إلى وجه ترجيح التولية إلى الكعبة على التولية إلى غيرها لأن قوله : { يهدي من يشاء } تعريض بأن الذي أمر الله به المسلمين هو الهدى دون قبلة اليهود إلاّ أن هذا التعريض جيء به على طريقة الكلام المنصف من حيث ما في قوله { من يشاء } من الإجمال الذي يبينه المقام فإن المهدي من فريقين كانا في حالة واحدة هو الفريق الذي أمره من بيده الهدى بالعدول عن الحالة التي شاركه فيها الفريق الآخر إلى حالة اختص هو بها ، فهذه الآية بهذا المعنى فيها إشارة إلى ترجيح أحد المعنيين من الكلام الموجه أقوى من آية : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] .
وقد سلك في هذا الجواب لهم طريق الإعراض والتبكيت لأن إنكارهم كان عن عناد لا عن طلب الحق فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة ولم تبين لهم حكمة تحويل القبلة ولا أحقية الكعبة بالاستقبال وذلك ما يعلمه المؤمنون .
فأما إذا جرينا على قول الذين نسبوا إلى اليهود استقبال جهة المغرب وإلى النصارى استقبال جهة المشرق من المفسرين فيأتي على تفسيرهم أن تقول إن ذكر المشرق والمغرب إشارة إلى قبلة النصارى وقبلة اليهود ، فيكون الجواب جواباً بالإعراض عن ترجيح قبلة المسلمين لعدم جدواه هنا ، أو يكون قوله : { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } إيماء إلى قبلة الإسلام ، والمراد بالصراط المستقيم هنا وسيلة الخير وما يوصل إليه كما تقدم في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] فيشمل ذلك كل هَدْي إلى خير ومنه الهدى إلى استقبال أفضل جهة . فجملة : { يهدي من يشاء } حال من اسم الجلالة ولا يحسن جعلها بدل اشتمال من جملة : { لله المشرق والمغرب } لعدم وضوح اشتمال جملة : قل لله المشرق والمغرب على معنى جملة : { يهدي من يشاء } إذ مفاد الأولى أن الأرض جميعها لله أي فلا تتفاضل الجهات ومفاد الثانية أن الهدى بيد الله .
واتفق علماء الإسلام على أن استقبال الكعبة أي التوجه إليها شرط من شروط صحة الصلاة المفروضة والنافلةِ إلاّ لضرورة في الفريضة كالقتال والمريض لا يجد من يوجهه إلى جهة القبلة أو لرخصة في النافلة للمسافر إذا كان راكباً على دابة أو في سفينة لا يستقر بها . فأما الذي هو في المسجد الحرام ففرض عليه استقبال عين الكعبة من أحد جوانبها ومن كان بمكة في موضع يعاين منه الكعبة فعليه التوجه إلى جهة الكعبة التي يعاينها فإذا طال الصف من أحد جوانب الكعبة وجب على من كان من أهل الصف غيرَ مقابل لركن من أركان الكعبة أن يستدير بحيث يصلون دائرين بالكعبة صفاً وراء صف بالاستدارة ، وأما الذي تَغيب ذات الكعبة عن بصره فعليه الاجتهاد بأن يتوخى أن يستقبل جهتها فمن العلماء من قال يتوخَّى المصلي جهةَ مصادفة عين الكعبة بحيث لو فُرض خط بينه وبين الكعبة لوجَدَ وجهه قُبالة جدارها ، وهذا شاق يعسر تحققه إلاّ بطريق أرصاد علم الهيئة ويعبر عن هذا باستقبال العين وباستقبال السمت وهذا قول ابن القصار واختاره أحد أشياخ أبي الطيب عبد المنعم الكندي ونقله المالكية عن الشافعي ، ومن العلماء من قال يتوخى المصلى أن يستقبل جهةً أقرب ما بينه وبين الكعبة بحيث لو مشى باستقامة لوصل حول الكعبة ويعبر عن هذا باستقبال الجهة أي جهة الكعبة وهذا قول أكثر المالكية واختاره الأبهري والباجي وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وهو من التيسير ورفع الحرج ، ومن كان بالمدينة يستدل بموضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لأن الله أذن لرسوله بالصلاة فيه ، وروى ابن القاسم عن مالك أن جبريل هو الذي أقام للنبيء صلى الله عليه وسلم قِبلة مسجده .
وبين المازري معنى المسامتة بأن يكون جزء من سطح وجه المصلي وجزء من سمت الكعبة طرفي خط مستقيم وذلك ممكن بكون صف المصلين كالخط المستقيم الواصل بين طرفي خطين متباعدين خرجا من المركز إلى المحيط في جهته لأن كل نقطة منه ممر لخارج من المركز إلى المحيط ا هـ ، واستبعد عز الدين بن عبد السلام هذا الكلام بأن تكليف البعيد استقبال عين البيت لا يطاق ، وبإجماعهم على صحة ذوي صفٍّ مائةِ ذراع وعَرضُ البيت خمسة أذرع فبعض هذا الصف خارج عن سمت البيت قطعاً ووافقه القرافي ثم أجاب بأن البيت لمستقبليه كمركز دائرة لمحيطها والخطوط الخارجة من مركز لمحيطه كلما قربت منه اتسعت ولا سيما في البعد .
فإذا طالت الصفوف فلا حرج عليهم لأنهم إنما يجب عليهم أن يكونوا متوجهين نحو الجهة التي يعبرون عنها بأنها قبلة الصلاة .
ومن أخطأ القبلة أو نسي الاستقبال حتى فرغ من صلاته لا يجب عليه إعادة صلاته عند مالك وأبي حنيفة وأحمد إلاّ أن مالكاً استحب له أن يعيدها ما لم يخرج الوقت ولم ير ذلك أبو حنيفة وأحمد وهذا بناء على أن فرض المكلف هو الاجتهاد في استقبال الجهة وأما الشافعي فأوجب عليه الإعادة أبداً بناء على أنه يرى أن فرض المكلف هو إصابة سمت الكعبة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سيقول السفهاء من الناس}: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة يصلون ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، فلما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليلا، أمر بالصلوات الخمس فصارت الركعتان للمسافر، وللمقيم أربع ركعات، فلما هاجر إلى المدينة... أمر أن يصلي نحو بيت المقدس؛ لئلا يكذب به أهل الكتاب إذا صلى إلى غير قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قِبَل بيت المقدس من أول مقدمة المدينة سبعة عشر شهرا، وصلت الأنصار قبل بيت المقدس سنتين قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم... وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل، عليه السلام، بما سأل.
فأنزل الله عز وجل في رجب عند صلاة الأولى قبل قتال بدر بشهرين: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}. ولما صرفت القبلة إلى الكعبة، قال مشركو مكة: قد تردد على أمره واشتاق إلى مولد آبائه، وقد توجه إليكم وهو راجع إلى دينكم، فكان قولهم هذا سفها منهم، فأنزل الله عز وجل: {سيقول السفهاء من الناس} يعني مشركي مكة، {ما ولاهم}، يقول: ما صرفهم {عن قبلتهم} الأولى {التي كانوا عليها قل} يا محمد {لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} يعني دين الإسلام، يهدي الله نبيه والمؤمنين لدينه.
- السيوطي: أخرج مالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أنزل عليه الليلة القرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"سَيَقُولُ السّفَهاءُ": سيقول الجهال من الناس، وهم اليهود وأهل النفاق. وإنما سماهم الله عزّ وجلّ سفهاء لأنهم سَفِهوا الحقّ، فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالُهم وأهلُ الغباء منهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل، وتحير المنافقون فتبلّدوا.
"ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا": "ما وَلاّهُمْ": أيّ شيء صرفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل: ولاني فلان دُبُرَه: إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله: "ما وَلاّهُمْ": أيّ شيء حوّل وجوههم.
"عَنْ قِبْلَتِهِمُ": فإن قِبْلَةَ كل شيء: ما قابل وجهه، وإنما هي «فِعْلة» بمنزلة الجِلْسة والقِعْدة من قول القائل: قابلت فلانا: إذا صرت قبالته أقابله، فهو لي قِبْلة، وأنا له قبلة، إذا قابل كل واحد منهما بوجهه وجه صاحبه؛ فتأويل الكلام إذن إذْ كان (ذلك) معناه: سيقول السفهاء من النّاس لكم أيها المؤمنون بالله ورسوله، إذا حوّلتم وجوهكم عن قبلة اليهود التي كانت لكم قبلة قبل أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شطر المسجد الحرام: أيّ شيء حوّل وجوه هؤلاء، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟
فأعلم الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ما اليهود والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردّه عليهم من الجواب، فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم: "لِلّهِ المَشْرقُ والمَغْربُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ".
وكان سبب ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس مدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْفَ قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام، فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهه ووجه أصحابه شطره، وما الذي ينبغي أن يكون من ردّه عليهم من الجواب.
اختلف أهل العلم في المدّة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم:... عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ونافع بن أبي نافع، هكذا قال ابن حميد، وقال أبو كريب: ورافع بن أبي رافع والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمد ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل الله فيهم: "سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا "إلى قوله: "إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعِ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ".
وقال آخرون: صلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر.
وقال آخرون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فصلى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهرا.
ذكر السبب الذي كان من أجله يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يفرض عليه التوجه شطر الكعبة.
اختلف أهل العلم في ذلك؛ فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبيّ صلى الله عليه وسلم... عن عكرمة، والحسن البصري قالا: أوّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صخرة بيت المقدس، وهي قبلة اليهود، فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهرا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعوا بذلك الأميين من العرب، فقال الله عزّ وجلّ: "ولِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"... قال أبو العالية: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتاب، فكانت قبلته ستة عشر شهرا، وهو في ذلك يقلب وجهه في السماء، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام.
وقال آخرون: بل كان فعل ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بفرض الله عزّ ذكره عليهم... عن ابن عباس قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود...
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟
اختلف أهل التأويل في ذلك، فرُوي عن ابن عباس فيه قولان: أحدهما ما:
قال ذلك قوم من اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدّقك يريدون فتنته عن دينه.
والقول الآخر: صلّت الأنصار نحو بيت المقدس حَوْلَيْن قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وصلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس: "مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا"، لقد اشتاق الرجل إلى مولده. فقال الله عز وجل: "قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون، وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام.
"قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ": قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس التي كنتم على التوجه إليها، إلى التوجه إلى شطر المسجد الحرام: لله ملك المشرق والمغرب يعني بذلك مُلك ما بين قطري مشرق الشمس، وقطري مغربها، وما بينهما من العالم، يهدي من يشاء من خلقه فيسدّده، ويوفقه إلى الطريق القويم، وهو الصراط المستقيم. ويعني بذلك إلى قبلة إبراهيم الذي جعله للناس إماما. ويخذل من يشاء منهم فيضله عن سبيل الحقّ. وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله: "يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ": قل يا محمد إن الله هدانا بالتوجه شطر المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلكم أيها اليهود والمنافقون وجماعة الشرك بالله، فخذلكم عما هدانا له من ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(سيقول السفهاء من الناس) هذا، والله أعلم، وعد، كان وعده عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يحوله إلى الكعبة من بيت المقدس، وإخبار عما يقول له اليهود قبل أن يحول، وقبل أن يقولوا له شيئا! ألا ترى إلى قوله: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) [البقرة: 144] أنه لو لم يكن فيها وعد بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لكان تقلب وجهه إلى السماء بذلك تخييرا منه وتحكما عليه، وليس لأحد على الله التخيير والتحكم في الأحكام والشرائع ولا في غيرها؟ فدل أنه على الوعد ما فعل، والله أعلم.
ثم فيه إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين كان أخبره على ما أخبر من التحويل إلى الكعبة؛ وذلك لأنهم يرون نسخ الشرائع والأحكام أنه كالبداء والرجوع عنها؛ وذلك فعل من يجهل عواقب الأمور: كبان بنى بناء، ثم نقضه لجهل منه به، لكن ذلك منهم جهل بمعرفة النسخ وقدره. ولو عرفوا ما النسخ ما نفوا الشرائع والأحكام...
"قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ": والأمكنة كلها والنواحي؛ يأمر بالتوجه إلى أي ناحية شاء شرقا وغربا. فالطاعة له في الائتمار لأمره والقبول لدعائه لا للتوجه نحو المشرق أو نحو المغرب لهوى هووا وتمن تمنوا؛ لأن اليهود جعلوا قبلتهم المغرب اتباعا لهواهم لا اتباعا لأمر أمروا به. وكذلك النصارى اتخذوا المشرق قبلة لهوى أنفسهم، فأخبر الله عز وجل المؤمنين أنهم يأتمرون بالله، حيثما أمروا توجهوا نحوه.
