{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
أي : يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة ، واختصه بوحيه ، وفضله على سائر الخلق ، اشكر نعمة ربك عليك ، باستعمال تقواه ، التي أنت أولى بها من غيرك ، والتي يجب عليك منها ، أعظم من سواك ، فامتثل أوامره ونواهيه ، وبلغ رسالاته ، وأدِّ إلى عباده وحيه ، وابذل النصيحة للخلق .
ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد ، ولا يردك عنه راد ، فلا تطع كل كافر ، قد أظهر العداوة للّه ورسوله ، ولا منافق ، قد استبطن التكذيب والكفر ، وأظهر ضده .
فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة ، فلا تطعهم في بعض الأمور ، التي تنقض التقوى ، وتناقضها ، ولا تتبع أهواءهم ، فيضلوك عن الصواب .
سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون
هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة ، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى ، إلى ما قبل صلح الحديبية ، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا . وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة ، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشىء .
والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا ؛ ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا ، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير . أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره . ذلك كافتتاح السورة : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ، إن الله كان عليما حكيما . واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا . ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه . . . ) . . وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا . وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما ) . . والتعقيب على موقف المرجفين " يوم الأحزاب " التي سميت السورة باسمها . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ، وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ? ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة ، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . . وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا ) . .
ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة ، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة ؛ ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة . كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وللنظام الإسلامي .
والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة ، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة ؛ وبيان أصولها من العقيدة والتشريع ؛ كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها ؛ وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد .
وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب ، وغزوة بني قريظة ، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما ، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة ، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف . كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم .
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث ، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود ؛ وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة . سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة ؛ أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية . . ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية ؛ وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة .
ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة ، وتماسك سياقها ، وتساوق موضوعاتها المنوعة . وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة .
تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرينوالمنافقين ، واتباع ما يوحي إليه ربه ، والتوكل عليه وحده . وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته . ونظمه وأوضاعه ، وآدابه وأخلاقه . . أصل استشعار القلب لجلال الله ، والاستسلام المطلق لإرادته ؛ واتباع المنهج الذي اختاره ، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته .
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية . مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . . يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد ، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد ، وإلا نافق ، واضطربت خطاه . وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا ، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا ؛ وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات .
ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار - وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشئ حقيقة وراءه ، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام . . ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم )فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون ، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى [ التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد ] . ويستبقي بعد ذلك أو ينشىء الولاية العامة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المؤمنين جميعا ؛ ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم ؛ كما ينشيء صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) . . ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة ؛ ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية .
ويعقب على هذا التنظيم الجديد ، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم الله ؛ بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب الله القديم ، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين ، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة . على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات ، والمبادئ ، والتوجيهات ، لتقر في الضمائر والأخلاد .
وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة .
ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة الله على المؤمنين ، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين . ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويرا حيا ، في مشاهد متعاقبة ، ترسم المشاعر الباطنة ، والحركات الظاهرة ، والحوار بين الجماعات والأفراد . وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب ؛ وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة ، من خلال ما وقع فعلا ، وما جاش في الأخلاد والضمائر .
وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس ، وتقرير القيم ، ووضعالموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود . . طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت ، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة ، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها . ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع ، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف ، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة ، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف ، وتنمية الصواب والاستقامة . وربط هذا كله بقدر الله وإرادته وعمله ونهجه المستقيم ، وبفطرة النفس ، ونواميس الوجود .
وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ) . . ويتوسطها قوله . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة . ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . وبقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) . . ويختمها بقوله : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ) . .
وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف ، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضا يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) . . ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . . ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) . .
بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعدما وسع الله عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم . تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة . وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ورضين هذا المقام الكريم عند الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وآثرنه على متاع الحياة . ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة . وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته ، والحكمة التي يسمعنها من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات .
فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زيد بن حارثة مولاه . وما نزل في شأنه أولا من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله ، ليس لهم منه شيء ، وليس لهم في أنفسهم خيرة . إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء ، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) . .
ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق ؛ وما وراءه من إبطال آثار التبني ، الذي سبق الكلام عليه في أولالسورة . إبطاله بسابقة عملية ؛ يختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه ، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية ، وصعوبة الخروج عليها . فيقع الابتلاء على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع ، بعد تقريرها في أعماق الضمير : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا ) . .
وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين كافة : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) . .
ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه من المؤمنين . . ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) . .
ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول . ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه . ويستطرد إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي وزوجاته ، في حياته وبعد وفاته وتقرير احتجابهن إلا على آبائهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن . وإلى بيان جزاء الذين يؤذون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أزواجه وبيوته وشعوره ؛ ويلعنهم في الدنيا والآخرة . مما يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا .
ويعقب على هذا بأمر أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين كافة أن يدنين عليهن من جلابيبهن ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) . . وبتهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة بإغراء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بهم وإخراجهم من المدينة كما خرج من قبل بنو قينقاع وبنو النضير ، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة أخيرا . وكل هذا يشير إلى شدة إيذاء هذه المجموعة للمجتمع الإسلامي في المدينة بوسائل شريرة خبيثة .
والشوط السادس والأخير في السورة يتضمن سؤال الناس عن الساعة ، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند الله ، والتلويح بأنها قد تكون قريبا . ويتبع هذا مشهد من مشاهد القيامة : ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) . . ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم : ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) . .
ثم تختم السورة بإيقاع هائل عميق الدلالة والتأثير : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات . وكان الله غفورا رحيما ) . .
وهو إيقاع يكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشرية ، وعلى عاتق الجماعة المسلمة بصفة خاصة ؛ وهي التي تنهض وحدها بعبء هذه الأمانة الكبرى . أمانة العقيدة والاستقامة عليها . والدعوة والصبر على تكاليفها ، والشريعة والقيام على تنفيذها في أنفسهم وفي الأرض من حولهم . مما يتمشى مع موضوع السورة ، وجوها ؛ وطبيعة المنهج الإلهي الذي تتولى السورة تنظيم المجتمع الإسلامي على أساسه .
ومن ثم كان التوجيه الأول في السورة التي تتولى تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين بتشريعات وأوضاع جديدة ، هو التوجيه إلى تقوى الله . وكان القول موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم القائم على تلك التشريعات والتنظيمات . . ( يا أيها النبي اتق الله ) . . فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى ، وهي الحارس القائم في أعماق الضمير على التشريع والتنفيذ . وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه .
وكان التوجيه الثاني هو النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع توجيههم أو اقتراحهم ، والاستماع إلى رأيهم أو تحريضهم : ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) . . وتقديم هذا النهي على الأمر باتباع وحي الله يوحي بأن ضغط الكافرين والمنافقين في المدينة وما حولها كان في ذلك الوقت عنيفا ، فاقتضى هذا النهي عن اتباع آرائهم وتوجيهاتهم ، والخضوع لدفعهم وضغطهم . ثم يبقى ذلك النهي قائما في كل بيئة وكل زمان ، يحذر المؤمنين أن يتبعوا آراء الكافرين والمنافقين إطلاقا ، وفي أمر العقيدة وأمر التشريع وأمر التنظيم الاجتماعي بصفة خاصة . ليبقى منهجهم خالصا لله ، غير مشوب بتوجيه من سواه .
ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة - كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف - فإن الله هو العليم الحكيم ؛ وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته : ( إن الله كان عليما حكيما ) . . وما عند البشر إلا قشور ، وإلا قليل !
[ وهي ] {[1]} مدنية .
قال [ عبد الله بن ] الإمام أحمد{[2]} : حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن زِرِّ قال : قال لي أُبي بن كعب : كَأين تقرأ سورة الأحزاب ؟ أو كَأين تعدها ؟ قال : قلت : ثلاثا وسبعين آية : فقال : قَط ! لقد رأيتها وإنها لتعادل " سورة البقرة " ، ولقد قرأنا فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، نكالا من الله ، والله عليم{[3]} حكيم " {[4]} .
ورواه النسائي من وجه آخر ، عن عاصم - وهو ابن أبي النجود ، وهو ابن بَهْدَلَة - به{[5]} . وهذا إسناد حسن ، وهو يقتضي أنه كان{[6]} فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا ، والله أعلم .
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى ، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا ، فَلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى . وقد قال طَلْق بن حبيب : التقوى : أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، مخافة عذاب الله .
وقوله : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : لا تسمع منهم ولا تستشرهم ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه ، فإنه عليم بعواقب الأمور ، حكيم في أقواله وأفعاله ؛ ولهذا قال : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّبِيّ اتّق اللّهَ بطاعته ، وأداء فرائضه ، وواجب حقوقه عليك ، والانتهاء عن محارمه ، وانتهاك حدوده وَلا تُطِع الكافِرِينَ الذين يقولون لك : اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك وَالمُنافِقِينَ الذين يظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك ، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالاً ، فلا تقبل منهم رأيا ، ولا تستشرهم مستنصحا بهم ، فإنهم لك أعداء إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما يقول : إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم ، وما الذي يقصدون في إظهارهم لك النصيحة ، مع الذي ينطوون لك عليه ، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك ، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه .
