تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

فلم يبق إلا الشفاعة ، فنفاها بقوله : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فهذه أنواع التعلقات ، التي يتعلق بها المشركون بأندادهم ، وأوثانهم ، من البشر ، والشجر ، وغيرهم ، قطعها اللّه وبيَّن بطلانها ، تبيينا حاسما لمواد الشرك ، قاطعا لأصوله ، لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه ، لما يرجو منه من النفع ، فهذا الرجاء ، هو الذي أوجب له الشرك ، فإذا كان من يدعوه [ غير اللّه ] ، لا مالكا للنفع والضر ، ولا شريكا للمالك ، ولا عونا وظهيرا للمالك ، ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك ، كان هذا الدعاء ، وهذه العبادة ، ضلالا في العقل ، باطلة في الشرع .

بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده ، فإنه يريد منها النفع ، فبيَّن اللّه بطلانه وعدمه ، وبيَّن في آيات أخر ، ضرره على عابديه{[734]}  وأنه يوم القيامة ، يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، ومأواهم النار { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }

والعجب ، أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل ، بزعمه{[735]}  أنهم بشر ، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر ، والحجر ، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان ، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه ، طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان .

وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } يحتمل أن الضمير في هذا الموضع ، يعود إلى المشركين ، لأنهم مذكورون في اللفظ ، والقاعدة في الضمائر ، أن تعود إلى أقرب مذكور ، ويكون المعنى : إذا كان يوم القيامة ، وفزع عن قلوب المشركين ، أي : زال الفزع ، وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم ، عن حالهم في الدنيا ، وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل ، أنهم يقرون ، أن ما هم عليه من الكفر والشرك ، باطل ، وأن ما قال اللّه ، وأخبرت به عنه رسله ، هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه ، واعترفوا بذنوبهم .

{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } بذاته ، فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم ، وعلو قدره ، بما له من الصفات العظيمة ، جليلة المقدار { الْكَبِيرُ } في ذاته وصفاته .

ومن علوه ، أن حكمه تعالى ، يعلو ، وتذعن له النفوس ، حتى نفوس المتكبرين والمشركين .

وهذا المعنى أظهر ، وهو الذي يدل عليه السياق ، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة ، وذلك أن اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمعته الملائكة ، فصعقوا ، وخروا للّه سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد ، وإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة ، وزال الفزع ، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه : ماذا قال ربكم ؟ فيقول بعضهم لبعض : قال الحق ، إما إجمالا ، لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا ، وإما أن يقولوا : قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه ، وذلك من الحق .

فيكون المعنى على هذا : أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك الآلهة ، التي وصفنا لكم عجزها ونقصها ، وعدم نفعها بوجه من الوجوه ، كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم ، العلي الكبير ، الذي - من عظمته وجلاله - أن الملائكة الكرام ، والمقربين من الخلق ، يبلغ بهم الخضوع والصعق ، عند سماع كلامه هذا المبلغ ، ويقرون كلهم للّه ، أنه لا يقول إلا الحق .

فما بال هؤلاء المشركين ، استكبروا عن عبادة من هذا شأنه ، وعظمة ملكه وسلطانه . فتعالى العلي الكبير ، عن شرك المشركين ، وإفكهم ، وكذبهم .


[734]:- في ب: عابديها.
[735]:- في النسختين: بزعمهم، ولعل الأقرب -والله أعلم- ما أثبت.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

22

ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية . وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال :

( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) . .

فالشفاعة مرهونة بإذن الله . والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته . فأما الذين يشركون به فليسوا أهلا لأن يأذن بالشفاعة فيهم ، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء !

ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة ؛ وهو مشهد مذهل مرهوب :

( حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .

إنه مشهد في اليوم العصيب . يوم يقف الناس ، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام . ويطول الانتظار . ويطول التوقع . وتعنو الوجوه . وتسكن الأصوات . وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام .

ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة ، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم . ويتوقف إدراكهم عن الإدراك .

( حتى إذا فزّع عن قلوبهم ) . . وكشف الفزع الذي أصابهم ، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم . ( قالوا : ما ذا قال ربكم ? )يقولها بعضهم لبعض . لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى . ( قالوا : الحق ) . . ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة : ( قالوا الحق ) . قال ربكم : الحق . الحق الكلي . الحق الأزلي . الحق اللدني . فكل قوله الحق . ( وهو العلي الكبير ) . . وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب . .

وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة ، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة !

فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب . وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم . فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله ، شفعاء في من يشرك بالله ? !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

وقال :{[24304]} { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي : لعظمته [ وجلاله ]{[24305]} وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة ، كما قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [ وَيَرْضَى{[24306]} ] } [ النجم : 26 ] ، وقال : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] .

ولهذا ثبت في الصحيحين{[24307]} ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم ، وأكبر شفيع عند الله - : أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء ، قال : «فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يُسمع{[24308]} ، وسل تُعْطَه واشفع تشفع » الحديث بتمامه .

وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } . وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة . وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمع أهل السموات كلامه ، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي . قاله ابن مسعود ومسروق ، وغيرهما .

{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } أي : زال الفزع عنها . قال ابن عباس ، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعيّ ، والضحاك والحسن ، وقتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } يقول : جُلِّى عن قلوبهم ، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا - : " [ حَتَّى ]{[24309]} إذَا فرغ " بالغين{[24310]} المعجمة ، ويرجع إلى الأول .

فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ؛ ولهذا قال : { قَالُوا الْحَقّ } أي : أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان ، { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .

وقال آخرون : بل معنى قوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم : الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا .

قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } : كشف عنها الغطاء يوم القيامة .

وقال الحسن : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك ، قال : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم ، { قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } قال : وهذا في بني آدم ، هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار .

وقد اختار ابن جرير القول الأول : أن الضمير عائد على الملائكة{[24311]} . هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار ، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره :

قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، سمعت عِكْرِمة ، سمعت أبا هُرَيرة{[24312]} يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قضى الله الأمرَ في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوانَ ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع ، ومسترق السمع - هكذا بعضه{[24313]} فوق بعض - ووصف سفيان بيده - فَحَرّفها وبَدّد{[24314]} بين أصابعه - فَيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى مَنْ تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته ، حتى يلقيَها على لسان الساحر{[24315]} أو الكاهن ، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كَذْبَة ، فيقال : أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا : كذا {[24316]} وكذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء .

انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه . وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث سفيان بن عيينة ، به . {[24317]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، أخبرنا الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ جالسًا ]{[24318]} في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق : " من الأنصار " - فَرُميَ بنجم فاستنار ، [ قال ]{[24319]} : " ما كنتم تقولون إذا كان مثلُ هذا في الجاهلية ؟ " قالوا : كنا نقول يُولَد عظيم ، أو يموت{[24320]} عظيم - قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ، ولكن غُلّظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا ، تبارك وتعالى ، إذا قضى أمرا سبح حَمَلةُ العرش [ ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه{[24321]} الدنيا ، ثم يستخبر أهل السماء الذين يَلُونَ حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ]{[24322]} : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء سماء ؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون .

هكذا رواه الإمام أحمد{[24323]} . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث صالح بن كَيْسَان ، والأوزاعي ، ويونس ومَعْقِل بن عبيد الله{[24324]} ، أربعتهم عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس عن رجل من الأنصار ، به{[24325]} . ورواه وقال يونس : عن رجال من الأنصار{[24326]} ، وكذا رواه النسائي{[24327]} في " التفسير " من حديث الزبيدي ، عن الزهري ، به{[24328]} . ورواه الترمذي فيه عن الحُسَين بن حريث ؛ عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن رجل من الأنصار ، رضي الله عنه{[24329]} ، والله{[24330]} أعلم .

حديث آخر : قال ابن أبى حاتم : حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي - والسياق لمحمد بن عوف - قالا حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد - هو ابن مسلم - عن عبد الرحمن بن يزيد{[24331]} بن جابر ، عن عبد الله بن أبي زكرياء ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سَمْعان{[24332]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السموات منه{[24333]} رجفة - أو قال : رعدة - شديدة ؛ من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل على الملائكة ، كلما مَرّ بسماء سماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول : قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض " .

وكذا رواه ابن جرير وابن خُزَيمة ، عن زكريا بن أبان المصري ، عن نعيم بن حماد ، به . {[24334]}

قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم ، رحمه الله .

وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العَوفي ، عن ابن عباس - وعن قتادة : أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى ، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية .


[24304]:- في ت: "ثم قال".
[24305]:- زيادة من أ.
[24306]:- زيادة من ت ، أ.
[24307]:- تقدمت أحاديث الشفاعة عند تفسير الآية: 79 من سورة الإسراء.
[24308]:- في س ، أ: "تسمع".
[24309]:- زيادة من أ.
[24310]:- في ت: "بالعين".
[24311]:- تفسير الطبري (22/64).
[24312]:- في ت: "قال البخاري عند تفسيره هذه الآية الكريمة في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة".
[24313]:- في أ: "بعضهم".
[24314]:- في أ: "وسدد".
[24315]:- في أ: "الآخر".
[24316]:- في أ: "وكذا ، يوم كذا".
[24317]:- صحيح البخاري برقم (4800) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (3223) وسنن ابن ماجه برقم (194).
[24318]:- زيادة من ت ، س ، والمسند.
[24319]:- زيادة من ت ، س ، والمسند.
[24320]:- في ت ، س: "ويموت".
[24321]:- في تـ س: "السماء".
[24322]:- زيادة من ت ، س ، والمسند.
[24323]:- المسند (1/218).
[24324]:- في س: "بن عبد الله".
[24325]:- صحيح مسلم برقم (2229).
[24326]:- صحيح مسلم برقم (2229).
[24327]:- في ت: "وكذا رواه النسائي والترمذي".
[24328]:- سنن الترمذي برقم (3224).
[24329]:- النسائي في السنن الكبرى برقم (11272).
[24330]:- في س: "فالله".
[24331]:- في أ: "زيد".
[24332]:- في ت: "حديث آخر رواه ابن جرير بإسناده عن النواس بن سمعان".
[24333]:- في أ: "منها".
[24334]:- تفسير الطبري (22/63) والتوحيد لابن خزيمة ص (95) ورواه ابن عاصم في السنة برقم (515) من طريق محمد بن عوف ، عن نعيم بن حماد ، به.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

المعنى أن كل من دعوتم إلهاً من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن ، فكأنه قال ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم واختلف المتأولون في قوله تعالى : { إلا لمن أذن له } فقالت فرقة معناه { لمن أذن لهم } أن يشفع ، فيه ، وقالت فرقة معناه { لمن أذن له } أن يشفع هو .

قال القاضي أبو محمد : واللفظ يعمهما ، لأن الإذن إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له ، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك ، وانظر أن اللام الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله { لمن } تقول شفعت لفلان ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أُذن »{[9653]} بضم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «أذَن » بفتحها ، والضمير في { قلوبهم } عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة ، ففي الكلام حذف يدل عليه الظاهر فكأنه قال ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم بل هم عبدة مستسلمون أبداً حتى إذا فزع عن قلوبهم .

قال الفقيه الإمام القاضي : وتظاهرت الأحاديث{[9654]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعني قوله { حتى إذا فزع عن قلوبهم } إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل وبالأمر يأمر به سمعت كجر سلسلة الحديد على صفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة ، وقيل خوف أن تقوم الساعة فإذا فزع ذلك { فزع عن قلوبهم } أي أطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل { ماذا قال ربكم } فيقول المسؤولون قال { الحق هو العلي الكبير } وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى{[9655]} ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله { الذين زعمتم } [ سبأ : 22 ] لم تتصل لهم هذه الآية بما قبلها فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار بعد حلول الموت { فزع عن قلوبهم } بفقد الحياة فرأوا الحقيقة وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ { ماذا قال ربكم } فيقولون قال { الحق } يقرون حين لا ينفعهم الإقرار ، وقالت فرقة الآية في جميع العالم ، وقوله { حتى إذا } يريد في القيامة .

قال الفقيه الإمام القاضي : والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذان بعيدان ، وقرأ جمهور القراء «فُزع » بضم الفاء وكسر الزاي{[9656]} ومعناه أطير الفزع منهم ، وهذه الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال ، لأن " فعّل " أصلها الإدخال في الشيء{[9657]} كعلمت ونحوها وقولك : فزعت زيداً معناه أزلت الفزع عنه ، وكذلك جزعته معناه أزلت الجزع عنه ، ومنه الحديث فدخل ابن عباس على عمر بجزعة{[9658]} ومنه مرضت فلاناً أي أزلت عنه المرض .