وفيه دليل نسخ السنة بالكتاب؛ لأن القبلة إلى بيت المقدس لم تكن مذكورة في الكتاب، بل عملوا على سنة الأولين الماضين.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
واختلفوا في سبب اختياره بيت المقدس على قولين:... والثاني: لأن العرب كانت تحج البيت غير آلفة لبيت المقدس، فأحب الله أن يمتحنهم بغير ما ألفوه، ليعلم من يتبع ممن ينقلب على عَقِبَيْهِ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشدّ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدّمه من توطين النفس، وأنّ الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
روى الإمام أحمد... عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في أهل الكتاب -:"إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين".
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
فيكون قوله تعالى: {مِنَ الناس} أي الكفرةِ لبيانِ أن ذلك القول المَحْكيِّ لم يصدُر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف الثلاث بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في فنون الفساد وهو الأظهر، إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونِهم من الناس مزيدُ فائدة، وتخصيصُ سفهائهم بالذكر لا يقتضي تسليمَ الباقين للتحويل وارتضاءَهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقاً أو بالعبارة المحكية.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كان أنبياء بني إسرائيل يصلون إلى بيت المقدس وكانت صخرة المسجد الأقصى المعروفة هي قبلتهم، وقد صلى النبي والمسلمون إليها زمنا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوف لاستقبال الكعبة، ويتمنى لو حول الله القبلة إليها، بل كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة في مكة فيصلي في جهة الجنوب مستقبلا للشمال فلما هاجر منها إلى المدينة تعذر هذا الجمع فتوجه إلى الله تعالى بجعل الكعبة هي القبلة فأمره الله بذلك كما يأتي تفصيله في الآيات الآتية، وقد ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من اعتراض اليهود وغيرهم على التحويل، وإخبار الله نبيه والمؤمنين به قبل وقوعه، وتلقينهم الحجة البالغة عليه، والحكمة السديدة فيه، ويتضمن هذا بيان سر من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في كونها محاجة لأهل الكتاب في أمر الدين لإمالتهم عن التقليد الأعمى فيه، والجمود على ظواهره من غير تفقه فيه ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلا لأجلها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
اشتملت الآية الأولى على معجزة، وتسلية، وتطمين قلوب المؤمنين، واعتراض وجوابه، من ثلاثة أوجه، وصفة المعترض، وصفة المسلم لحكم الله دينه.
فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس، وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى، ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، مدة مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة، نحو سنة ونصف -لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها، وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه، وفضله وإحسانه، فسلاهم، وأخبر بوقوعه، وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه، قليل العقل، والحلم، والديانة، فلا تبالوا بهم، إذ قد علم مصدر هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه، ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله، إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل، فيتلقى أحكام ربه بالقبول، والانقياد، والتسليم كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وقد كان في قوله {السفهاء} ما يغني عن رد قولهم، وعدم المبالاة به.
ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة، حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض، فقال تعالى: {قُلْ} لهم مجيبا: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله، ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله، لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره، بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم، وهدايته وإحسانه، أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم، معترض على فضل الله، حسدا لكم وبغيا.
ولما كان قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والمطلق يحمل على المقيد، فإن الهداية والضلال، لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية، ومنة الله عليها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ابتداء من هذا الجزء في سورة البقرة نجد التركيز على إعداد الجماعة المسلمة لحمل الأمانة الكبرى -أمانة العقيدة، وأمانة الخلافة في الأرض باسم هذه العقيدة- وإن نكن ما نزال نلتقي بين الحين والحين بالجدل مع أعداء هذه الجماعة المناهضين لها -وفي مقدمتهم بنو إسرائيل- ومواجهة دسائسهم وكيدهم وحربهم للعقيدة في أصولها، وللجماعة المسلمة في وجودها. كما نلتقي بالتوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة لمواجهة الحرب المتعددة الأساليب التي يشنها عليها خصومها؛ وللحذر كذلك من مزالق الطريق التي وقع فيها بنو إسرائيل قبلها.
