تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } أي : أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة ، وإيضاح الحق ، والله لا يستحيي من الحق ، وكأن في هذا ، جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة ، واعترض على الله في ذلك . فليس في ذلك محل اعتراض . بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم . فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر . ولهذا قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها ، ويتفكرون فيها .

فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلا علموا أنها حق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ، ونعمة سابغة .

{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفرا إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ولهذا قال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية . قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [ وضلالة ] وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة [ ورحمة ] وزيادة خير إلى خيرهم ، فسبحان من فاوت بين عباده ، وانفرد بالهداية والإضلال .

ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى{[78]}  فقال : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعة الله ، المعاندين لرسل الله ، الذين صار الفسق وصفهم ، فلا يبغون به بدلا ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى ، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة .

والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين ، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان ، كالمذكور في هذه الآية ونحوها ، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الآية ] .


[78]:- في ب: ثم ذكر حكمته وعدله في إضلال من يضل.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

1

بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن :

( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما فوقها ، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ، وأما الذين كفروا فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلا الفاسقين . الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . . أولئك هم الخاسرون ) . .

وهذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد نارا ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق - وربما كان اليهود كذلك والمشركون - قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة ، ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة ، كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم ( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) . . وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب ) . .

نقول : إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين - وربما كان اليهود والمشركون - قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن ، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله ، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه ! . . وكان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة ، كما كان يقوم بها المشركون في مكة .

فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس ، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال ، وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها ، وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا .

( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما فوقها ) . .

فالله رب الصغير والكبير ، وخالق البعوضة والفيل ، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل . إنها معجزة الحياة . معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله . . على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل ، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير . وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله - جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب ، وامتحان النفوس :

( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) . .

ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ؛ وبما يعرفون من حكمته . وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم ، وحساسية في أرواحهم ، وتفتحا في مداركهم ، واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله .

( وأما الذين كفروا فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ ) . .

وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته ، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره . ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارا ، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب . يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار ، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله !

هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير :

( يضل به كثيرا ، ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلا الفاسقين ) . .

والله - سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها ، ويتلقاها عباده ، كل وفق طبيعته واستعداده ، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه . والابتلاء واحد . . ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق . . الشدة تسلط على شتى النفوس ، فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية . وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا ، وتخرجه من الصف إخراجا . والرخاء يسلط على شتى النفوس ، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا . وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء . . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس . . ( يضل به كثيرا ) . . ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله ، ( ويهدي به كثيرا )ممن يدركون حكمة الله . ( وما يضل به إلا الفاسقين ) . . الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق ، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهََذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ }

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها .

فقال بعضهم بما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقوله : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّماءِ الاَيات الثلاث ، قال المنافقون : الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال . فأنزل الله إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ .

وقال آخرون بما :

حدثني به أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا قُراد عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : إنّ اللّهَ لا يَسْتَحِيِي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت ، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن ، إذا امتلئوا من الدنيا رِيّا أخذهم الله عند ذلك . قال : ثم تلا فلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ الآية .

وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس بنحوه ، إلا أنه قال : فإذا خلت آجالهم ، وانقطعت مدتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت وتموت إذا رويت فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريّا أخذهم الله فأهلكهم ، فذلك قوله : حَتّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ .

وقال آخرون بما :

حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : إن اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا أي إن الله لا يستحيي من الحقّ أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت ، قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .

وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها .

وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية وفي المعنى الذي نزلت فيه مذهبا ، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس . وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ضربها للمنافقين دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها . فلأن يكون هذا القول ، أعني قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضُرب لهم من الأمثال في هذه السورة أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور .

فإن قال قائل : إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولاَلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى ، لما أخبر عنه أنه لا يستحي أن يضربه مثلاً ، إذْ كان بعضها تمثيلاً لاَلهتهم بالعنكبوت وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب ، وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة فيجوز أن يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما فإن ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن قول الله جل ثناؤه : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرها وكبيرها ابتلاءً بذلك عباده واختبارا منه لهم ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالاً منه به لقوم وهداية منه به لاَخرين كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : مَثَلاً مَا بَعُوضَةً يعني الأمثال صغيرها وكبيرها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم ، ويهديهم الله بها ، ويضلّ بها الفاسقين . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .

وحدثني المثنى ، قال حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .

وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

قال أبو جعفر : لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق ، كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البعوضة أضعف ما خلق الله .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج بنحوه . خصها الله بالذكر في القلة ، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحقّ وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيّب من السماء على ما نَعَتهما به من نَعْتهما .

فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟ قيل : الدلالة على ذلك بينها جلّ ذكره في قوله : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً وأن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الاَيتين المقدمتين ، اللتين مثّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بمُوقِدِ النار وبالصيب من السماء على ما وصف من ذلك قبل قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً قد أنكروا المثل وقالوا : ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ، فأوضح خطأ قيلهم ذلك ، وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه .

وأما تأويل قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي إن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً ، ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى : وَتَخْشَى الناسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناسَ والله أحقّ أن تستحيه فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء .

وأما معنى قوله : أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً فهو أن يبين ويصف ، كما قال جل ثناؤه : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ بمعنى وصف لكم ، وكما قال الكميت :

وذَلِكَ ضَرْبُ أخْماسٍ أُرِيدَت ْلأِسْدَاسٍ عَسَى أنْ لا تَكُونا

بمعنى وصف أخماس . والمثل : الشبه ، يقال : هذا مَثَلُ هذا ومِثْلُه ، كما يقال : شَبَهُه وشِبْهُه ، ومنه قول كعب بن زهير :

كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً *** وَمَا مَوَاعِيدُها إلاّ الأباطِيلُ

يعني شَبَها .

فمعنى قوله إذا : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً : إن الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به وأما «ما » التي مع «مثل » فإنها بمعنى «الذي » ، لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها مثلاً .

فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك كما قلت فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأوّلت : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أن يَضْرِبَ مَثَلاً الذي هو بعوضة ، فالبعوضة على قولك في محل الرفع ، فأنّى أتاها النصب ؟ قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدهما أن «ما » لما كانت في محل نصب بقوله : يَضْرِب وكانت البعوضة لها صلة أعربت بتعريبها فألزمت إعرابها كما قال حسان بن ثابت :

وكَفَى بِنا فَضْلاً على مَنْ غَيْرِنا حُبّ النّبِيّ مُحَمّدٍ إيّانا

فعرّبت غير بإعراب «مَنْ » ، فالعرب تفعل ذلك خاصة في «من » و«ما » تعرب صلاتهما بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا .

وأما الوجه الاَخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر «بين » و«إلى » ، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في «ما » الثانية دلالة عليهما ، كما قالت العرب : «مُطرنا ما زبالة فالثعلبية » ، و«له عشرون ما ناقة فجملاً » ، و«هي أحسن الناس ما قرنا فقدما » ، يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها ، وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول «ما بين كذا إلى كذا » ، ينصبون الأول والثاني ليدلّ النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : ما بعوضة فما فوقها .

وقد زعم بعض أهل العربية أن «ما » التي مع المَثَل صلة في الكلام بمعنى التطوّل ، وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلاً فما فوقها . فعلى هذا التأويل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب«يضرب » ، وأن تكون «ما » الثانية التي في «فما فوقها » معطوفة على البعوضة لا على «ما » .

وأما تأويل قوله : فَمَا فَوْقَهَا : فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف ، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .

وقيل في تأويل قوله : فَمَا فَوْقَها في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشحّ ، فيقول السامع : نعم ، وفوق ذاك ، يعني فوق الذي وصف في الشحّ واللؤم . وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين تُرتضى معرفتهم بتأويل القرآن .

فقد تبين إذا بما وصفنا أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة . فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز في «ما » إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .

القول في تأويل قوله تعالى : فَأما الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأما الّذِينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً .

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ذكره : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله . وقوله : فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعني فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل . كما .

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ أن هذا المثل الحق من ربهم أنه كلام الله ومن عنده . وكما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ : أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه الحقّ من الله .

وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذا مَثَلاً

قال أبو جعفر : وقوله : وأما الّذِينَ كَفَرُوا يعني الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علموا أنه حقّ . وذلك صفة المنافقين ، وإياهم عنى الله جل وعزّ ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية ، فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلاً ، كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي .

حدثنا به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَق مِنْ رَبّهِمْ الآية ، قال : يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم ، ويهديهم الله بها ويضلّ بها الفاسقون . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .

وتأويل قوله : ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلاً ، ف«ذا » الذي مع «ما » في معنى «الذي » وأراد صلته ، وهذا إشارة إلى المثل .

القول في تأويل قوله تعالى : يضلّ به كَثِيرا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرا .

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعزّ : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا يضلّ الله به كثيرا من خلقه ، والهاء في «به » من ذكر المثل . وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ ، ومعنى الكلام : أن الله يضلّ بالمثل الذي يضرّبه كثيرا من أهل النفاق والكفر . كما :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا يعني المنافقين ، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا يعني المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالاً إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له وأنه لما ضربه له موافق ، فذلك إضلال الله إياهم به .

ويهدي به يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم ، لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به ، وذلك هداية من الله لهم به .

وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين ، كأنهم قالوا : ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضلّ به هذا ويهدي به هذا . ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله : وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفاسِقِينَ وفيما في سورة المدثر من قول الله : ( وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ما ينبىء عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ ، أعني قوله : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَما يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ .

وتأويل ذلك ما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ : هم المنافقون .

وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ فسقوا فأضلهم الله على فسقهم .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : وَما يُضِل بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ : هم أهل النفاق .

قال أبو جعفر : وأصل الفسق في كلام العرب : الخروج عن الشيء ، يقال منه : فسقت الرطبة ، إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة ، لخروجها عن جحرها . فكذلك المنافق والكافر سُميا فاسقين لخروجهما عن طاعة ربهما ، ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس : إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يعني به : خرج عن طاعته واتباع أمره . كما :

حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس في قوله : بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي بما بعدوا عن أمري .

فمعنى قوله : وَمَا يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفاسِقِينَ : وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق إلا الخارجين عن طاعته والتاركين اتباع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفاق .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة } لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل ، عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل ، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير كما يمثل العظيم بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم ، كما مثل في الإنجيل غل الصدور ، بالنخالة . والقلوب القاسية ، بالحصاة . ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير . وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد وأطيش من فراشه ، وأعز من مخ البعوض . لا ما قالت الجهلة من الكفار : لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين ؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ؟ وجعلها أقل من الذباب والعنكبوت . وأيضا لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل ؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره ؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى : { إن الله لا يستحي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها . والحياء : انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم ، وهو الوسط بين الوقاحة : التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها ، والخجل : الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا . واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي ، إذا اعتلت نساه وحشاه . وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث : " إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه " . " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " /ح/ فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، ونظيره قول من يصف إبلا : إذا ما استحين الماء يعرض نفسه *** كرعن بسبت في إناء من الورد وإنما عدل به عن الترك ، لما فيه من التمثيل والمبالغة ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة . وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم ، وأصله وقع شيء على آخر ، وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من ، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه . وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا وتسد عنها طرق التقييد ، كقولك أعطني كتابا ما ، أي : أي كتاب كان . أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع ، فإن القرآن كله هدى وبيان ، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه ، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقة وقوة وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه . وبعوضة عطف بيان لمثلا . أو مفعول ليضرب ، ومثلا حال تقدمت عليه لأنه نكرة . أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل . وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى هذا يحتمل { ما } وجوها أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها ، كما حذف في قوله : { تماما على الذي أحسن } وموصوفة بصفة كذلك ، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين . واستفهامية هي المبتدأ ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال ، قال بعده : ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل ، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك . ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران . والبعوض : فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع والعضب ، غلب على هذا النوع كالخموش .