بسم الله الرحمن الرحيم { يا أيها النبي اتق الله } ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيما له وتفخيما لشأن التقوى ، والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعا له عما نهى عنه بقوله : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما يعود بوهن في الدين . روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام معهم بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت . { إن الله كان عليما } بالمصالح والمفاسد . { حكيما } لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة .
هكذا سميت { سورة الأحزاب } في المصاحف وكتب التفسير والسنة ، وكذلك رويت تسميتها عن ابن عباس وأبي بن كعب بأسانيد مقبولة . ولا يعرف لها اسم غيره . ووجه التسمية أن فيها ذكر أحزاب المشركين من قريش ومن تحزب معهم أرادوا غزو المسلمين في المدينة فرد الله كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال .
وهي مدنية بالاتفاق ، وسيأتي عن ابن عباس أن آية { وما كان لمؤمن } الخ نزلت في تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة في مكة .
وهي التسعون في عداد السور النازلة من القرآن ، نزلت بعد سورة الأنفال ، وقبل سورة المائدة .
وكان نزولها على قول ابن إسحاق أواخر سنة خمس من الهجرة وهو الذي جرى عليه ابن رشد في البيان والتحصيل . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك : أنها كانت سنة أربع وهي سنة غزوة الأحزاب وتسمى غزوة الخندق حين أحاط جماعات من قريش وأحابيشهم{[1]} وكنانة وغطفان وكانوا عشرة آلاف وكان المسلمون ثلاثة آلاف وعقبتها غزوة قريظة والنضير .
وعدد آيها ثلاث وسبعون باتفاق أصحاب العدد .
ومما يجب التنبيه عليه مما يتعلق بهذه السورة ما رواه الحاكم والنسائي وغيرهما عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب : كأين تعدون سورة الأحزاب? قال : قلت : ثلاثا وسبعين آية . قال : أقط بهمزة استفهام دخلت على قط ، أي حسب فوالذي يحلف به أبي : إن كانت لتعدل سورة البقرة . ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتية نكالا من الله والله عزيز حكيم فرفع فيما رفع ، أي نسخ فيما نسخ من تلاوة آياتها . وما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده وابن الأنباري بسنده عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن . وكلام الخبرين ضعيف السند .
ومحمل الخبر الأول عند أهل العلم أن أبيا حدث عن سورة الأحزاب قبل أن ينسخ منها ما نسخ . فمنه ما نسخت تلاوته وحكمه ومنه ما نسخت تلاوته خاصة مثل آية الرجم . وأنا أقول : إن صح عن أبي ما نسب إليه فما هو إلا أن شيئا كثيرا من القرآن كان أبي يلحقه بسورة الأحزاب وهو من سور أخرى من القرآن مثل كثير من سورة النساء الشبيه ببعض ما في سورة الأحزاب أغراضا ولهجة مما فيه ذكر المنافقين واليهود ، فإن أصحاب رسول الله لم يكونوا على طريقة واحدة في ترتيب آي القرآن ولا في عدة سوره وتقسيم سوره كما تقدم في المقدمة الثامنة ولا في ضبط المنسوخ لفظه . كيف وقد أجمع حفاظ القرآن والخلفاء الأربعة وكافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذين شذوا على أن القرآن هو الذي في المصحف وأجمعوا في عدد آيات القرآن على عدد قريب بعضه من بعض كما تقدم في المقدمة الثامنة .
وأما الخبر عن عائشة فهو أضعف سندا وأقرب تأويلا فإن صح عنها ، ولا إخاله ، فقد تحدثت عن شيء نسخ من القرآن كان في سورة الأحزاب .
وليس بعد إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصحف عثمان مطلب لطالب .
ولم يكن تعويلهم في مقدار القرآن وسوره إلا على حفظ الحفاظ . وقد افتقد زيد ابن ثابت آية من سورة الأحزاب لم يجدها فيما دفع إليه من صحف القرآن فلم يزل يسأل عنها حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وقد كان يسمع رسول الله يقرؤها ، فلما وجدها مع خزيمة لم يشك في لفظها الذي كان عرفه . وهي آية { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } إلى قوله { تبديلا } . وافتقد الآيتين من آخر سورة براءة فوجدهما عند أبي خزيمة بن أوس المشتهر بكنيته .
