تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

{ 21 } { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }

أي : أم حسب المسيئون المكثرون من الذنوب المقصرون في حقوق ربهم { أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بحقوق ربهم ، واجتنبوا مساخطه ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم ؟ أي : أحسبوا أن يكونوا { سَوَاءً } في الدنيا والآخرة ؟ ساء ما ظنوا وحسبوا وساء ما حكموا به ، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين ، ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة ، ويضاد ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرسل ، بل الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب في العاجل والآجل كل على قدر إحسانه ، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

وقوله : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئاتِ ، يقول تعالى ذكره : أم ظنّ الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا ، وكذّبوا رسل الله ، وخالفوا أمر ربهم ، وعبدوا غيره ، أن نجعلهم في الاخرة ، كالذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله وعملوا الصالحات ، فأطاعوا الله ، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والالهة ، كلا ما كان الله ليفعل ذلك ، لقد ميز بين الفريقين ، فجعل حزب الإيمان في الجنة ، وحزب الكفر في السعير . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئاتِ . . . الاية ، لعمري لقد تفرّق القوم في الدنيا ، وتفرّقوا عند الموت ، فتباينوا في المصير .

وقوله : سَوَاءً مَحْياهُم وَمَماتُهُمْ ، اختلفت القرّاء في قراءة قوله : سَوَاءً ، فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة «سَوَاءٌ » بالرفع ، على أن الخبر متناهٍ عندهم عند قوله : كالّذِينَ آمَنُوا وجعلوا خبر قوله : أنْ نَجْعَلَهُمْ قوله : كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، ثم ابتدأوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته ، ومحيا الكافر ومماته ، فرفعوا قوله : «سَوَاءٌ » على وجه الابتداء بهذا المعنى ، وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ » قال : المؤمن في الدنيا والاخرة مؤمن ، والكافر في الدنيا والاخرة كافر .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا حسين ، عن شيبان ، عن ليث ، في قوله : «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمماتُهُمْ » قال : بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا ، والكافر كافرا حيا وميتا .

وقد يحتمل الكلام إذا قُرىء سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن مجاهد وليث ، وهو أن يوجه إلى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت ، بمعنى : أنهم لا يستوون ، ثم يرفع سواء على هذا المعنى ، إذ كان لا ينصرف ، كما يقال : مررت برجل خير منك أبوه ، وحسبك أخوه ، فرفع حسبك ، وخير إذ كانا في مذهب الأسماء ، ولو وقع موقعهما فعل في لفظ اسم لم يكن إلا نصبا ، فكذلك قوله : «سواءٌ » . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة سَوَاءً نصبا ، بمعنى : أحسبوا أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : سَوَاء ورفعه ، فقال بعض نحويّي البصرة «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ » رفع . وقال بعضهم : إن المحيا والممات للكفار كله ، قال : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرحُوا السّيّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ ، ثم قال : سواء محيا الكفار ومماتهم : أي محياهم محيا سَوَاء ، ومماتهم ممات سَوَاء ، فرفع السواء على الابتداء . قال : ومن فسّر المحيا والممات للكفار والمؤمنين ، فقد يجوز في هذا المعنى نصب السواء ورفعه ، لأن من جعل السواء مستويا ، فينبغي له في القياس أن يُجريه على ما قبله ، لأنه صفة ، ومن جعله الاستواء ، فينبغي له أن يرفعه لأنه اسم ، إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل ، وينصب السواء على الاستواء ، وإن شاء رفع السواء إذا كان في معنى مستوٍ ، كما تقول : مررت برجل خير منك أبوه ، لأنه صفة لا يصرف والرفع أجود . وقال بعض نحويّي الكوفة قوله : سَوَاءً مَحْياهُمْ بنصب سواء وبرفعه ، والمحيا والممات في موضع رفع بمنزلة ، قوله : رأيت القوم سواءً صغارهم وكبارهم بنصب سواء ؛ لأنه يجعله فعلاً لما عاد على الناس من ذكرهم ، قال : وربما جعلت العرب سواء في مذهب اسم بمنزلة حسبك ، فيقولون : رأيت قومك سواء صغارهم وكبارهم . فيكون كقولك : مررت برجل حسبك أبوه ، قال : ولو جعلت مكان سواء مستوٍ لم يرفع ، ولكن نجعله متبعا لما قبله ، مخالفا لسواء ، لأن مستوٍ من صفة القوم ، ولأن سواء كالمصدر ، والمصدر اسم . قال : ولو نصبت المحيا والممات كان وجها ، يريد أن نجعلهم سواء في محياهم ومماتهم .

