{ 1-9 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
ذكر كثير من المفسرين ، [ رحمهم الله ] ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فكتب حاطب إلى قريش{[1049]} يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ليتخذ بذلك يدا عندهم لا [ شكا و ] نفاقا ، وأرسله مع امرأة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه ، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب .
وعاتب حاطبا ، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم ، وإلقاء المودة إليهم ، وأن ذلك مناف للإيمان ، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو ، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا ، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى إيمانكم ، من ولاية من قام بالإيمان ، ومعاداة من عاداه ، فإنه عدو لله ، وعدو للمؤمنين .
فلا تتخذوا عدو الله { وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } أي : تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها ، فإن المودة إذا حصلت ، تبعتها النصرة والموالاة ، فخرج العبد من الإيمان ، وصار من جملة أهل الكفران ، وانفصل عن أهل الإيمان .
وهذا المتخذ للكافر وليا ، عادم المروءة أيضا ، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر ، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير ، ويأمره به ، ويحثه عليه ؟ ! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار ، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة ، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى .
والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله ، بل مجرد العلم بالحق{[1050]} يدل على بطلان قول من رده وفساده .
ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم ، ويشردونكم من أوطانكم ، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم ، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته ، لأنه رباهم ، وأنعم عليهم ، بالنعم الظاهرة والباطنة ، وهو الله تعالى .
فلما أعرضوا عن هذا الأمر ، الذي هو أوجب الواجبات ، وقمتم به ، عادوكم ، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم ، فأي دين ، وأي مروءة وعقل ، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان ؟ " ولا يمنعهم منه إلا خوف ، أو مانع قوي .
{ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } أي : إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وابتغاء مرضاة الله{[1051]} فاعملوا بمقتضى هذا ، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، فإن هذا هو الجهاد في سبيله{[1052]} وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه .
{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } أي : كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها ، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون ؟ ! ، فهو وإن خفي على المؤمنين ، فلا يخفى على الله تعالى ، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ } أي : موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ } .
قال أبو جعفر : يقول : تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي من المشركين وَعَدُوّكُمْ أوْلياءَ يعني أنصارا .
وقوله : { تُلْقُونَ إلَيْهمْ بالمَوَدّة }يقول جلّ ثناؤه : تلقون إليهم مودّتكم إياه . ودخول الباء في قوله : بالمَوَدّةِ وسقوطها سواء ، نظير قول القائل : أريد بأن تذهب ، وأريد أن تذهب سواء ، وكقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ }والمعنى : ومن يرد فيه إلحادا بظلم ومن ذلك قول الشاعر :
فَلَمّا رَجَتْ بالشّرْبِ هَزّ لَهَا الْعَصَا *** شَحِيحٌ لَهُ عِنْدَ الإزَاءِ نَهِيمُ
{ وقد كَفَرُوا بِمَا جاءَكُمْ مِنَ الحَقّ }يقول : وقد كفر هؤلاء المشركون الذين نهيتكم أن تتخذوهم أولياء بما جاءكم من عند الله من الحقّ ، وذلك كفرهم بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله على رسوله .
وقوله : { يَخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإيّاكُمْ أنْ تُوءْمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ }يقول جلّ ثناؤه : يخرجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياكم ، بمعنى : ويخرجونكم أيضا من دياركم وأرضكم ، وذلك مشركي قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة .
وقوله : { أن تُوءْمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ }يقول جلّ ثناؤه : يخرجون الرسول وإياكم من دياركم ، لأن آمنتم بالله .
وقوله : { إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي وَابْتِغاءَ مَرْضَاتِي } من المؤخر الذي معناه التقديم ، ووجه الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي ، وابتغاء مرضاتي يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم . ويعني بقوله تعالى ذكره : { إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي } : إن كنتم خرجتم من دياركم ، فهاجرتم منها إلى مهاجرَكم للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم ، وديني الذي أمرتكم به . والتماس مرضاتي .
وقوله : { تُسِرّونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدّةَ }يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسرّون أيها المؤمنون بالمودّة إلى المشركين بالله ، { وأنا أعْلَمُ بِمَا أخْفَيْتُمْ }يقول : وأنا أعلم منكم بما أخفى بعضكم من بعض ، فأسره منه{ وَما أعْلَنْتُمْ }يقول : وأعلم أيضا منكم ما أعلنه بعضكم لبعض ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاء السّبيلِ }يقول جلّ ثناؤه : ومن يسرّ منكم إلى المشركين بالمودّة أيها المؤمنون فقد ضلّ : يقول : فقد جار عن قصد السبيل التي جعلها الله طريقا إلى الجنة ومحجة إليها .