{ فما فوقها } عطف على بعوضة ، أو ما إن جعل اسما ، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت ، كأنه قصد به رد ما استنكروه . والمعنى : أنه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه ، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا ، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلا للدنيا ، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة " فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة ، لقوله عليه الصلاة والسلام " ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة " .

{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء ، قال سيبويه : أما زيد فذاهب معناه ، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء ، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر ، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم ، وذم بليغ للكافرين على قولهم ، والضمير في { أنه } للمثل أو لأن يضرب . و{ الحق } الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة ، من قولهم حق الأمر ، إذا ثبت ومنه : ثوب محقق أي : محكم النسج .

{ وأما الذين كفروا فيقولون } كان من حقه : وأما الذين كفروا فلا يعلمون ، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه ، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه .

{ ماذا أراد الله بهذا مثلا } يحتمل وجهين : أن تكون " ما " استفهامية و " ذا " بمعنى الذي وما بعده صلته ، والمجموع خبر ما . وأن تكون " ما " مع " ذا " اسما واحدا بمعنى : أي شيء ، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله ، والأحسن في جوابه الرفع على الأول ، والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال . والإرادة : نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه ، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع ، والأول مع الفعل والثاني قبله ، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به ، ولذلك اختلف في معنى إرادته ، فقيل : إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ، ولأفعال غيره أمره بها . فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته ، وقيل : علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل ، والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله ، والحق : أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه ، أو معنى يوجب هذا الترجيح ، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال . و{ مثلا } نصب على التمييز ، أو الحال كقوله تعالى : { هذه ناقة الله لكم آية } . { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } جواب ماذا ، أي إضلال كثير وإهداء كثير ، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد ، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما ، وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان ، وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده - ضلال وفسوق ، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم ، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : { وقليل ما هم } ، { وقليل من عبادي الشكور } ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد ، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال :

قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا *** . . .

وقال :

إن الكرام كثير في البلاد وإن *** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

{ وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن حد الإيمان ، كقوله تعالى : { إن المنافقين هم الفاسقون } من قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت . وأصل الفسق : الخروج عن القصد قال رؤبة :

فواسقا عن قصدها جوائرا *** . . .

والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وله درجات ثلاث :

الأولى : التغابي وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها .

الثانية : الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها .

الثالثة : الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها ، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ، ولا بس الكفر . وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ، ولقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } والمعتزلة لما قالوا : الإيمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل ، والكفر تكذيب الحق وجحوده . جعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام ، وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال ، وأدى بهم إلى الضلال . وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به ، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به . وقرئ ( يضل ) بالبناء للمفعول و{ الفاسقون } بالرفع .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ( 26 )

ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في السورة قال الكفار : ما هذه الأمثال ؟ الله عز وجل أجل من أن يضرب هذه أمثالاً ، فنزلت الآية .

وقال ابن قتيبة : «إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت »( {[364]} ) .

وقال قوم : «هذه الآية مثل للدنيا »( {[365]} ) .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى . و { يستحيي } أصله يستحيي ، عينه ولامه حرفا علة ، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت .

وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه ، وابن محيصن وغيرهما «يستحي » بكسر الحاء ، وهي لغة تميم ، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما للالتقاء . ( {[366]} )

واختلف المتأولون في معنى : { يستحيي } في هذه الآية . فرجح الطبري أن معناه يخشى . وقال غيره . معناه يترك وهذا هو الأولى . ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك أو قريب منه . ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك ، رد الله بقوله : { إن الله لا يستحيي } على القائلين كيف يضرب الله مثلاً بالذباب ونحوه ، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول ، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع ، فليست مما يستحيى منه .

وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس ، وهذا غير مرضي .

وقوله تعالى : { أن يضرب } ، { أن } مع الفعل في موضع نصب ، كأنها مصدر في موضع المفعول ، ومعنى { يضرب مثلاً } يبين ضرباً من الأمثال أي نوعاً ، كما تقول : هذا من ضرب هذا ، والضريب المثيل . ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث ، وضرب الذلة ، فيجيء المعنى( {[367]} ) أن يلزم الحجة بمثل( {[368]} ) ، و { مثلاً } مفعول ، فقيل هو الأول ، وقيل هو الثاني ، قدم وهو في نية التأخير ، لأن «ضرب » في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين . ( {[369]} )

واختلفوا في قوله : { ما بعوضة } فقال قوم : { ما } صلة زائدة لا تفيد إلا شيئاً من تأكيد ، وقيل ما نكرة في موضع نصب على البدل من قوله { مثلاً } ، و { بعوضة } نعت ل { ما } ، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها . حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن { أن يضرب } إنما يتعدى إلى مفعول واحد .

وقال بعض الكوفيين : نصب { بعوضة } على تقدير إسقاط حرف الجر ، والمعنى أن يضرب مثلاً ما من بعوضة .

وحكي عن العرب : «له عشرون ما ناقة فجملاً » ، وأنكر أبو العباس هذا الوجه .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يترجح أن { ما } صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصاً وتقريباً( {[370]} ) ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [ الخفيف ]

سلع ما ومثله عشر ما . . . عائل ما وعالت البيقورا( {[371]} )

وبعوضة على هذا مفعول ثان .

وقال قوم : { ما } نكرة ، كانه قال شيئاً . والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت : [ الكامل ] .

فكفى بنا فضلاً على من غيرنا . . . حبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا( {[372]} )

قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم نظير هذا القول( {[373]} ) ، والشبه بالبيت غير صحيح عندي ، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم ، يقال بضع وبعض بمعنى ، وعلى هذا حملوا قول الشاعر( {[374]} ) : [ الوافر ] .

لنعمَ البيتُ بيتُ أبي دثارٍ . . . إذا ما خاف بعضُ القومِ بَعْضا

وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج : «بعوضةٌ » بالرفع .

قال أبو الفتح : وجه ذلك أن «ما » اسم بمنزلة «الذي » ، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلاً ، فحذف العائد على الموصول ، وهو مبتدأ ، ومثله قراءة بعضهم : «تماماً على الذي أحسن » أي على الذي هو أحسن .

وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئ( {[375]} )ً ، أي هو قائل .

وقوله تعالى : { فما فوقها } من جعل { ما } الأولى صلة زائدة ، ف «ما » الثانية عطف على بعوضة ، ومن جعل { ما } اسماً ف «ما » الثانية عطف عليها .

وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما : «المعنى فما فوقها في الصغر » .

وقال قتادة وابن جريج وغيرهما : «المعنى في الكبر » .

قال القاضي أبو محمد : والكل محتمل ، والضمير في { أنه } ، عائد على المثل .

واختلف النحويون في { ماذا }( {[376]} ) : فقيل هي بمنزلة اسم واحد ، بمعنى أي شيء أراد الله ، وقيل «ما » اسم «وذا » اسم آخر بمعنى الذي ، ف «ما » في موضع رفع بالابتداء ، و «ذا » خبره ، ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام .

وقوله : { مثلاً } نصب على التمييز ، وقيل على الحال من «ذا » في { بهذا } ، والعامل فيه الإشارة والتنبيه .

واختلف المتأولون في قوله تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيراً }( {[377]} ) فقيل هو من قول الكافر( {[378]} ) ، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى ؟ وقيل بل هو خبر من الله تعالى( {[379]} ) أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به ، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق . وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم : «إن الله لا يخلق الضلال » ولا خلاف أن قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين }( {[380]} ) من قول الله تعالى .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { ويهدي به كثيراً } إلى آخر الآية رداً من الله تعالى على قول الكفار { يضل به كثيراً } والفسق الخروج عن الشيء . يقال فسقت الفارة إذا خرجت من جحرها ، والرطبة إذا خرجت من قشرها ، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان ، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية : «يُضل » بضم الياء فيهما .

وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ «يَضل » بفتح الياء «كثيرٌ » بالرفع «ويهدي به كثير . وما يضل به إلا الفاسقون » بالرفع( {[381]} ) .

قال أبو عمرو الداني : «هذه قراءة القدرية وابن أبي عبله من ثقات الشاميين ومن أهل السنة ، ولا تصح هذه القرءة عنه ، مع أنها مخالفة خط المصحف » .

وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى : «يُضل » بضم الياء وفي الثانية «وما يَضل » بفتح الياء «به إلا الفاسقون » .

قال القاضي أبو محمد : وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه .


[364]:- إنما أنكروا ذلك لأنهم أخذوا بمجرد الظاهر، ولم ينظروا في المراد من الخطاب، وهذا عدم فقه منهم للغرض المقصود، ولذلك كان إذا نفي الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقوفهم مع ظاهر الخطاب، وعدم اعتبارهم للمراد منه، كما قال تعالى: [ذلك بأنهم قوم لا يفقهون] وإذا أثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه وهو باطنه، كما قال تعالى: [فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم] فما استنكره اليهود أو المنافقون من ضرب المثل بالمحقرات من الأشياء ليس موضعا للاستنكار، من حيث أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به عظيما، وإن كان المتمثل له حقيرا كان المتمثل به كذلك، فعظم المثل وحقارته شيء يستدعيه حال المتمثل له، كما أشار إليه الزمخشري، ولذلك رد الله عليهم بقوله: [إن الله لا يستحي]الآية.
[365]:- صاحب هذا القول يقول: إنه مثل ضربه الله للدنيا وأهلها، فإن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت، كذلك هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: [فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء] هكذا رواه ابن جرير، وضعف ابن عطية هذا القول، وهو كذلك، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم جناح البعوضة مثلا للدنيا في حديث سهل بن سعد (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء).
[366]:- قيل: المحذوف الأولى، وهي عين الكلمة، وقيل: الثانية وهي لام الكلمة- خلاف مذكور في محله.
[367]:- أي معنى الآية، فمعنى (أن يضرب مثلا) أن يلزم الحجة بمثل.
[368]:- الحياء بمعناه في اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، وكل ما لا يصح نسبته إلى الله تعالى فمختلف في تأويله، منهم من قال نؤمن به إجمالا ونكل عمله إلى الله تعالى، وأهل التأويل اختلفوا في تفسير الاستحياء في الآية، والأقوال المذكورة كلها تتقارب في المعنى، وأهل التأويل اختلفوا في تفسير الاستحياء في الآية، والأقوال المذكورة كلها تتقارب في المعنى، وكلها من ثمرات الحياء، ثم إنه ليس انتفاء الشيء عن الله تعالى مما يدل على صحة نسبته إليه كما ذهب إليه القاضي أبو بكر الطيب رحمه الله، بل الحق أن كل أمر مستحيل على الله تعالى يصح أن ينفى عنه، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة، ألا ترى إلى قوله تعالى: [لا تأخذه سنة ولا نوم] [لم يلد ولم يولد] [ما اتخذ الله من ولد] [وهو يطعم ولا يطعم] فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض، وهو الحق المبين.
[369]:- ضرب، يمكن أن تفسر بذكر أو بين، ويمكن أن تفسر بجعل، فالمعنى الأول يتعدى إلى واحد، والثاني إلى اثنين.
[370]:- قال أبو (ح): والذي نختاره من هذه الأعاريب: أن [ضرب] يتعدى إلى واحد، وذلك الواحد هو [مثلا]، لقوله تعالى: [ضرب مثل] ولأنه مقدم في التركيب، وصالح لأن ينتصب بيضرب، و[ما] صفة تزيد النكرة شيوعا، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس، و[بعوضة] بدل لأن عطف البيان، مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس اهـ.
[371]:- كانت العرب إذا أرادت الاستسقاء في السنة الآزمة جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء، لأن الله تعالى يرحمها بسبب ذلك بزعمهم. وقد قال أمية بن أبي الصلت الثقفي في ذلك: سنة ازمة تــــــخــــيل للــــنا س نرى للعـــضاة فـــيها صريرا لا على كوكب بنوء ولا ريـــــــــــــــــــح جنوب ولا ترى طخرورا ويسوقون باقر السهل للــــطــو د مـهــــازيل خشــية أن تــبــورا عاقدين النيران في هــلـب الأذ نـــاب مـــنها لكي تهـــيج بحورا سلع ما ومثـــــــله عــــشر مــا عـــائل ما وعالــت البـــيـــقورا ومعنى "عالت البيقورا" أن البقر عالت، وأن سنة الجدب أثقلتها بسبب ما حملته من الأشجار والنيران في هذه السنة – قال عيسى بن عمر: هذا البيت لا أدري ما معناه، ولا رأيت أحدا يعرفه.
[372]:- قيل: هذا البيت لكعب بن مالك، وقيل: لعبد الله بن رواحة. وقد أدخل الشاعر الباء على المفعول به، وهي لا تدخل إلا على الفاعل كقوله تعالى: [وكفى بالله حسيبا]، وغيرنا مرفوع على تقدير من هو غيرنا بحذف صدر الصلة على حد قوله تعالى: [على الذي أحسن] ومخفوض على أن من نكرة موصوفة أي على إنسان أو قوم غيرنا.
[373]:- يعني في قوله تعالى: [فلما أضاءت ما حوله].
[374]:- هو أبو دثار الكلبي كما في "كنايات الجرجاني"، وأبو دثار في البيت يعني به الظلة والكلة التي يُتَّقى بها، وقوله (بعضا) أي عضا ولسعا، يقال يقال: بعضه البعوض ببعضه بعضا: عضه وأذاهن ولا يقال في غير البعوض.
[375]:- المشهور: ما أنا بالذي قائل لك سوءا.
[376]:- (ماذا) تستعمل في العربية على أوجه، منها: أن (ماذا) برمتها استفهام، كقولك: لماذا جئت؟ -ومنها: أن (ما) استفهام و (ذا) موصول نحو (ماذا نفعل)؟ ومنها: غير ذلك. وهي في الآية الكريمة استفهام انكاري، وانظر لذا قول ابن مالك: ومثل ماذا بعد ما استفهام أو من إذا لم تُلغ في الكلام في تفسير الإمام (ط) رحمه الله ما نصه: "وتأويل قوله: [ماذا أرد الله بهذا مثلا] الذي أراد الله بهذا المثل مثلا فذا مع ما في معنى الذي وأراد صلته، وهذا إشارة إلى المثل". انتهى منه بلفظه. وما سلكه رحمه الله في هذه الآية. من جعل (ماذا) فيها اسما موصولا على جهة التركيب مسلك فاسد، لأنه يؤدي إلى أن المقول في الآية المذكورة ليس جملة ولا مفردا في معناها، والصواب كما في أبي (ح) وغيره أن [ماذا] كلها استفهام على جهة التركيب مفعول مقدم بأراد. ويجوز أن تكون [ما] وحدها استفهاما، و[ذا] موصولا بمعنى الذي خبره، وجملة (أراد) صلة، فمنصوب القول على الأول جملة (أراد الله بهذا مثلا) مع ضميمة المفعول المقدم- والمنصوب على الوجه الثاني جملة (ماذا أراد الله) الخ. هكذا قرره بعض الشيوخ.
[377]:- جملتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين، المصدرتين بأما، والكثرة والقلة نسبية، فأهل الهداية بالقياس إلى أهل الضلال قلة، وبالقياس إلى ذاتهم وحقيقتهم كثرة، وبهذا يجمع بين النصوص التي وصفتهم بالقلة في موضع، وبالكثرة في موضع آخر.
[378]:- هذا تخليط وإلباس، وذلك أن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار، أو من كلام الله، وأما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار، وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل فإنه يكون إلباسا في التركيب، وكلام الله أعلى من ذلك، قاله أبو (ح).
[379]:- هذا أشبه بنظم القرآن وأنسب، والمعنى: قل يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، يوفق به، ويخذل به.
[380]:- نفي لتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم، والهداية لقوم، أي هو هدى كما قال أولا للمتقين، لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن، كما هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه. وهو الذي أنزل من أجله.
[381]:- أي في الثلاثة- ويقال: هداه يهديه هدى وهديا وهداية، فهدى هو: أي أرشده فاسترشد. لازم ومتعد.