تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

{[219]}المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات : المنافقون المظهرون إسلامهم ، ولم يهاجروا مع كفرهم ، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه ، فبعضهم تحرج عن قتالهم ، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان ، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم . فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا ، بل أمرهم واضح غير مشكل ، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم ،


[219]:- في هامش أ: (وقد ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: "فما لكم في المنافقين فئتين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد". وليس هناك علامة تدل على محل هذه الزيادة.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

88

ما لكم فئتين في شأن المنافقين. والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم ؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم . بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء .

ثم استنكار آخر :

( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ؟ ) ..

ولعله كان في قول الفريق .. المتسامح !!.. ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا ، ويتركوا اللجلجة ! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم .

ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا ..

فإنما يضل الله الضالين . أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة . وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية بما بعدوا عنها، وسلكوا غير طريقها ونبذوا العون والهدى ، وتنكروا لمعالم الطريق !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين ، واختلف في سبب ذلك ، فقال الإمام أحمد :

حدثنا بَهْز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا{[7969]} فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها طَيْبة ، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة " .

أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة{[7970]} .

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا بمكة ، قد تكلموا بالإسلام ، كانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون{[7971]} حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس ، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله ! أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم . فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين{[7972]} عن شيء فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }

رواه ابن أبي حاتم ، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا .

وقال زيد بن أسلم ، عن ابنٍ لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك .

وهذا غريب ، وقيل غير ذلك .

وقوله : { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } أي : ردهم وأوقعهم في الخطأ .

قال ابن عباس : { أَرْكَسَهُمْ } أي : أوقعهم . وقال قتادة : أهلكهم . وقال السدي : أضلهم .

وقوله : { بِمَا كَسَبُوا } أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل .

{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي : لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه .


[7969]:في د: "غير ذلك".
[7970]:المسند (5/184) وصحيح البخاري برقم (1884، 4050) وصحيح مسلم برقم (1384).
[7971]:في د: "يريدون".
[7972]:في ر: "منهم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوَاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } : فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين ، { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يعني بذلك : والله ردّهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم . والإركاس : الردّ ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

فأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النّارِ إنّهُمُ ***كانُوا عُصَاةً وقالوا الإفْكَ وَالزّورَا

يقال منه : أركسهم وركسهم . وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله وأبيّ : «والله ركسهم » بغير ألف .

واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وانصرفوا إلى المدينة ، وقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولأصحابه : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُمْ } . ذكر من قال ذلك :

حدثني الفضل بن زياد الواسطي ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاريّ يحدّث عن زيد بن ثابت : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أُحد ، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا . فنزلت هذه الاَية : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا } . . . الاَية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة : «أنّها طَيّبَةٌ وإنّها تَنْفِي خَبَشَها كمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الفِضّةِ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه .

حدثني زريق بن السخت ، قال : حدثنا شبابة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : ذكروا المنافقين عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال فريق : نقتلهم ، وقال فريق : لا نقتلهم فأنزل الله تبارك وتعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } . . . إلى آخر الاَية .

وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة ، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } قال : قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدّوا بعد ذلك ، فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها . فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . فبين الله نفاقهم ، فأمر بقتالهم . فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة ، فلقيهم هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم حلف ، وهو الذي حصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يؤمنون هلالاً ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله بنحوه ، غير أنه قال : فبين الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم فلم يقاتلوا يومئذ ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف .

وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، فليس علينا منهم بأس ! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوّكم ! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك ! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء¹ فنزلت : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } . . . الاَية .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } . . . الاَية ، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة ، وكانا قد تكلما بالإسلام ، ولم يهاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فلقيهما ناس من أصحاب نبيّ الله وهما مقبلان إلى مكة ، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال ، وقال بعضهم : لا تحلّ لكم . فتشاجروا فيهما ، فأنزل الله في ذلك : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُم } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر بن راشد ، قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، وكان ذلك منهم كذبا . فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال ، وقالت طائفة : دماؤهم حرام¹ فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } هم ناس تخلفوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة ، وأعلنوا الإيمان ، ولم يهاجروا . فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا . فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .

وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتّخَمْناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظّهْر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا¹ واختلف فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء الله المنافقون ، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم ! وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتّخموها . فخرجوا إلى الظهر يتنزّهون ، فإذا برءوا رجعوا . فقال الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } يقول : ما لكم تكونون فيهم فئتين { والله أرْكَسَهُمْ بمَا كَسبوا } .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : هذا في شأن ابن أبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم . فقال سعد بن معاذ : فإنى أبرأ إلى الله وإلى رسوله منه ! يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب¹ لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين : التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم ، والاَخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة ، وفي قول الله تعالى ذكره : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا } أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر ، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرض هجرة ، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه .

واختلف أهل العربية في نصب قوله : { فِئَتَيْنِ } فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : ما لك قائما ، يعني ما لك في حال القيام . وهذا قول بعض البصريين¹ وقال بعض نحويي الكوفيين : هو منصوب على فعل «ما لك » ، قال : ولا يُبالَى كان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة . قال : ويجوز في الكلام أن يقول : ما لك السائر معنا ، لأنه كالفعل الذي ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما . قال : وكل موضع صلحت فيه «فعل » و«يفعل » من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة ، كما ينصب كان وأظنّ لأنهنّ نواقص في المعنى وإن ظننت أنهنّ تامات . وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن المطلوب في قول القائل : «ما لك قائما » القيام ، فهو في مذهب كان وأخواتها وأظنّ وصواحباتها .

القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } فقال بعضهم : معناه : ردّهم¹ كما قلنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } ردّهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : والله أوقعهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يقول : أوقعهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : أضلّهم وأهلكهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } قال : أهلكهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم بما عملوا .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم .

وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل بما أغنى عن إعادته .

القول في تأويل قوله تعالى : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام ، فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه من أضله الله عنه ، يعني بذلك : من خذله الله عنه فلم يوفقه للإقرار به . وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية ، يقول لهم جلّ ثناؤه : أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحقّ واتباع الإسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين ؟ { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } يقوله : ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده ، فأضله عنه ، فلن تجد له يا محمد سبيلاً ، يقول : فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله ( عنه ) ، ولا منهجا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

{ فما لكم في المنافقين } فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين . { فئتين } أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم ، وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم . وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد ، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن ، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة و{ فئتين } حال عاملها لكم كقولك : ما لك قائما . و{ في المنافقين } حال من { فئتين } . أي متفرقتين فيهم ، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ، ومعنى الافتراق مستفاد من { فئتين } . والله أركسهم بما كسبوا } ردهم إلى حكم الكفرة ، أو نكسهم بأن صيرهم للنار . وأصل الركس رد الشيء مقلوبا . { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } أن تجعلوه من المهتدين . { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الهدى .