وبعد فخبر أبي بن كعب خبر غريب لم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله فنوقن بأنه دخله وهم من بعض رواته . وهو أيضا خبر آحاد لا ينتقض به إجماع الأمة على المقدار الموجود من هذه السورة متواترا .
وفي الكشاف : وأما ما يحكى أن تلك الزيادة التي رويت عن عائشة كانت مكتوبة في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن ، أي الشاة ، فمن تأليفات الملاحدة والروافض ا هـ .
ووضع هذا الخبر ظاهر مكشوف فإنه لو صدق هذا لكانت هذه الصحيفة قد هلكت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده والصحابة متوافرون وحفاظ القرآن كثيرون فلو تلفت هذه الصحيفة لم يتلف ما فيها من صدور الحفاظ .
وكون القرآن قد تلاشى منه كثير هو أصل من أصول الروافض ليطعنوا به في الخلفاء الثلاثة ، والرافضة يزعمون أن القرآن مستودع عند الإمام المنتظر فهو الذي يأتي بالقرآن وقر بعير . وقد استوعب قولهم واستوفى إبطاله أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم من القواصم .
أغراض هذه السورة لكثير من آيات هذه السورة أسباب لنزولها ، وأكثرها نزل للرد على المنافقين أقوالا قصدوا بها أذى النبي صلى الله عليه وسلم .
وأهم أغراضها : الرد عليهم قولهم لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى إبطال التبني .
وأن الحق في أحكام الله لأنه الخبير بالأعمال وهو الذي يقول الحق .
وأن ولاية النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أقوى ولاية ، ولأزواجه حرمة الأمهات لهم ، وتلك ولاية من جعل الله فهي أقوى وأشد من ولاية الأرحام .
وتحريض المؤمنين على التمسك بما شرع الله لهم لأنه أخذ العهد بذلك على جميع النبيين .
والاعتبار بما أظهره الله من عنايته بنصر المؤمنين على أحزاب أعدائهم من الكفرة والمنافقين في وقعة الأحزاب ودفع كيد المنافقين .
والثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن الدين .
ونعمة الله عليهم بأن أعطاهم بلاد أهل الكتاب الذين ظاهروا الأحزاب .
وانتقل من ذلك إلى أحكام في معاشرة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فضلهن وفضل آل النبي صلى الله عليه وسلم وفضائل أهل الخير من المسلمين والمسلمات .
وتشريع في عدة المطلقة قبل البناء .
وما يسوغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج . وحكم حجاب أمهات المؤمنين ولبسة المؤمنات إذا خرجن .
وتهديد المنافقين على الإرجاف بالأخبار الكاذبة .
وختمت السورة بالتنويه بالشرائع الإلهية فكان ختامها من رد العجز على الصدر لقوله في أولها { واتبع ما أوحي إليك من ربك } ، وتخلل ذلك مستطردات من الأمر بالائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وتحريض المؤمنين على ذكر الله وتنزيهه شكرا له على هديه . وتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند الله وفي الملأ الأعلى ، والأمر بالصلاة عليه والسلام .
ووعيد المنافقين الذين يأتون بما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين .
والتحذير من التورط في ذلك كيلا يقعوا فيما وقع فيه الذين آذوا موسى عليه السلام .
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وندائه بوصفه مُؤذِنٌ بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة له .
فالنداء الأول : لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه .
والنداء الثاني : لافتتاح غرض التنويه بمقام أزواجه واقترابه من مقامه .
والنداء الثالث : لافتتاح بيان تحديد تقلبات شؤون رسالته في معاملة الأمة .
والنداء الرابع : في طالعَة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه .
والنداء الخامس : في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات .
فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله ، وهو نظير النداء الذي في قوله { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] الآية ، وقوله : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] الآيات .
ونداء النبي عليه الصلاة والسلام بوصف النبوءة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف ليُربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره ولذلك لم يناد في القرآن بغير { يا أيها النبي } أو { يا أيها الرسول } [ المائدة : 67 ] بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله { يوم لا يُخزِي الله النبي } [ التحريم : 8 ] { وقال الرسول يا رب } [ الفرقان : 30 ] { قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [ الأحزاب : 6 ] ، ويجيء باسمه العلم كقوله { ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم } [ الأحزاب : 40 ] .