فأما المادة الأساسية لهذا الجزء، ولبقية السورة، فهي إعطاء الجماعة المسلمة خصائص الأمة المستخلفة، وشخصيتها المستقلة. المستقلة بقبلتها؛ وبشرائعها المصدقة لشرائع الديانات السماوية قبلها والمهيمنة عليها؛ وبمنهجها الجامع الشامل المتميز كذلك.. وقبل كل شيء بتصورها الخاص للوجود والحياة، ولحقيقة ارتباطها بربها، ولوظيفتها في الأرض؛ وما تقتضيه هذه الوظيفة من تكاليف في النفس والمال، وفي الشعور والسلوك، ومن بذل وتضحية، وتهيؤ للطاعة المطلقة للقيادة الإلهية، الممثلة في تعليمات القرآن الكريم، وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي ذلك كله بالاستسلام والرضى، وبالثقة واليقين. ومن ثم نجد حديثا عن تحويل القبلة، يتبين منه أنه يراد بهذه الأمة أن تكون أمة وسطا، أهلها شهداء على الناس والرسول عليهم شهيد؛ فلها على الناس في الأرض قيادة وهيمنة، وإشراف وتوجيه. ونجد دعوة لهذه الأمة إلى الصبر على تكاليف هذه الوظيفة الملقاة على عاتقها، وهذا الواجب الذي ستضطلع به للبشرية جميعا؛ واحتمال ما سيكلفها في الأنفس والأموال، والرضى بقدر الله ورد الأمور كلها إليه على كل حال. ثم نجد بيانا وجلاء لبعض قواعد التصور الإيماني، حيث يقرر أن البر هو التقوى والعمل الصالح لا تقليب الوجوه قبل المشرق والمغرب.. وذلك ردا على ما يقوم به اليهود من بلبلة، ومن كتمان وتلبيس للحقائق، وجدال ومراء فيما يعلمون أنه الحق.. ومعظم الحديث في هذا القطاع يتعلق بتحويل القبلة، وما ثار حوله من ملابسات وأقاويل. ثم يأخذ السياق في تقرير النظم العملية والشعائر التعبدية -وهما العنصران اللذان تقوم عليهما حياة هذه الأمة- وتنظيم مجتمعها ليواجه المهام الملقاة على عاتقها، فنجد شريعة القصاص وأحكام الوصية، وفريضة الصيام، وأحكام القتال في الأشهر الحرام وفي المسجد الحرام، وفريضة الحج، وأحكام الخمر والميسر، ودستور الأسرة.. مشدودة كلها برباط العقيدة والصلة بالله. كذلك نجد في نهاية هذا الجزء بمناسبة الحديث عن الجهاد بالنفس والمال، قصة من حياة بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم:ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله.. فيها عبر كثيرة وتوجيهات موحية بالنسبة للجماعة المسلمة الوارثة لتراث الرسالات قبلها، ولتجارب الأمم في هذا التراث. ومن مراجعة هذا الجزء -بالإضافة إلى الجزء الأول من السورة- ندرك طبيعة المعركة التي كان يخوضها القرآن؛ وطبيعة الغاية التي كان يستهدفها في بناء الأمة المسلمة. وهي معركة ضخمة مع الدسائس والفتن والألاعيب والبلبلة والتلبيس والكذب؛ ومع الضعف البشري، ومداخل الفتنة ومسارب الغواية في النفس البشرية على السواء. وهي كذلك معركة للبناء والتوجيه وإنشاء التصور الصحيح الذي يمكن أن تقوم عليه الأمة المستخلفة في الأرض، التي تتولى القيادة الرشيدة للبشرية جميعا. أما الإعجاز القرآني فيتجلى في أن هذه التوجيهات وهذه الأسس التي جاء بها القرآن لكي ينشيء الجماعة المسلمة الأولى، هي هي ما تزال التوجيهات والأسس الضرورية لقيام الجماعة المسلمة في كل زمان ومكان؛ وأن المعركة التي خاضها القرآن ضد أعدائها هي ذاتها المعركة التي يمكن أن يخوضها في كل زمان ومكان. لا بل إن أعداءها التقليديين الذين كان يواجههم القرآن ويواجه دسائسهم وكيدهم ومكرهم، هم هم، ووسائلهم هي هي، تتغير أشكالها بتغير الملابسات، وتبقى حقيقتها وطبيعتها؛ وتحتاج الأمة المسلمة، في كفاحها وتوقيها إلى توجيهات هذا القرآن حاجة الجماعة المسلمة الأولى. كما تحتاج في بناء تصورها الصحيح وإدراك موقفها ومن الكون والناس إلى ذات النصوص وذات التوجيهات؛ وتجد فيها معالم طريقها واضحة، كما لا تجدها في أي مصدر آخر من مصادر المعرفة والتوجيه. ويظل القرآن كتاب هذه الأمة العامل في حياتها، وقائدها الحقيقي في طريقها الواقعي، ودستورها الشامل الكامل، الذي تستمد منه منهج الحياة، ونظام المجتمع، وقواعد التعامل الدولي والسلوك الأخلاقي والعملي. وهذا هو الإعجاز...
لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه).. فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي.. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم.. فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه -فترة- إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ؛ أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد.. حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الوقتذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم بالإسلام، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته.. كما مر في درس: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن).. في الجزء الماضي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بَعْدَها لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة وهي استقبال بيت المقدس وأنَّ التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لِمَا هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلاّ ما ثبت أنه نزل متأخراً ويتلى متقدماً.
والظاهر أن المراد بالقبلة المحولة القبلةُ المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرقَ وهي قبلة اليهود، ولم يشف أحد من المفسرين وأصحاب « أسباب النزول» الغليل في هذا، على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها.
والذي استقر عليه فهمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبةٌ بديعة وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته، والكعبة وأن من يرغب عنها قد سفِه نفسه، فكانت مثاراً لأن يقول المشركون، ما ولَّى محمداً وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول إنه على ملة إبراهيم ويأبى عن إتباع اليهودية والنصرانية، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟ ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: {ولله المشرق والمغرب} [البقرة: 115]. وقوله: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [البقرة: 120] كما ذكرناه هنالك، وقد علم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وأتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله بعد الآيات المثيرة له وقبل الآيات التي أُنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلاً بعد مقالة المشركين فيشمخوا بأنوفهم يقولون غيَّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144] الآيات، لأن مقالة المشركين أو توقُّعَها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشىء عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
فالمراد بالسفهاء المشركون ويدل لذلك تبيينه بقوله {من الناس،} فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون كما روي ذلك عن ابن عباس، ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب لأنه لو كان ذلك لَنَاسب أن يقال سيقولون بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريباً من الآي السابقة إلى قوله: {ولا تسألون} [البقرة: 134، 141] الآية.
هذه الآية نزلت لتصفي مسألة توجه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.. وهذا أول نسخ في القرآن الكريم.. يريد الله سبحانه وتعالى أن يعطيه العناية اللائقة؛ لأنه سيكون مثار تشكيك وجدل عنيف من كل من يعادي الإسلام؛ فكفار قريش سيأخذون منه ذريعة للتشكيك وكذلك المنافقون واليهود. الله تبارك وتعالى يريد أن يحدد المسألة قبل أن تتم هذه التشكيكات.. فيقول جل جلاله: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}.. حرف السين هنا يؤكد إنهم لم يقولوا بعد.. ولذلك قال سبحانه: {سيقول السفهاء} فقبل أن يتم تحويل القبلة قال الحق تعالى: إن هذه العملية ستحدث هزة عنيفة يستغلها المشككون.
وبرغم أن الله سبحانه وتعالى قال: {سيقولون السفهاء}.. أي أنهم لم يقولوها إلا بعد أن نزلت هذه الآية.. مما يدل على أنهم سفهاء حقا؛ لأن الله جل جلاله أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم في قرآن يتلى ويصلى به ولا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.. قال: {سيقولون السفهاء من الناس}.. فلو أنهم امتنعوا عن القول ولم يعلقوا على تحويل القبلة لكان ذلك تشكيكا في القرآن الكريم.. لأنهم في هذه الحالة كانوا يستطيعون أن يقولوا: إن قرآنا أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.. قال: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم}.. ولم يقل أحد شيئا..