وقال آخرون منهم : المعنى : أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة ، ولا الممات ، على أنه وقع موقع الخبر ، فكان خبرا لجعلنا ، قال : والنصب للأخبار كما تقول : جعلت إخوتك سواءً ، صغيرهم وكبيرهم ، ويجوز أن يرفع ، لأن سواء لا ينصرف . وقال : من قال : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرحُوا السّيّئات أنْ نَجْعَلهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، فجعل كالذين الخبر استأنف بسواء ورفع ما بعدها ، وإن نصب المحيا والممات نصب سواء لا غير ، وقد تقدّم بياننا الصواب من القول في ذلك .

وقوله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، يقول تعالى ذكره : بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

وقوله تعالى : { أم حسب } الآية قول يقتضي أنه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا . و : { أم } هذه ليست بمعادلة ، وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام . و : { اجترحوا } معناه : اكتسبوا ، ومنه جوارح الإنسان ، ومنه الجوارح في الصيد ، وتقول العرب : فلان جارحة أهله ، أي كاسبهم .

وقرأ أكثر القراء : «سواءٌ » بالرفع «محياهم ومماتُهم » بالرفع ، وهذا على أن «سواءٌ » رفع بالابتداء{[10272]} «ومحياهم ومماتُهم » خبره . و : { كالذين } في موضع المفعول الثاني ل «نجعل » ، وهذا على أحد معنيين : إما أن يكون الضمير في { محياهم } يختص بالكفار المجترحين ، فتكون الجملة خبراً عن أن حالهم في الزمنين حال سوء . والمعنى الثاني : أن يكون الضمير في { محياهم } يعم الفريقين ، والمعنى : أن محيا هؤلاء ومماتهم سواء ، وهو كريم ، ومحيا الكفار ومماتهم سواء ، وهو غير كريم ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفرقه ، إذ تقدم إبعاد أن يجعل الله هؤلاء كهؤلاء .

قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر ، ويظهر لي أن قوله : { سواء محياهم ومماتهم } داخل في المحسبة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن{[10273]} ، والأول أيضاً جيد .

وقرأ طلحة وعيسى بخلاف عنه : «سواءً » بالنصب ، «محياهم ومماتُهم » بالرفع ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله : { كالذين } في موضع المفعول الثاني ل «جعل » كما هو في قراءة الرفع ، وينصب قوله : «سواءً » على الحال من الضمير في : { نجعلهم } . والوجه الثاني أن يكون قوله : { كالذين } في نية التأخير ، ويكون قوله : «سواءً » مفعولاً ثانياً ل «جعل » ، وعلى كلا الوجهين : «محياهم ومماتُهم » مرتفع ب «سواء » على أنه فاعل . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم{[10274]} والأعمش «سواءً » بالنصب «محياهم ومماتَهم » بالنصب وذلك على الظرف أو على أن يكون «محياهم » بدلاً من الضمير في : { نجعلهم } أي نجعل محياهم ومماتهم سواء ، وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى ، وهي موقف للعارفين فيكون عنده فيه ، وروي عن الربيع بن خيثم أنه كان يرددها ليلة جمعاء ، وكذلك عن الفضيل بن عياض ، وكان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ، وقال الثعلبي : كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين .

قال القاضي أبو محمد : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر بدليل معادلته بالإيمان ، ويحتمل أن تكون المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا ما بكى الخائفون رضوان الله عليهم ، وإما مفعولاً { حسب } فقولهم { أن نجعلهم } يسد مسد المفعولين . وقوله : { ساء ما يحكمون } ، { ما } مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم .


[10272]:قال أبو حيان الأندلسي:"ولا مسوغ لجواز الابتداء به، بل هو خبر مقدم وما بعده المبتدأ، والجملة خبر مستأنف".
[10273]:عقّب أبو حيان الأندلسي على هذا بعد أن نقله بقوله:"ولم يبين كيفية تشبت الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسبة".
[10274]:قراءة حفص عن عاصم كما هي في المصحف الشريف:{سواء محياهم ومماتهم} بالنصب في [سواء] والرفع في {محياهم ومماتهم}.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أم حسب الذين اجترحوا السيئات} وذلك أن الله أنزل أن للمتقين عند ربهم في الآخرة جنات النعيم، فقال كفار مكة...: إنا نعطى في الآخرة من الخير مثل ما تعطون، فقال الله تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات}، يعني الذين عملوا الشرك.

{أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات}...

{سوءا محياهم} في نعيم الدنيا.

{و} سواء {ومماتهم} في نعيم الآخرة.

{ساء ما يحكمون}: بئس ما يقضون من الجور حين يرون أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين في الآخرة: الدرجات في الجنة ونعيمها للمؤمنين، والكافرون في النار يعذبون...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئاتِ"، يقول تعالى ذكره: أم ظنّ الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا، وكذّبوا رسل الله، وخالفوا أمر ربهم، وعبدوا غيره، أن نجعلهم في الآخرة، كالذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله وعملوا الصالحات، فأطاعوا الله، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والآلهة، كلا ما كان الله ليفعل ذلك، لقد ميز بين الفريقين، فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في السعير...

وقوله: "سَوَاءً مَحْياهُم وَمَماتُهُمْ"، اختلفت القرّاء في قراءة قوله: سَوَاءً، فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة «سَوَاءٌ» بالرفع، على أن الخبر متناهٍ عندهم عند قوله: "كالّذِينَ آمَنُوا "وجعلوا خبر قوله: "أنْ نَجْعَلَهُمْ "قوله: "كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ"، ثم ابتدأوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته، ومحيا الكافر ومماته، فرفعوا قوله: «سَوَاءٌ» على وجه الابتداء بهذا المعنى، وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعة من أهل التأويل... عن مجاهد، قوله: «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ» قال: المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر...

وقد يحتمل الكلام إذا قُرئ سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن مجاهد وليث، وهو أن يوجه إلى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت، بمعنى: أنهم لا يستوون... وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة "سَوَاءً" نصبا، بمعنى: أحسبوا أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: سَوَاء ورفعه، فقال بعض نحويّي البصرة «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ» رفع. وقال بعضهم: إن المحيا والممات للكفار كله، قال: "أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرحُوا السّيّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ"، ثم قال: سواء محيا الكفار ومماتهم: أي محياهم محيا سَوَاء، ومماتهم ممات سَوَاء، فرفع السواء على الابتداء. قال: ومن فسّر المحيا والممات للكفار والمؤمنين، فقد يجوز في هذا المعنى نصب السواء ورفعه، لأن من جعل السواء مستويا، فينبغي له في القياس أن يُجريه على ما قبله، لأنه صفة، ومن جعله الاستواء، فينبغي له أن يرفعه لأنه اسم، إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل، وينصب السواء على الاستواء، وإن شاء رفع السواء إذا كان في معنى مستوٍ... وقال بعض نحويّي الكوفة قوله: "سَوَاءً مَحْياهُمْ" بنصب سواء وبرفعه... قال: ولو نصبت المحيا والممات كان وجها، يريد أن نجعلهم سواء في محياهم ومماتهم.

وقال آخرون منهم: المعنى: أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة، ولا الممات، على أنه وقع موقع الخبر...