وقد يتعين إجراء اسمه العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى { محمد رسولُ الله } [ الفتح : 29 ] وقوله { وما محمد إلا رسولٌ } [ آل عمران : 144 ] . وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله ، أو تلقين لهم بأن يسمُّوه بذلك ويدْعوه به ، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لي خمسة أسماءٍ : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب » تعليماً للأمة . وقد أنهى أبو بكر ابن العربي أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبعة وستين وأنهاها السيوطي إلى ثلاثمائة . وذكر ابن العربي أن بعض الصوفية قال : أسماء النبي ألفَا اسم كما سيأتي عند قوله تعالى : { يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } [ الأحزاب : 45 ] .
والأمر للنبيء بتقوى الله توطئة للنهي عن اتّباع الكافرين والمنافقين ليحصل من الجملتين قصرُ تقواه على التعلق بالله دون غيره ، فإن معنى { لا تطع } مرادف معنى : لاَ تَتَّقِ الكافرين والمنافقين ، فإن الطاعة تقوى ؛ فصار مجموع الجملتين مفيداً معنى : يأيها النبي لا تتق إلا الله ، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يُقال : لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبي صلى الله عليه وسلم ربه أمر معلوم ، فسلك مسلك الإطناب لهذا ، كقول السموْأل :
تَسِيل على حدّ الظُبات نفوسنا *** وليستْ على غير الظُبات تسيل
فجاء بجملتي إثبات السيلان يِقَيْدٍ ونفيه في غير ذلك القيد للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف .
فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي ، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما . وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله { اتّقِ الله } والنهي في قوله { ولا تُطِعِ الكافرين والمنافقين } مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله ، فأشعر ذلك أن تشريعاً عظيماً سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته ، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين .
وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل أقوالهم ليَيْأسوا من ذلك لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد ويظهرون أنهم ينصحون النبي صلى الله عليه وسلم ويلحّون عليه بالطلبات نصحاً تظاهراً بالإسلام .
والمراد بالكافرين المجاهرون بالكفر لأنه قوبل بالمنافقين ، فيجوز أن يكونوا المشركين كما هو غالب إطلاق هذا الوصف في القرآن والأنسبُ بما سيعقبه من قوله { مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْن في جوفه } [ الأحزاب : 4 ] إلى آخر أحكام التبنِّي ، والموافق لما روي في سبب نزولها على ضعف فيه سنبينه ؛ ويجوز أن يكونوا اليهودَ كما يقتضيه ما يروى في سبب النزول ، ولو حمل على ما يعمّ نوعي الكافرين المجاهرين لم يكن بعيداً .
والطاعة : العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة . وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك ، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها ، مثل أن يعدل عن تزوج مُطَلَّقة متبناه لقول المنافقين : إن محمداً ينهَى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه زيد بن حارثة ، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله تعالى : { وتَخشى الناسَ والله أحق أن تَخشاه } [ الأحزاب : 37 ] ، وقوله : { ولا تطِع الكافرين والمنافقين ودَعْ أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] عقب قضية امرأة زيد . ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار موجباً مصير المظاهرَة أُمًّا للمُظاهِر حراماً عليه قربانها أبداً ، ولذلك أردفت الجملة بجملة { إن الله كان عليماً حكيماً } تعليلاً للنهي .
والمعنى : أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح .
ودخول { إنّ } على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغننٍ غناءها على ما بُيّن في غير موضع ، وشاهده المشهور قول بشار :
بَكِّرَا صَاحِبَيّ قبل الهجير *** إن ذاك النجاحَ في التبكير
وقد ذكر الواحدي في « أسباب النزول » والثعلبي والقشيري والماوردي في « تفاسيرهم » : أن قوله تعالى { ولا تُطِعِ الكافرين والمنافقين } نزل بسبب أنه بعد وقعة أُحُد جاء إلى المدينة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السُّلَمي عَمرُو بن سفيان من قريش وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمان في المدينة وأن ينزلوا عند عبد الله بن أبيّ ابن سلول ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أُبيّ ومعتِّب بن قُشير ، والجدّ بن قيس ، وطمعةَ بن أُبَيْرِق فسألوا رسول الله أن يترك ذكر آلهة قريش ، فغضب المسلمون وهَمّ عُمر بقتل النفر القرشيين ، فمنعه رسول الله لأنه كان أعطاهم الأمان ، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فنزلت هذه الآية ، أي : اتق الله في حفظ الأمان ولا تطع الكافرين وهم النفر القرشيون والمنافقين وهم عبد الله بن أبّي ومن معه . وهذا الخبر لا سند له ولم يعرج عليه أهل النقد مثل الطبري وابن كثير .