ولكن لأنهم سفهاء فعلا.. والسفه جهل وحمق وطيش قالوها.. فكانوا وهم الكافرون بالقرآن الذين يريدون هدم هذا الدين من المثبتين للإيمان الذين تشهد أعمالهم بصدق القرآن. لأن الله سبحانه قال:
{سيقول السفهاء} وهم قالوا فعلا.. ولقد قال كفار مكة عن الكعبة إنها بيتنا وبيت آبائنا وليست بيت الله.. فصرف الله رسوله في أول الإسلام ووجهه إلى بيت المقدس.. وعندئذ قال اليهود: يسفه ديننا ويتبع قبلتنا.. والله سبحانه وتعالى أراد أن يحتوي الإسلام كل دين قبله فتكون القداسة للكل.. ولذلك أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس.. حتى يدخل بيت المقدس في مقدسات الإسلام لأنه أصبح محتوى في الإسلام.
ولم يشأ الله أن يجعل القبلة إلى الكعبة أول الأمر لأنهم كانوا يقدسونها على أنها بيت العرب وكانوا يضعون فيها أصنامهم.. ووضع الأصنام في الكعبة شهادة بأن لها قداسة في ذاتها.. فالقداسة لم تأت بأصنامهم بل هم أرادوا أن يحموا هذه الأصنام فوضعوها في الكعبة.. لماذا لم يضعوها في مكان آخر؟ لأن الكعبة مقدسة بدون أصنام.
والله سبحانه وتعالى حين قال: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}.. ولاه يعني حرفه ورده.. والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس.. وهنا يأتي الحق برد جامع هو أن أوامر الله الإيمانية لا ترتبط بالعلة.. إنما علة التنفيذ فيما يأمرنا الله سبحانه به جل جلاله أن الله هو الآمر.. ولو أن الحق تبارك وتعالى بين لنا السبب أو العلة في تغيير القبلة لما كان الأمر امتحانا للإيمان في القلوب.. لأن الإيمان والعبادة هي طاعة معبود فيما يأمر وما ينهي.. يقول لك الله عظم هذا الحجر وهو الحجر الأسود الموجود في الكعبة تعظمه بالاستلام والتقبيل.. ويقول لك: ارجم هذا الحجر الذي يرمز إلى إبليس فترجمه بالحصى، ولا يقول الله سبحانه لماذا؟ لأنه لو قال لماذا ضاع الإيمان هنا وأصبح الأمر مسألة إقناع واقتناع.
فأنا حين أقول لك لا تأكل هذا لأنه مر وكل هذا لأنه حلو يكون السبب واضحا.. ولكن الله تبارك وتعالى يقول لك كل هذا ولا تأكل هذا.. فإن أكلت مما حرمه تكون آثما. وإن امتنعت تكون طائعا وتثاب.
إذن العلة الإيمانية هي أن الأمر صادر من الله سبحانه.. ولو أنك امتنعت عن شرب الخمر لأنها ضارة بالصحة أو تفسد الكبد فلا ثواب لك، ولو امتنعت عن أكل لحم الخنزير لأن فيه كمية كبيرة من الكولسترول وله مضار كثيرة فلا ثواب لك.. ولكنك لو امتنعت عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير لأن الله حرمهما.. فهذه هي العبادة وهذا هو الثواب.
الله سبحانه وتعالى أراد أن يرد على هؤلاء السفهاء فقال: {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.. أي أنك إذا اتجهت إلى بيت المقدس أو اتجهت إلى خصوصية بذاته، والكعبة ليس لها خصوصية بذاتها.. ولكن أمر الله تبارك وتعالى هو الذي يعطيهما هذه الخصوصية.. فإذا اتجهنا إلى بيت المقدس فنحن نتجه إليه طاعة لأمر الله.. فإذا قال الله سبحانه اتجهوا إلى الكعبة اتجهنا إليها طاعة لأمر الله.
قوله تعالى: {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.. الصراط هو الطريق المستقيم لا التواء فيه بحي يكون أقرب المسافات إلى الهدف. والله سبحانه وجهنا لبيت المقدس فهو صراط مستقيم نتبعه.. وجهنا إلى الكعبة فهو صراط مستقيم نتبعه.. فالأمر لله.