تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا }

يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، وهو الدخول تحت رق عبوديته ، والانقياد لأوامره ونواهيه ، محبة وذلا وإخلاصا له ، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة .

وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر ، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد . ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب . فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما . وللإحسان ضدان ، الإساءةُ وعدمُ الإحسان . وكلاهما منهي عنه .

{ وَبِذِي الْقُرْبَى } أيضا إحسانا ، ويشمل ذلك جميع الأقارب ، قربوا أو بعدوا ، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل ، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله .

{ وَالْيَتَامَى } أي : الذين فقدوا آباءهم{[208]}  وهم صغار ، فلهم حق على المسلمين ، سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم ، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم .

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر ، فلم يحصلوا على كفايتهم ، ولا كفاية من يمونون ، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم ، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم ، والحض على ذلك ، والقيام بما يمكن منه .

{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي : الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة ، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف . { و } كذلك { الْجَارِ الْجُنُبِ } أي : الذي ليس له قرابة . وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا ، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل .

{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قيل : الرفيق في السفر ، وقيل : الزوجة ، وقيل الصاحب مطلقا ، ولعله أولى ، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة . فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه ، من مساعدته على أمور دينه ودنياه ، والنصح له ؛ والوفاء معه في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد .

{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو : الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج ، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [ وبإكرامه وتأنيسه ]{[209]} .

{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : أي : من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون ، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم . فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه ، المتواضع لعباد الله ، المنقاد لأمر الله وشرعه ، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل ، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه ، غير منقاد لأوامره ، ولا متواضع للخلق ، بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا } أي : معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق { فَخُورًا } يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله .


[208]:- كذا في ب، وفي أ: الذين فقد آباؤهم.
[209]:- زيادة من هامش ب.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

24

هناك أكثر من مناسبة واحدة ، تربط بين مطلع هذا الدرس ؛ وبين محور السورة كلها ، وموضوعاتها الأساسية من ناحية ؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى .

فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم ؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية ، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة ؛ والتحذير من أهل الكتاب - وهم اليهود بالمدينة - وما جبلوا عليه من شر ونكر ؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم ، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله - وبخاصة من الناحية الأخلاقية ، وناحية التكافل والتعاون ، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد . .

ولأن الدرس الجديد جولة جديدة ، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم - قاعدة التوحيد الخالص - التي تنبثق منها حياته ؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة ، في كل جانب ، وفي كل اتجاه .

وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي ، والتنظيم الاجتماعي . وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها ، والروابط التي تشدها وتوثق بناءها . . فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية - في المجتمع المسلم - أوسع مدى من علاقات الأسرة ؛ ومتصلة بها كذلك . متصلة بها بالحديث عن الوالدين . ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين ، لتشمل علاقات أخرى ؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة ؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى ؛ ويتعلمها الإنسان - أول من يتعلمها - في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق . ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها ؛ بعدما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة .

ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة - العائلة - والأسرة الكبيرة - الإنسانية - وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل ، للباذلين وللباخلين . . فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين - كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم - وهي قاعدة التوحيد . . وربط كل حركة وكل نشاط ، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله . التي هي غاية كل نشاط إنساني ، في ضمير المسلم وفي حياته . .

وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده - في محيطها الشامل - جاءت الفقرة الثانية في الدرس ؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة ؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر - ولم تكن قد حرمت بعد - باعتبار هذه الخطوة جزءا من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد . وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد . .

حلقات متماسكة بعضها مع بعض . ومع الدرس السابق . ومع محور السورة كذلك .

واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وبالوالدين إحسانًا ، وبذي القربي واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم . . إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ! وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ، وكان الله بهم عليما . إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ، ويؤت من لدنه أجرا عظيما . فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثا . .

هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن إشراك شيء به . . تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر ، وهذا النهي ، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي . فيدل هذا الربطبين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين . فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير ؛ ولا مجرد شعائر تقام وعبادات ؛ ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية . . إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله ، ويربط بين جوانبه ، ويشدها جميعا إلى الأصل الأصيل . وهو توحيد الله . والتلقي منه وحده - في هذا النشاط كله - دون سواه . توحيده إلها معبودا . وتوحيده مصدرا للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضا . لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك - في الإسلام - وفي دين الله الصحيح على الإطلاق .

ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة ، والأسرة الإنسانية ؛ وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل ، وكتمان فضل الله - من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين - والتحذير من اتباع الشيطان ؛ والتلويح بعذاب الآخرة ، وما فيه من خزي وافتضاح . . لربط هذا كله بالتوحيد ؛ وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئا . وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع ؛ كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك .

( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . وبالوالدين إحسانا . وبذي القربى واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب . وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم . . . ) .

إن التشريعات والتوجيهات - في منهج الله - إنما تنبثق كلها من أصل واحد ، وترتكز على ركيزة واحدة . إنها تنبثق من العقيدة في الله ، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة . . ومن ثم يتصل بعضها ببعض ؛ ويتناسق بعضها مع بعض ؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية ؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده ؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام ؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة .

من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية . تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية . والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض ، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض ؛ والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع ؛ والتي تجعل المعاملات عبادات - بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله - والعبادات قاعدة للمعاملات - بما فيها من تطهير للضمير والسلوك - والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة ؛ تنبثق من المنهج الرباني ، وتتلقى منه وحده دون سواه ، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله .

هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية ، وفي المنهج الإسلامي ، وفي دين الله الصحيح كله ، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين ، وغيرهم من طوائف الناس . بعبادة الله وتوحيده - كما أسلفنا - ثم في الجمع بين قرابة الوالدين ، وقرابة هذه الطوائف من الناس ، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده - كذلك - وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي ، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس - على النحو الذي بينا من قبل - ليصلها جميعا بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعا ؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعا . .

اعبدوا الله . . ولا تشركوا به شيئًا . .

الأمر الأول بعبادة الله . . والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد - معه - سواه . نهيا باتا ، شاملا ، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية : ( ولا تشركوا به شيئًا ) شيئا كائنا ما كان ، من مادة أو حيوان أو إنسانأو ملك أو شيطان . . فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء ، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال . .

ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين - على التخصيص - ولذوي القربي - على التعميم - ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين - وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية ؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال . والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين . بالجيل المدبر المولي . إذ الأولاد - في الغالب - يتجهون بكينونتهم كلها ، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم ؛ لا الجيل الذي خلفهم ! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام ، غافلون عن التلفت إلى الوراء ، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم ، الذي لا يترك والدا ولا مولودا ، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين ؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض ، ولو كانوا ذرية أو والدين !

كذلك يلحظ في هذه الآية - وفي كثير غيرها - أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربي - قرابة خاصة أو عامة - ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها ، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الأنسانية الكبيرة . وهذا المنهج يتفق - أولا - مع الفطرة ويسايرها . فعاطفة الرحمة ، ووجدان المشاركة ، يبدآن أولا في البيت . في الأسرة الصغيرة . وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مس هذا الوجدان في المحضن الأول . والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين - فطرة وطبعا - ولا بأس من ذلك ولا ضير ؛ ما دامت توجه دائما إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور . . ثم يتفق المنهج - ثانيا - مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية : من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة ؛ ثم ينساح في محيط الجماعة . كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة - إلا عندما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة - فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل : في وقته المناسب وفي سهولة ويسر . وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقا ببني الإنسان !

وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين . ويتوسع منهما إلى ذوي القربي . ومنهم إلى اليتامى والمساكين - ولو أنهم قد يكونون أبعد مكانا من الجار . ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية - ثم الجار ذو القرابة . فالجار الأجنبي - مقدمين على الصاحب المرافق - لأن الجار قربه دائم ، أما الصاحب فلقاؤه على فترات - ثم الصاحب المرافق - وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر ، الرفيق في السفر - ثم ابن السبيل . العابر المنقطع عن أهله وماله . ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات " ملك اليمين " ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين .

ويعقب على الأمر بالإحسان ، بتقبيح الاختيال والفخر

( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وذلّوا لله بالطاعة ، واخضعوا له بها ، وأفردوه بالربوبية ، وأخلصوا له الخضوع والذلة ، بالانتهاء إلى أمره ، والانزجار عن نهيه ، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا تعظمونه تعظيمكم إياه . { وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا } يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا ، يعني برّا بهما¹ ولذلك نصب الإحسان ، لأنه أمر منه جلّ ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالين على وجه الإغراء . وقد قال بعضهم : معناه : واستوصوا بالوالدين إحسانا ، وهو قريب المعنى مما قلناه .

وأما قوله : { وَبِذِي القُرْبَى } فإنه يعني : وأمر أيضا بذي القربى ، وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين إحسانا بصلة رحمه . وأما قوله : { واليَتَامى } فإنهم جمع يتيم ، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك . { وَالمَساكِينِ } وهو جمع مسكين ، وهو الذي قد ركبه ذلّ الفاقة والحاجة ، فتمسكن لذلك . يقول تعالى ذكره : استوصوا بهؤلاء إحسانا إليهم ، وتعطفوا عليهم ، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { والجارِ ذِي القُرْبَي } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك والجار ذي القرابة والرحم منك . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } يعني : الذي بينك وبينه قرابة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { والجارِ ذي القُرْبَي } يعني : ذا الرحم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : جارك هو ذو قرابتك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قالا : القرابة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : جارك الذي بينك وبينه قرابة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والجارِ ذِي القُرْبَي } جارك ذو القرابة .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { والجارِ ذِي القُرْبَي } إذا كان له جار له رحم ، فله حقان اثنان : حقّ القرابة ، وحقّ الجار .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : الجار ذو القربى : ذو قرابتك .

وقال آخرون : بل هو جار ذي قرابتك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن ميمون بن مهران ، في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك .

قال أبو جعفر : وهذا القول قول مخالف المعروف من كلام العرب ، وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } الجار دون غيره ، فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة ، ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل : وجار ذي القربى ، ولم يقل : والجار ذي القربي ، فكان يكون حينئذً إذا أضيف الجار إلى ذي القرابة الوصية ببرّ جار ذي القرابة دون الجار ذي القربي . وأما والجار بالألف واللام فغير جائز أن يكوى «ذي القربى » إلا من صفة الجار . وإذا كان ذلك كذلك كانت الوصية من الله في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } ببرّ الجار ذي القربى دون جار ذي القرابة ، وكان بينا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك .

وقال آخرون : معنى ذلك : والجار ذي القربي منكم بالإسلام . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال¹ حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشامي : { والجارِ ذِي القُرْبَي } المسلم .

وهذا أيضا مما لا معنى له ، وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب ، الذين نزل بلسانهم القرآن المعروف فيهم دون الأنكر الذي لا تتعارفه ، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل فلان ذو قرابة ، إنما يعني به : إنه قريب الرحم منه دون القرب بالدين ، كان صرفه إلى القرابة بالرحم أوّلَى من صرفه إلى القرب بالدين .

القول في تأويل قوله تعالى : { والجارِ الجُنُبِ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { والجارِ الجُنُبِ } الذي ليس بينك وبينه قرابة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { والجارِ الجُنُبِ } يعني : الجار من قوم جنب .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { والجارِ الجُنُبِ } : الذي ليس بينهما قرابة وهو جار ، فله حقّ الجوار .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { والجاره الجُنُبِ } الجار الغريب يكون من القوم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والجارِ الجُنُبِ } جارك من قوم آخرين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والجارِ الجُنُبِ } : جارك لا قرابة بينك وبينه ، البعيد في النسب وهو جار .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد ، في قوله : { والجارِ الجُنُبِ } قال : المجانب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { والجارِ الجُنُبِ } : الذي ليس بينك وبينه وجه ولا قرابة .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { والجارِ الجُنُبِ } قال : من قوم آخرين .

وقال آخرون : هو الجار المشرك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشامي { والجارِ الجُنُبِ } قال : اليهودي والنصرانيّ .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى الجنب في هذا الموضع : الغريب البعيد ، مسلما كان أو مشركا ، يهوديا كان أو نصرانيا¹ لما بينا قبل أن الجار ذي القربى : هو الجار ذو القرابة والرحم ، والواجب أن يكون الجار ذو الجنابة الجار البعيد ، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران ، قريبهم وبعيدهم . وبعد فإن الجُنب في كلام العرب البعيد كما قال أعشى بني قيس :

أتَيْتُ حُرَيْثا زَائِرا عَنْ جَنابَةٍ ***فكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطائيَ جامِدَا

يعني بقوله : «عن جنابة » : عن بعد وغربة ، ومنه قيل : اجتنب فلان فلانا : إذا بعد منه . وتجنبه غيره : إذا منعه إياه¹ ومنه قيل للجنب : جُنُب ، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل . فمعنى ذلك : والجار المجانب للقرابة .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالصّاحِب بالجَنْبِ } .

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك ، فقال بعضهم : هو رفيق الرجل في سفره . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَالصّاحِب بالجَنْبِ } : الرفيق في السفر .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن أبي بكير ، قال : سمعت سعيد ابن جبير ، يقول : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الرفيق في السفر .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَالصّاحِب بالجَنْب } : صاحبك في السفر .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالصّاحِب بالجَنْب } وهو الرفيق في السفر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَالصّاحِب بالجَنْب } : الرفيق في السفر ، منزله منزلك ، وطعامه طعامك ، ومسيره مسيرك .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد : { وَالصّاحِب بالجَنْب } قالا : الرفيق في السفر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عامر ، عن عليّ وعبد الله ، قال : { الصّاحِب بالجَنْب } : الرفيق الصالح .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني سليم ، عن مجاهد ، قال : { وَالصّاحِب بالجَنْب } : رفيقك في السفر الذي يأتيك ويده مع يدك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج ، قال : أخبرنا سليم أنه سمع مجاهدا يقول : { والصّاحبِ بالجنْب } فذكر مثله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الصاحب في السفر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي بكير ، عن سعيد بن جبير : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الرفيق الصالح .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي بكير ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قال : الرفيق في السفر .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .

وقال آخرون : بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر أو القاسم ، عن عليّ وعبد الله : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قالا : هي المرأة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن جابر ، عن عليّ وعبد الله ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن بيه ، عن ابن عباس : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } يعني الذي معك في منزلك .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن هلال ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال في هذه الاَية : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قال : هي المرأة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : ثناسفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قال : المرأة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال الثوري ، قال أبو الهيثم ، عن إبراهيم : هي المرأة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن سوقة ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثني عمرو بن بيذق ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن محمد بن سوقة ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، مثله .

وقال آخرون : هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الملازم . وقال أيضا : رفيقك الذي يرافقك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الذي يلصق بك وهو إلى جنبك ، ويكون معك إلى جنبك رجاء خيرك ونفعك .

والصواب من القول في تأويل ذلك عندي : أن معنى : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الصاحب إلى الجنب ، كما يقال : فلان بجنب فلان وإلى جنبه ، وهو من قولهم : جَنَب فلان فلانا فهو يَجْنُبُهُ جَنْبا ، إذا كان لجنبه ، ومن ذلك : جَنَبَ الخَيْلَ ، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض . وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر ، والمرأة ، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه ، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه ، وقد أوصى الله تعال بجميعهم لوجوب حقّ الصاحب على المصحوب . وقد :

حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، عن فلان بن عبد الله ، عن الثقة عنده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين ، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلم في غيضة طرفاء ، فقطع فصيلين أحدهما معوجّ والاَخر معتدل ، فخرج بهما فأعطى صاحبه المعتدل وأخذ لنفسه المعوجّ ، فقال الرجل : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنت أحقّ بالمعتدل مني ! فقال : «كَلاّ يا فُلانُ ، إنّ كُلّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبا مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ ساعَةً مِنْ نَهارٍ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة ، قال : ثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ خَيْرَ الأصحَابِ عِنْدَ اللّهِ تَبارَكَ وَتَعالى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِه ، وَخَيْرُ الجِيرانَ عِنْدَ اللّه خَيْرُهُمْ لِجارِه » .

وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه من أن يكون داخلاً فيه كل من جنب رجلاً يصحبه في سفر أو نكاح أو انقطاع إليه واتصال به ، ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ بعضهم مما احتمله ظاهر التنزيل¹ فالصواب أن يقال : جميعهم معنيون بذلك ، وبكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَابْنِ السّبِيلِ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : ابن السبيل : هو المسافر الذي يجتاز مارّا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَابْنِ السّبِيلِ } هو الذي يمرّ عليك وهو مسافر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَابْنِ السّبِيلِ } قال : هو المارّ عليك وإن كان في الأصل غنيّا .

وقال آخرون : هو الضيف . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَابْنِ السَبِيلِ } قال : الضيف له حقّ في السفر والحضر .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَابْنِ السّبِيلِ } وهو الضيف .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَابْنِ السّبِيلِ } قال : الضيف .

حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .

والصواب من القول في ذلك : أن ابن السبيل : هو صاحب الطريق ، والسبيل : هو الطريق ، وابنه : صاحبه الضارب فيه ، فله الحقّ على من مرّ به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية الله أن يعينه إن احتاج إلى معونة ، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة ، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : والذين ملكتموهم من أرقائكم . فأضاف الملك إلى اليمين ، كما يقال : تكلم فوك ، ومشت رجلُك ، وبطشت يدُك ، بمعنى : تكلمتَ ، ومشيتَ ، وبطشتَ . غير أن ما وصفت به كل عضو من ذلك ، فإنما أضيف إليه ما وصفت به ، لأنه بذلك يكون في المتعارف في الناس دون سائر جوارح الجسد ، فكان معلوما بوصف ذلك العضو بما وُصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام ، فكذلك قوله : { وَمَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } لأن مماليك أحدنا تحت يده ، إنما يَطعم ما تناوله أيماننا ويكتسي ما تكسوه وتصرّفه فيما أحبّ صرفه فيه بها . فأضيف ملكهم إلى الأيمان لذلك .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } مما خوّلك الله كل هذا أوصى الله به .

وإنما يعني مجاهد بقوله : «كل هذا أوصى الله به » الوالدين وذا القربى واليتامى والمساكين والجار ذا القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، فأوصى ربنا جلّ جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم ، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم ، فحقّ على عباده حفظ وصية الله فيهم ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه وسلم .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً } : إن الله لا يحبّ من كان ذا خيلاء ، والمختال المفتعل من قولك : خال الرجل فهو يَخُول خَوْلاً وخَالاً ، ومنه قول الشاعر :

فإنْ كُنْتَ سَيّدَنا سُدْتَنا ***وإن كُنْتَ للخالِ فاذْهبْ فَخَلْ

ومنه قول العجاج :

*** والخالِ ثَوْبٌ مِنْ ثِيابِ الجُهّالْ ***

وأما الفخور : فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه ، وبسط له من فضله ، ولا يحد على ما أتاه من طوله ، ولكنه به مختال مستكبر ، وعلى غيره به مستطيل مفتخر . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً } قال : متكبرا فخورا ، قال : يعدّ ما أُعطي ، وهو لا يشكر الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي ، قال : لا تجد سييء الملكة إلا وجدته مختالاً فخورا ، وتلا : { وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا } . ولا عاقّا إلا وجدته جبارا شقيا ، وتلا : { وَبَرّا بِوَالِدِتي وَلْم يَجْعَلْنِي جَبّارا شَقيّا } .