وقوله: "ساءَ ما يَحْكُمُونَ"، يقول تعالى ذكره: بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال بعض أهل التأويل: نفر من الكفرة قالوا، والله أعلم: إن كان كل ما يقوله محمد من الثواب والنعيم في الجنة حقا، فنحن أولى بذلك منهم كما كنّا في نعيم الدنيا ولذّاتها أولى منهم، أو لنُعطَينّ أفضل مما يُعطَون، ولنُفضَّلن عليهم كما فُضّلنا في الدنيا. فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية. لكن هذا التأويل ضعيف؛ لأن هذا لا يصلح أن يكون جوابا للنازلة التي ذكرها أهل التأويل؛ لأن أولئك قالوا: نحن أولى بما يكون في الآخرة من النعيم واللذات منهم كما كنا في الدنيا أولى، وكما فُضّلنا في الدنيا نُفضَّل في الآخرة، فلا يكون قوله تعالى: {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء} جوابا لما قالوا، وهم إنما قالوا: نحن أولى بذلك، ونحن نفضَّل فيها كما فُضّلنا في الدنيا. فإذا كانوا حسبوا هم أنهم مفضّلون على المؤمنين في الآخرة دون المساواة، كيف يُخبر عنهم أنهم حسبوا التساوي، ولا خلاف في خبر الله عز وجل؟ والله أعلم.

لكن الآية عندنا إنما كانت في منكري البعث وجاحديه، يقول والله أعلم: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء} الآية أي لو كان الأمر على ما ظن أولئك بأن لا بعث ولا نشور كان في ذلك جعل الذين اجترحوا السيّئات أي الشرك كالذين آمنوا، وعملوا الصالحات؛ {سواء محياهم ومماتهم}؛ لأنهم جميعا قد استووا في هذه الدنيا في لذّاتها ونعيمها وشدائدها وآلامها. وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز وإنزال كل واحد منهما منزلته وما يستحقه: المسيء من العقوبة وجزاء الإساءة، والمُحسن من الإحسان والإفضال وجزاء إحسانه. فإذا جُمع بينهما في هذه الدنيا على ما ذكرنا دلّ أن هناك دارا أخرى فيها يُفرَّق، ويميّز بينهما في حق الثواب والعقاب، والله أعلم. وهو كقوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} [ص: 27]، فهذا أولى وأحق أن تُصرف إليه الآية..

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أَمَنْ خفضناه في حضيض الضَّعةِ كَمَنْ رفعناه إلى أعالي المَنَعَة؟

أَمَنْ أخذنا بيده ورحمناه كَمَنْ داسَه الخذلانُ فرجمناه.؟

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

ومعناها: أيظن الذين اكتسبوا الخطايا ويعملون الأعمال المذمومة أن نسوي بينهم في الآخرة وبين الذين يعملون الخيرات، وهم يؤمنون؟ كلا ساء ما يحكمون. (التبر المسبوك في نصيحة الملوك: 23)...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا، وأن يستووا مماتاً؛ لافتراق أحوالهم أحياء، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي.

ومماتاً، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدَّ لهم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اختلفوا في المراد بقوله {محياهم ومماتهم} قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين؛ وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه، والكافر بالضد منه، كما ذكره في قوله {وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض} وعند القرب إلى الموت، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة} وحال الكافر ما ذكره في قوله: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}.

وأما في القيامة فقال تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة} فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين

(والوجه الثاني) في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات.

(والوجه الثالث) في التأويل أن قوله {سواء محياهم ومماتهم} مستأنف على معنى أن محيا المسيئين ومماتهم سوء؛ فكذلك محيا المحسنين ومماتهم، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال: {ساء ما يحكمون} وهو ظاهر.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان التقدير بعد هذا البيان الذي لم يدع لبساً في أمر الحساب بما حده من الملك الذي يوجب ما له- من العظمة والحكمة أن يحاسب عبيده لثواب المحسن وعقاب المسيء، أعلم هؤلاء المخاطبون -لأنهم لا يعدون أن يكونوا من الناس أو من الذين يوقنون بهذه البصائر لما لهم من حسن الغرائز المعلية لهم عن حضيض الحيوان إلى أوج الإنسان أنا نفرق بين المسيئين الذين بعضهم أولياء بعض وبين المحسنين الذين نحن أولياؤهم، عطف عليه سبحانه وتعالى قوله: {أم} قال الأصبهاني: قال الإمام: كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على آخر سواء كان المعطوف مذكوراً أو مضمراً- انتهى.

وكان الأصل: حسبوا، ولكنه عدل- عنه للتنبيه على أن ارتكاب السوء معم للبصيرة مضعف للعقل كما أفاده التعبير بالحسبان كما تقدم بيانه في البقرة فقال: {حسب الذين اجترحوا} أي فعلوا بغاية جهدهم ونزوع شهواتهم.

{السيئات أن نجعلهم} مع ما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة.

{كالذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإقرارهم ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية.

{الصالحات} بأن نتركهم بلا حساب للفصل بين المحسن والمسيء.

ولما كانت المماثلة مجملة، بينها استئنافاً بقوله مقدماً ما هو عين المقصود من الجملة الأولى: {سواء} أي مستو استواء عظيماً.

{محياهم ومماتهم} أي حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني.

ولما كان هذا مما لا يرضاه أحد لمن تحت يده ولا لغيره، قال معبراً بمجمع الذم:

{ساء ما يحكمون} أي بلغ حكمهم هذا في نفسه ولا سيما وهم بإصرارهم عليه في تجديد له- كل ساعة أقصى نهايات السوء، فهو مما يتعجب منه؛ لأنه لا يدري الحامل عليه، وذلك أنهم نسبوا الحكيم الذي لا حكيم في الحقيقة غيره إلى ما لا يفعله أقل الناس فيمن تحت يده...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يجوز أن يكون الحديث هنا عن أهل الكتاب، الذين انحرفوا عن كتابهم، واجترحوا السيئات، وظلوا يحسبون أنفسهم في صفوف المؤمنين، ويجعلون أنفسهم أكفاء للمسلمين الذين يعملون الصالحات، أنداداً لهم في تقدير الله سواء في الحياة أو بعد الممات. أي عند الحساب والجزاء.. كما يجوز أن يكون حديثاً عاماً بقصد بيان قيم العباد في ميزان الله. ورجحان كفة المؤمنين أصحاب العمل الصالح؛ واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات، سواء في الحياة أو في الممات. ومخالفة هذا للقاعدة الثابتة الأصيلة في بناء الوجود كله. قاعدة الحق. الذي يتمثل في بناء الكون، كما يتمثل في شريعة الله. والذي يقوم به الكون كما تقوم به حياة الناس. والذي يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين في جميع الأحوال؛ وفي مجازاة كل نفس بما كسبت من هدى أو ضلال؛ وفي تحقيق العدل للناس أجمعين: (وهم لا يظلمون).. ومعنى أصالة الحق في بناء الكون، وارتباطه بشريعة الله للبشر، وحكمه عليهم يوم الحساب والجزاء، معنى يتكرر في القرآن الكريم؛ لأنه أصل من أصول هذه العقيدة، تجتمع عليه مسائلها المتفرقة، وترجع إليه في الأنفس والآفاق، وفي ناموس الكون وشريعة البشر. وهو أساس "فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان"...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقال من وصف تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها، ثم من أمر المؤمنين بالصفح عنهم وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله، ثم من التثبيت على ملازمة الشريعة الإسلامية إلى وصف صنف آخر من ضلالهم واستهزائهم بالوعد والوعيد وإحالتهم الحياة بعد الموت والجزاءَ على الأعمال وتخييلهم للناس أنهم يصيرون في الآخرة، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الآخرة، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة، وهذا الانتقال رجوع إلى بيان قوله: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربّكم ترجعون} [الجاثية: 15].

فحرف {أم} للإضراب الانتقالي، والاستفهام الذي يلزم تقديره بعد {أمْ} استفهام إنكاري، والتقدير لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا لا في الحياة وفي في الممات.

و {الذين اجترحوا السيئات} في نقل عن ابن عباس: أنهم المشركون كما يؤذن به الانتقال من الغرض السابق إلى هذا الغرض؛ وإنما عبر عنهم بهذا العنوان لما في الصلة من تعليل إنكار المشابهة والمساواة بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله في عالم الخلد؛ ولأن اكتساب السيئات من شعار أهل الشرك؛ إذ ليس لهم دين وازع يزعهم عن السيئات ولا هم مؤمنون بالبعث والجزاء، فيكون إيمانهم به مرغباً في الجزاء، ولذلك كثُر في القرآن الكناية عن المشركين بالتلبس بالسيئات كقوله: {ويلٌ للمطففين} إلى قوله: {ألاَ يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين: 1 5]، فإن ذلك حال الكفار، وأما المؤمن العاصي فلا تبلغ به حاله أن يحسب أنه مفلت من قدرة الله.

قيل: نزلت في قوم من المشركين. قال البغوي: نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين: لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلنّ عليكم في الآخرة كما فضّلنا عليكم في الدنيا، وتأويل نزول هذه الآية على هذا السبب أن حدوث قول هؤلاء النفر صادف وقت نزول هذه الآيات من السورة أو أن قولهم هذا متكرر فناسب تعرض الآية له حقه.

ونزول الآية على هذا السبب لإبطال كلامهم في ظاهر حاله، وإن كانوا لم يقولوه عن اعتقاد وإنما قالوه استهزاء، لئلا يروج كلامهم على دهمائهم، وَالحديثين في الإسلام؛ لأن شأن التصدّي للإرشاد أن لا يغادر مغمزاً لرواج الباطل إلا سدّه، كما في قوله تعالى: {أفرأيتَ الذي كفر بآياتنا وقال لأُوتَيّن مالاً وولداً أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهداً} [مريم: 77، 78] وله نظائر في القرآن. وزاد القرطبي في حكاية كلام الكلبي أنهم قالوه حين برزوا لهم يوم بدر، وهو لا يستقيم لأن السورة مكية ولم ينقل عن أحد استثناء هذه الآية منها.

والاجتراح: الاكتساب، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، وهو مشتق من الجرح فأطلق على اكتساب السباع ونحوها، ولذلك سميت كلاب الصيد جوارحَ وسمي به اكتساب الناس لأن غالب كسبهم في الجاهلية كان من الإغارة على إبل القوم وهي بالرماح، قالت أم زرع: فنكحتُ بعدَه رَجُلاً سريّاً، ركب شَريّاً، وأخذ خطباً وأراح عليَّ نَعَماً ثَرَياً، ولذلك غلب إطلاق الاجتراح على اكتساب الإثم والخبيث.

وظاهر تركيب الآية أن قوله: {سواء محياهم ومماتهم} داخل في الحسبان المنكور، فيكون المعنى إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين لا في الحياة ولا بعد الممات.

وقرأ الجمهور: {سواء} مرفوعاً فيكون موقع جملة {سواء محياهم} موقع البدل من كاف التشبيه التي هي بمعنى مِثل على ما ذهب إليه صاحب « الكشاف» يريد أنه بدل مطابق لأن الجملة تبدل من المفرد على الأصح، والبدل المطابق هو عطف البيان عند التحقيق، فيكون جملة {سواء محياهم ومماتهم} بيانَ ما حسبه المشركون. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف منصوباً، فلفظُ {سواء} وحده بدل من كاف المماثلة، بَدَل مفرد من مفرد أو حال من ضمير النصب في {نجعلهم}. وهذا لأن المشركين قالوا للمسلمين: سنكون بعد الموت خيراً منكم كما كنا في الحياة خيراً منكم.

فضمير {محياهم} وضمير {مماتهم} عائدان لكل من الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا على التوزيع، أي مَحْيَا كلِّ مساوٍ لمماته، أي لا يتبدل حال الفريقين بعد الممات بل يكُونون بعد الممات كما كانوا في الحياة غير أن موقع كاف التمثيل في قوله: {كالذين آمنوا} ليس واضح الملاقاة لحُسبان المشركين المسلطِ عليه الإنكار؛ لأنهم إنما حسبوا أن يكونوا بعد الممات على تقدير وقوع البعث أحسنَ حالاً من المؤمنين لا أن يكونوا مثل المؤمنين؛ لأنهم قالوا ذلك في مقام التطاول على المؤمنين، وإرادة إفحامهم بسفسطتهم. فبِنا أن نبين موقع هذا الكاف في الآية.

والذي أرى: أن موقعه الإيماء إلى أن الله قدّر للمؤمنين حسن الحال بعد الممات حتى صار ذلك المقدَّر مَضرِبَ الأمثال ومناط التشبيه، وإلى أن حُسبان المشركين أنفسَهم في الآخرة على حالة حسنة باطل، فعبر عن حسبانهم الباطلِ بأنهم أثبتوا لأنفسهم في الآخرة الحال التي هي حال المؤمنين، أي حسب المشركون بزعمهم أن يكونوا بعد الموت في حالة إذا أراد الواصف أن يصفها وصفها بمشابهة حال المؤمنين في عندِ الله وفي نفس الأمر، وليس المراد أن المشركين مَثَّلوا حالهم بحال المؤمنين فيؤول قوله: {كالذين آمنوا} إلى حكاية الكلام المحكي بعبارة تساويه لا بعبارة قائله وذلك مما يتوسع فيه في حكاية الأقوال كقوله تعالى حكاية عن عيسى {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله، ربّي وربّكم} [المائدة: 117] فإن ما أمره الله به: أن اعبدوا الله ربَّك وربّهم، وذلك من خلاف مقتضى الظاهر دعا الله هنا قصد التنويه بالمؤمنين والعناية بزلفاهم عند الله، فكأنه قيل: أحسبوا أن نجعلهم في حالة حسنة ولكن هذا المأمول في حسبانهم هو في نفس الأمر حال المؤمنين لا حالُهم. فأُوجز الكلام، وفَهْم السامع يبسطه.

والمواجه بهذا الكلام هم النبي والمؤمنون تكملة للغرض المبتدأ به في قوله: {قل للذي آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14] على أن لك أن تجعل قوله تعالى: {كالذين آمنوا} معترضاً بين مفعولي (نجعل) وهما ضميرا الغائبين وجملة {سواء محياهم} أو ولفظ {سواء} في قراءة نصبه فلا يكون مراداً إدخاله في حسبان المشركين.

ويجوز على هذا أن يكون قوله: {كالذين آمنوا} تهكماً على المشركين في حسبانهم تأكيداً للإنكار عليهم.

ومِن خلاف ظاهر التركيب ما قيل: إن مدلول {سواء محياهم ومماتهم} ليس من حسبان المشركين المنكور ولكنه كلام مستأنف، والمعنى: أنه لما أنكر حسبان استواء الكافرين والمؤمنين خطر ببال السامع أن يسأل كيف واقعُ حال الفريقين فأجيب بأن حال محياهم هو مقياس حال مماتهم، أي حالهم في الآخرة مختلف كما هو في الدنيا مختلف، فالمؤمنون يحيون في الإقبال على ربهم ورجاء فضله، والكافرون يعيشون معرضين عن عبادة ربّهم آيسين من البعث والجزاء. وهذا ليس عين الجواب ولكنه من الاكتفاء بعلة الجواب عن ذكره. والتقدير: حال الفريقين مختلف في الآخرة كما كان مختلفاً في الحياة.

وجملة {ساء ما يحكمون} تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل بذلك الإنكار من المعاني واعلم أن هذه الآية وإن كان موردها في تخالف حالي المشركين والمؤمنين فإن نوط الحكم فيها بصلة {الذين اجترحوا السيئات} يجعل منها إيماء إلى تفاوت حالي المسيئين والمحسنين من أهل الإيمان، وإن لم يحسب أحد من المؤمنين ذلك وعن تميم الداري أنه بات ليلة يقرأ هذه الآية ويركع ويسجد ويبكي إلى الصباح. وروي مثل ذلك عن الربيع بن خيثم وعن الفضيل بن عياض: أنه كان كثيراً ما يردد من أول الليل هذه الآية ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت. يخاطب نفسه فكانت هذه الآية تسمى مَبكاة العابدين.

والمحيا والممات: مصدران ميميان أو اسما زَمان، أي حياتهم وموتهم، وهو على كلا الاعتبارين بتقدير مضاف، أي حالة محياهم وحالات مماتهم.