قال الفقيه الإمام القاضي : وانظر أن مطاوع هذه الأفعال يلحق ( بتحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوت ){[9659]} ، وقرأ ابن عامر «فزّع » بفتح الفاء وشد الزاي وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي المتوكل الناجي واليماني ، وقرأ الحسن البصري بخلاف «فُزِع » بضم الفاء وكسر الزاي وتخفيفها كأنه بمعنى أقلع ، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال معنى هذه القراءة فزع الشيطان عن قلوبهم أي بادر ، وقرأ أيوب عن الحسن أيضاً «فُرّغ » بالفاء المضمومة والراء المشددة غير منقوطة والغين المنقوطة من التفريغ ، قال أبو حاتم رواها عن الحسن نحو من عشرة أنفس وهي قراءة أبي مجلز .

وقرأ مطر الوراق عن الحسن «فزع » على بناء الفعل للفاعل وهي قراءة مجاهد والحسن أيضاً «فرغ » بالراء غير منقوطة مخففة من الفراغ ، قال أبو حاتم وما أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه فاختلفت ألفاظ فيها{[9660]} ، قرأ عيسى بن عمر «حتى إذا افرنقع » وهي قراءة ابن مسعود ومعنى هذا كله وقع فراغها من الفزع والخوف ، ومن قرأ شيئاً من هذا على بناء الفعل للمفعول فقوله عز وجل { عن قلوبهم } في موضع رفع ، ومن قرأ على بناء الفعل للفاعل فقوله { عن قلوبهم } في موضع نصب ، وافرنقع معناه تفرق ، وقوله { ماذا } يجوز أن تكون «ما » في موضع نصب ب { قال } ويصح أن تكون في موضع رفع بمعنى أي شيء قال ، والنصب في قوله { الحق } على نحوه في قوله { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً }{[9661]} [ النحل : 30 ] لأنهم حققوا أن ثم ما أنزل ، وحققوا هنا أن ثم ما قيل ، وقولهم { وهو العلي الكبير } تمجيد وتحميد .


[9653]:ما بين العلامتين-...- زيادة للتوضيح والبيان.
[9654]:من هذه الأحاديث ما أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، يفزعهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكنم؟ قالوا: الذي قال الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقوا السمع، ومسترقوا السمع هكذا. واحد فوق آخر- وصفّ سفيان بيده وفرج بين أصابعه، نصبها بعضها فوق بعض- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل ان يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء).
[9655]:ناقش أبو حيان الأندلسي في "البحر المحيط" كلام ابن عطية هذا محاولا إظهار بعض الخطإ فيه، فارجع إليه هناك، (7-278).
[9656]:أي: مع تشديدها.
[9657]:(فعّل) تأتي لمعان كثيرة، أوّلها وأصلها الإدخال في الشيء، يقال: فزعه بمعنى أخافه وروعه، أي أدخله في الخوف والروع، ومنها الإزالة نحو قرّدت البعير، بمعنى: أزلت عنه القراد، ونحو ما ذكره ابن عطية من أفعال.
[9658]:الحديث رواه البخاري في صحيحه في باب"مناقب عمر"، عن المسوار بن مخرمة، قال: لما طعن عمر- رضي الله عنه- جعل يألم، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما- وكأنه يجزعه-: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض...الخ وهو حديث طويل.
[9659]:تخوت الشيء: اختطفه.
[9660]:قال أبو الفتح عثمان بن جني في "المحتسب":"يعني أبو حاتم اجتماع معنى (ف ز ع) مع معنى(ف ر غ) في أن الفزع: قلق ومفارقة للموضوع المقلوق عليه، والفراغ: إخلاء الموضع، فهما من حيث المعنى ملتقيان، وكذلك معنى (افرنقع)، يقال: افرنقع القوم عن الشيء، أي:تفرقوا عنه. ومما يحكى في ذلك أن أبا علقمة النحوي ثار به المُرار(وهو مزاج من أمزجة البدن)، فاجتمع الناس عليه، فلما أفاق قال: مالكم قد تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا عني. قال: فقال بعض الحاضرين: إن شيطانه يتكلم بالهندية".ا هـ. المحتسب(2-193).
[9661]:من قوله تعالى في الآية(30) من سورة (النحل):{وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة}، وفي الأصول خطأ في الآية حيث وردت بحيث تجمع بين هذه الآية، وبين الآية(24) من نفس السورة وهي قوله تعالى:{وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين}.