وذُكر أن هذه الاَيات من أوّل هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بَلتعة ، وكان كتب إلى قُرَيش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ، وبذلك جاءت الاَثار والرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباريّ ، والفضل بن الصباح قالا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن حسن بن محمد بن عليّ ، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزّبير بن العوّام والمقداد قال الفضل قال سفيان : نفر من المهاجرين فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها » فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة ، فوجدنا امرأة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ليس معي كتاب ، قلنا : لتخرجنّ الكتاب ، أو لنلقينّ الثياب ، فأخرجته من عِقَاصها ، وأخذنا الكتاب فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا حاطِبُ ما هَذَا ؟ » قال : يا رسول الله لا تعجل عليّ كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم يكن لي فيهم قرابة ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات ، يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ فيها يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ صَدَقَكُمْ » فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «إنّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرا ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلّ اللّهَ قَدِ اطّلَعَ على أهْلِ بَدْرِ فَقال : اعْمَلُوا ما شِئتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » زاد الفضل في حديثه ، قال سفيان : ونزلت فيه { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله حتّى تُوءْمِنُوا باللّهِ وَحْدَهُ } .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان سعيد بن سنان ، عن عمرو بن مرّة الجملي ، عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث ، عن عليّ رضي الله عنه قال : لما أردا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة ، أسرّ إلى ناس من أصحابه أنه يريد مكة . فيهم حاطب بن أبي بلتعة ، وأفشى في الناس أنه يريد خيبر ، فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يريدكم ، قال : فبعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس ، فقال : ائْتُوا رَوْضَةَ خاخ ، فإنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بِها امْرأةً وَمَعَها كِتاب ، فَخذُوهُ مِنْها فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : هاتي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فوضعنا متاعها وفتشنا ، فلم نجده في متاعها ، فقال أبو مرثد : لعله أن لا يكون معها ، فقلت : ما كذَب النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا كذبَ ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، وإلا عريناك قال عمرو بن مرّة : فأخرجته من حُجْزَتها ، وقال حبيب : أخرجته من قبلها فأتينا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، فقام عمر فقال : خان الله ورسوله ، ائذن لي أضرب عنقه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألْيسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرا ؟ » قال : بلى ، ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَلَعَلّ اللّهَ قَدِ اطّلَعَ عَلى أهْل بَدْرٍ ، فَقالَ : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ » ، ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم ، فأرسل إلى حاطب ، فقال : «ما حملك على ما صنعت ؟ » فقال : يا نبيّ الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، وكان لي بها أهل ومال ، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله ، فكتبت إليهم بذلك ، والله يا نبيّ الله إني لمؤمن بالله وبرسوله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «صَدَقَ حاطِبُ بْنُ أبي بَلْتَعَةَ ، فَلا تَقُولُوا لِحاطِبَ إلاّ خَيْرا » ، فقال حبيب بن أبي ثابت : فأنزل الله عزّ وجلّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ . . . الآية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياء تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدّةِ . . . إلى آخر الآية ، نزلت في رجل كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة من قريش ، كتب إلى أهله وعشيرته بمكة ، يخبرهم وينذرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر إليهم ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحيفته ، فبعث إليها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأتاه بها .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزّبير ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، قالوا : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب وجعل لها جُعْلاً ، على أن تبلغه قريشا ، فجعلته في رأسها . ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت . وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام رضي الله عنهما ، فقال : «أدرِكا امْرأةً قَدْ كَتَبَ مَعَها حاطِبٌ بكِتاب إلى قُرَيْش يُحَذّرُهُمْ ما قَدِ اجْتَمَعْنا لَهُ فِي أمْرِهِمْ » ، فخرجا حتى أدركا بالحليفة ، حليفة ابن أبي أحمد فاستنزلاها فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئا ، فقال لها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : إني أحلف بالله ما كُذِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كُذِبنا ، ولتخرِجِنّ إليّ هذا الكتاب ، أو لنكشفنك فلما رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض عني ، فأعرض عنها ، فحلّت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب فدفعته إليه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا ، فقال : «يا حاطب ما حَمَلَكَ على هَذَا ؟ » فقال : يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدّلت ، ولكني كنت امرأ في القوم ليس لي أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد ، فصانعتهم عليه ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَما يُدْرِيكَ يا عُمَرُ لَعَلّ الله قَدِ اطّلَعَ على أصحَاب بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقالَ : اعْمَلُوا ما شِئْتم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » فأنزل الله عزّ وجلّ في حاطب : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله وَإلَيْكَ أنَبْنا . . . } إلى آخر القصة .