تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة قد سمع وهي مدنية

{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار اشتكته زوجته [ إلى الله ، وجادلته ]{[1000]}  إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمها على نفسه ، بعد الصحبة الطويلة ، والأولاد ، وكان هو رجلا شيخا كبيرا ، فشكت حالها وحاله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررت ذلك ، وأبدت فيه وأعادت .

فقال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } أي : تخاطبكما فيما بينكما ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لجميع الأصوات ، في جميع الأوقات ، على تفنن الحاجات .

{ بَصِيرٌ } يبصر دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، وهذا إخبار عن كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة ، وفي ضمن ذلك الإشارة بأن الله [ تعالى ] سيزيل شكواها ، ويرفع بلواها ، ولهذا ذكر حكمها ، وحكم غيرها{[1001]}  على وجه العموم ، فقال :


[1000]:- زيادة من هامش: ب.
[1001]:- كذا في ب، وفي أ: ذكر حكم هذا الحكم وحكم غيره.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون

نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .

ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .

ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .

ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .

وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .

ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .

يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .

ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .

وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .

ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .

أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .

وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !

( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .

1

( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .

وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب . .