وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على المدينة ، فحصروا المدينة ، واشتد الأمر ، وبلغت القلوب الحناجر ، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة ، والشدائد الشديدة ، فلم يزل الحصار على المدينة ، مدة طويلة ، والأمر كما وصف اللّه : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } أي : الظنون السيئة ، أن اللّه لا ينصر دينه ، ولا يتم كلمته .
ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير :
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؛ وإذ زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة . إن يريدون إلا فرارا . .
إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته ، وكل انفعالاته ، وكل خلجاته ، وكل حركاته ، ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير .
ننظر فنرى الموقف من خارجه : إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم . .
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس : ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) . . وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق ، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب .
( وتظنون بالله الظنونا ) . . ولا يفصل هذه الظنون . ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج ، وذهابها كل مذهب ، واختلاف التصورات في شتى القلوب .
وقوله : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ } أي : الأحزاب { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة ، { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } أي : من شدة الخوف والفزع ، { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } .
قال ابن جرير : ظن بعض مَنْ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين ، وأن الله سيفعل ذلك{[23239]} .
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } : ظن المؤمنون{[23240]} كل ظن ، ونجم النفاق حتى قال مُعَتّب{[23241]} بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف - : كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط .
وقال الحسن في قوله : { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، {[23242]} وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
وقال{[23243]} ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري ، حدثنا أبو عامر( ح ) وحدثنا أبي ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا الزبير - يعني : ابن عبد الله ، مولى عثمان بن عفان - عن ُرَتْيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن رَوْعاتنا " . قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح ، فهزمهم بالريح .
وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل ، عن أبي عامر العقدي{[23244]} .
{ إذ جاؤكم } بدل من إذا جاءتكم . { من فوقكم } من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان . { ومن أسفل منكم } من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش . { وإذ زاغت الأبصار } مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا . { وبلغت القلوب الحناجر } رعبا فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب . { وتظنون بالله الظنونا } لأنواع من الظن فظن المخلصون الثبت القلوب أن الله منجز وعده في إعلاء دينه ، أو ممتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكي عنهم ، والألف مزيدة في أمثاله تشبيها للفواصل بالقوافي وقد أجرى نافع وابن عامر وأبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف ، ولم يزدها أبو عمرو وحمزة ويعقوب مطلقا وهو القياس .
{ إذ } هذه لا بد من الأولى في قوله : { إذ جاءتكم } [ الأحزاب : 9 ] ، وقوله تعالى : { من فوقكم } يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، { ومن أسفل منكم } يريد مكة وسائر تهامة ، قاله مجاهد وقيل «من فوق وأسفل » هنا إنما يراد به ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة وطائفة في أسفلها ، وهذه عبارة عن الحصر ، و { زاغت } معناه مالت عن مواضعها ، وذلك فعل الواله الفزع المختبل ، وأدغم الأعمش { إذ زاغت } وبين الذال الجمهور وكل حسن ، { وبلغت القلوب الحناجر } عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها شعاعاً ويجد كأن حشوته وقلبه يصعد لينفصل ، فليس بلوغ القلوب الحناجر حقيقة بالنقلة بل يشير لذلك وتجيش فيستعار لها بلوغ الحناجر ، وروى أبو سعيد الخدري أن المؤمنين قالوا يوم الخندق : يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ، قال : «نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا » ، فقالوها فضرب الله تعالى وجوه الكفار بالريح فهزمهم{[9467]} .
وقوله { وتظنون بالله الظنونا } أي تكادون تضطربون وتقولون ما هذا الخلف للموعد ، وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها وأما المنافقون فجلحوا{[9468]} ونطقوا ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة «الظنونا » بالألف في الوصل والوقف ، وذلك اتباع لخط المصحف ، وعلته تعديل رؤوس الآي وطرد هذه العلة أن يلازم الوقف ، وقد روي عن أبي عمرو أنه كان لا يصل ، فكان لا يوافق خط المصحف وقياس الفواصل ، وقرأ أبو عمرو أيضاً وحمزة في الوصل والوقف «الظنون » بغير ألف وهذا هو الأصل ، وقرأ ابن كثير والكسائي وعاصم وأبو عمرو بالألف في الوقف وبحذفها في الوصل ، وعللوا الوقف بتساوي رؤوس الآي على نحو فعل العرب في القوافي من الزيادة والنقص .