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة قال : لما نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ في حاطب بن أبي بلتعة ، كتب إلى كفار قريش كتابا ينصح لهم فيه ، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، فأرسل عليا والزّبير ، فقال : «اذْهَبا فإنّكُما سَتَجدَنِ امْرأةً بِمَكانِ كَذَا وكَذَا ، فأتَيَا بكِتاب مَعَها » ، فانطلقا حتى أدركاها ، فقالا : الكتاب الذي معك ، قالت : ليس معي كتاب ، فقالا : والله لا ندع معك شيئا إلا فتّشناه ، أو تخرجينه ، قالت : أولستم مسلمين ؟ قالا : بلى ، ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن معك كتابا قد أيقنت أنفسنا أنه معك فلما رأت جدّهما أخرجت كتابا من بين قرونها ، فذهبا به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار قريش ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أنْت كَتَبْت هَذَا الكِتاب ؟ » قال : نعم ، قال : «ما حَمَلَكَ على ذَلكَ ؟ » قال : أما والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ، ولكني كنت امرأ غريبا فيكم أيّها الحيّ من قريش ، وكان لي بمكة مال وبنون ، فأردت أن أدفع بذلك عنهم ، فقال عمر رضي الله عنه : ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَهْلاً يا بْن الخَطّاب ، وما يُدْرِيكَ لَعَل الله قَدِ اطّلَع إلى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فأنّي غافِرٌ لَكُمْ » قال الزهري : فيه نزلت حتى غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } في مكاتبة حاطب بن أبي بلتعة ، ومن معه كفار قريش يحذرهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . حتى بلغ سَوَاء السّبِيلِ } : ذُكر لنا أن حاطبا كتب إلى أهل مكة يخبرهم سير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم زمن الحديبية ، فأطلع الله عزّ وجلّ نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، وذُكر لنا أنهم وجدوا الكتاب مع امرأة في قرن من رأسها ، فدعاه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال : «ما حَمَلَكَ على الذِي صَنَعْتَ ؟ » قال : والله ما شَكَكْتُ في أمر الله ، ولا ارتددت فيه ، ولكن لي هناك أهلاً ومالاً ، فأردت مصانعة قريش على أهلي ومالي . وذُكر لنا أنه كان حليفا لقريش لم يكن من أنفسهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك القرآن ، فقال : { إنْ يَثْقَفُوكُمْ يكُونُوا لَكُمْ أعْداءً ويَبْسِطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ وألْسِنَتَهُمْ بالسّوءِ وَوَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } .
( 60 ) سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة .
تفسير سورة الممتحنة{[1]}
العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش ، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة{[11036]} ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فوَّرى عن ذلك بخيبر ، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر ، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده ، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث علياً والزبير وثالثاً هو المقداد ، وقيل أبو مرثد{[11037]} ، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاح{[11038]} ، فإن بها ظعينة{[11039]} معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش ، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة ، فقالوا لها : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب ، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئاً ، فقال بعضهم : ما معها كتاب ، فقال علي : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . قالت : أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها ، وقيل : أخرجته من حجزتها ، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم{[11040]} فقال لحاطب : من كتب هذا ؟ فقال : أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي . فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر . فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ولا تقولوا لحاطب إلا خير » ، فنزلت الآية لهذا السبب{[11041]} ، وروي أن حاطباً كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل ، والسيل ، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير ، و { تلقون } في موضع الصفة ل { أولياء } ، وألقيت يتعدى بحرف الجر ، وبغير حرف جر ، فدخول الباء وزوالها سواء ، وهذا نظير قوله عز وجل : { وألقيت عليك محبة مني }{[11042]} [ طه : 39 ] وقوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب }{[11043]} [ آل عمران : 151 ] وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ : «وقد كفروا لما » بلام . . .
وقوله تعالى : { يخرجون } في موضع الحال من الضمير في { كفروا } والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم ، وهي حال موصوفة ، فلذلك ساق الفعل مستقبلاً والإخراج قد مر ، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤدياً إلى الخروج ، وقوله تعالى : { إن تؤمنوا } مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله ، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط ، والتقدير : «إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » و { جهاداً } نصب على المصدر وكذلك { ابتغاء } ، ويجوز أن يكون ذلك مفعولاً من أجله ، و «المرضاة » مصدر كالرضى ، و { تسرون } بدل من { تلقون } ، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء ، كأنه قال أنتم { تسرون } ، ويصح أن تكون فعلاً مرسلاً ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما ، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء ، فيترجح بهذا أن { تسرون } فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم ، وقوله تعالى : { أعلم } يحتمل أن يكون أفعل ، ويحتمل أن يكون فعلاً ، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى : { وأنا أعلم } الآية ، جملة في موضع الحال ، وقرأ أهل المدينة «وأنا » بإشباع الألف في الإدراج ، وقرأ غيرهم «وأنا » بطرح الألف في الإدراج ، والضمير في { يفعله } عائد على الاتخاذ المذكور ، ويجوز أن تكون { سواء } مفعولاً ب { ضل } وذلك على بعد ، وذلك على تعدي { ضل } ، ويجوز أن يكون ظرفاً على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى ، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه .