{ قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني ، وينصرني ؟ ! .
فلا أتخذ من دونه تعالى وليا ، لأنه فاطر السماوات والأرض ، أي : خالقهما ومدبرهما . { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } أي : وهو الرزاق لجميع الخلق ، من غير حاجة منه تعالى إليهم ، فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق ، الغني الحميد ؟ " { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لله بالتوحيد ، وانقاد له بالطاعة ، لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي .
{ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : ونهيت أيضا ، عن أن أكون من المشركين ، لا في اعتقادهم ، ولا في مجالستهم ، ولا في الاجتماع بهم ، فهذا أفرض الفروض عليَّ ، وأوجب الواجبات .
والآن ، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق ، وأن الله وحده هو المالك . . . يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله ، والعبودية لغير الله ، والولاء لغير الله . ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله ، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام . وتذكر من صفات الله سبحانه : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه الرازق المطعم ، وأنه الضار النافع ، وأنه القادر القاهر . كما يذكر العذاب المخوف المرهوب . . فتجلل الموقف كله ظلال الجلال والرهبة ، في إيقاع مدو عميق :
( قل : أغير الله أتخذ وليا ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .
إن هذه القضية . . قضية اتخاذ الله وحده وليا . بكل معاني كلمة " الولي " . أي اتخاذه وحده ربا ومولى معبودا يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده ؛ ويدين له بالعبادة له شعائرها وحده . واتخاذه وحده ناصرا يستنصر به ويعتمد عليه ، ويتوجه إليه في الملمات . . إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها . فإما إخلاص الولاء لله - بهذه المعاني كلها - فهو الإسلام . وإما إشراك غيره معه في أي منها ، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام !
وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع :
( قل : أغير الله أتخذ وليا ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين ) . .
إنه منطق الفطرة القوي العميق . . لمن يكون الولاء ولمن يتمحض ؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما ؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاما ؟
( قل : أغير الله أتخذ وليًا ) . . وهذه صفاته سبحانه . . أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله وليا ؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه ، فالله هو فاطر السماوات والأرض ، فله السلطان في السماوات والأرض . وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه ، فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض . ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق ؟
ثم . . ( قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ) . . والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله وليا . فاتخاذ غير الله وليا - بأي معنى - هو الشرك . ولن يكون الشرك إسلاما . .
قضية واحدة محددة ، لا تقبل لينا ولا تميعا . . إما أفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة ؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها ؛ وولاء القلب والعمل ، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك . . إما هذا كله فهو الإسلام . . وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك . الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام .
لقد أمر رسول الله [ ص ] أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة ؛ ليجعل لآلهتهم مكانا في دينه ، مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين . وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم ، . . وأولها تقاليد التحريم والتحليل . . في مقابل أن يكفوا عن معارضته ، وأن يجعلوه رئيسا فيهم ؛ ويجمعوا له من مالهم ، ويزوجوه أجمل بناتهم !
لقد كانوا يرفعون يدا للإيذاء والحرب والتنكيل ، ويمدون يدا بالإغراء والمصالحة واللين . .
وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر رسول الله [ ص ] أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف ، وبهذا الحسم الصريح ، وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالا للتمييع .
ثم قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم ، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه{[10592]} المستقيم : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } كَمَا قَالَ { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] ، والمعنى : لا أتخذ وليًا إلا الله وحده لا شريك له ، فإنه فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سَبَق .
{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } أي : وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * [ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ]{[10593]} } [ الذاريات : 56 - 58 ] .
وقرأ بعضهم هاهنا : { وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ } الآية{[10594]} أي : لا يأكل .
وفي حديث سُهَيْل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[10595]} قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فانطلقنا معه ، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال : الحمد لله الذي يُطعِم ولا يَطْعَم ، ومَنَّ علينا فهدانا ، وأطعمنا وسَقانا وكلّ بَلاء حَسَن أبلانا ، الحمد لله غير مُودّع{[10596]} ولا مكافَأ ولا مكفور ولا مُسْتَغْنًى عنه ، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام ، وسقانا من الشراب ، وكسانا من العري ، وهدانا من الضلال ، وبَصَّرنا من العَمَى ، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين " {[10597]}
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أي : من هذه الأمة .
قال الطبري وغيره : أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جواباً لكلامهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يحتاج إلى سند في أن هذا نزل جواباً وإلا فظاهر الآية لا يتضمنه ، والفصيح هو أنه لما قرر معهم أن الله تعالى { لمن ما في السماوات والأرض } [ الأنعام : 12 ] { وله ما سكن في الليل والنهار } [ الأنعام : 13 ] وأنه سميع عليم ، أمر أن يقول لهم على جهة التوبيخ والتوقيف { أغير } هذا الذي هذه صفاته { أتخذ ولياً } بمعنى أن هذا خطأ لو فعلته بين . وتعطي قوة الكلام أن من فعله من سائر الناس بين الخطأ ، و { اتخذ } عامل في قوله { أغير } وفي قوله : { ولياً } تقدم أحد المفعولين ، والولي لفظ عام لمعبود وغير ذلك من الأسباب الواصلة بين العبد وربه ثم أخذ في صفات الله تعالى فقال : { فاطر } بخفض الراء نعت لله تعالى ، وفطر معناه ابتدع وخلق وأنشأ ، وفطر أيضاً في اللغة : شق ، ومنه { هل ترى من فطور }{[4841]} أي من شقوق ، ومن هذا انفطار السماء ، وفي هذه الجهة يتمكن قولهم : فطر ناب البعير إذا خرج لأنه يشق اللثة ، وقال ابن عباس : ما كنت أعرف معنى { فاطر السماوات } حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها .
قال القاضي أبو محمد : فحمله ابن عباس على هذه الجهة ، ويصح حمله ، على الجهة الأخرى أنه شق الأرض والبئر حين احتفرها ، وقرأ ابن أبي عبلة : «فاطرُ » برفع الراء على خبر ابتداء مضمر أو على الابتداء . و{ يطعم ولا يطعم } المقصود به َيرزق ولا ُيرزق ، وُخص الإطعام من أنواع الرزق لمسّ الحاجة إليه وشهرته واختصاصه بالإنسان ، وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة «يُطعِم » بضم الياء وكسر العين في الثاني مثل الأول يعني الوثن أنه لا يطعم وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه في الثاني «ولا يَطعم » بفتح الياء على مستقبل طعم فهي صفة تتضمن التبرية أي لا يأكل ولا يشبه المخلوقين ، وقوله تعالى : { قل إني أمرت } إلى { عظيم } قال المفسرون : المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة ، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك ، قال طائفة : في الكلام حذف تقديره : وقيل لي ولا تكونن من الممترين .
قال القاضي أبو محمد : وتلخيص هذا أنه عليه السلام أمر فقيل له : كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين فلما أمر في الآية أن يقول ما أمر به جاء بعض ذلك على المعنى وبعضه باللفظ بعينه .