{[219]}المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات : المنافقون المظهرون إسلامهم ، ولم يهاجروا مع كفرهم ، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه ، فبعضهم تحرج عن قتالهم ، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان ، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم . فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا ، بل أمرهم واضح غير مشكل ، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم ،
{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوَاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } : فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين ، { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يعني بذلك : والله ردّهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم . والإركاس : الردّ ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النّارِ إنّهُمُ ***كانُوا عُصَاةً وقالوا الإفْكَ وَالزّورَا
يقال منه : أركسهم وركسهم . وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله وأبيّ : «والله ركسهم » بغير ألف .
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وانصرفوا إلى المدينة ، وقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولأصحابه : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُمْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثني الفضل بن زياد الواسطي ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاريّ يحدّث عن زيد بن ثابت : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أُحد ، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا . فنزلت هذه الاَية : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا } . . . الاَية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة : «أنّها طَيّبَةٌ وإنّها تَنْفِي خَبَشَها كمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الفِضّةِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه .
حدثني زريق بن السخت ، قال : حدثنا شبابة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : ذكروا المنافقين عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال فريق : نقتلهم ، وقال فريق : لا نقتلهم فأنزل الله تبارك وتعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } . . . إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة ، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } قال : قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدّوا بعد ذلك ، فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها . فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . فبين الله نفاقهم ، فأمر بقتالهم . فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة ، فلقيهم هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم حلف ، وهو الذي حصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يؤمنون هلالاً ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله بنحوه ، غير أنه قال : فبين الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم فلم يقاتلوا يومئذ ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، فليس علينا منهم بأس ! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوّكم ! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك ! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء¹ فنزلت : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } . . . الاَية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } . . . الاَية ، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة ، وكانا قد تكلما بالإسلام ، ولم يهاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فلقيهما ناس من أصحاب نبيّ الله وهما مقبلان إلى مكة ، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال ، وقال بعضهم : لا تحلّ لكم . فتشاجروا فيهما ، فأنزل الله في ذلك : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُم } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر بن راشد ، قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، وكان ذلك منهم كذبا . فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال ، وقالت طائفة : دماؤهم حرام¹ فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } هم ناس تخلفوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة ، وأعلنوا الإيمان ، ولم يهاجروا . فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا . فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتّخَمْناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظّهْر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا¹ واختلف فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء الله المنافقون ، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم ! وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتّخموها . فخرجوا إلى الظهر يتنزّهون ، فإذا برءوا رجعوا . فقال الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } يقول : ما لكم تكونون فيهم فئتين { والله أرْكَسَهُمْ بمَا كَسبوا } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : هذا في شأن ابن أبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم . فقال سعد بن معاذ : فإنى أبرأ إلى الله وإلى رسوله منه ! يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب¹ لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين : التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم ، والاَخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة ، وفي قول الله تعالى ذكره : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا } أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر ، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرض هجرة ، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه .
واختلف أهل العربية في نصب قوله : { فِئَتَيْنِ } فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : ما لك قائما ، يعني ما لك في حال القيام . وهذا قول بعض البصريين¹ وقال بعض نحويي الكوفيين : هو منصوب على فعل «ما لك » ، قال : ولا يُبالَى كان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة . قال : ويجوز في الكلام أن يقول : ما لك السائر معنا ، لأنه كالفعل الذي ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما . قال : وكل موضع صلحت فيه «فعل » و«يفعل » من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة ، كما ينصب كان وأظنّ لأنهنّ نواقص في المعنى وإن ظننت أنهنّ تامات . وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن المطلوب في قول القائل : «ما لك قائما » القيام ، فهو في مذهب كان وأخواتها وأظنّ وصواحباتها .
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } فقال بعضهم : معناه : ردّهم¹ كما قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } ردّهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : والله أوقعهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يقول : أوقعهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أضلّهم وأهلكهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } قال : أهلكهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم بما عملوا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم .
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام ، فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه من أضله الله عنه ، يعني بذلك : من خذله الله عنه فلم يوفقه للإقرار به . وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية ، يقول لهم جلّ ثناؤه : أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحقّ واتباع الإسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين ؟ { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } يقوله : ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده ، فأضله عنه ، فلن تجد له يا محمد سبيلاً ، يقول : فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله ( عنه ) ، ولا منهجا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه .
{ فما لكم في المنافقين } فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين . { فئتين } أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم ، وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم . وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد ، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن ، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة و{ فئتين } حال عاملها لكم كقولك : ما لك قائما . و{ في المنافقين } حال من { فئتين } . أي متفرقتين فيهم ، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ، ومعنى الافتراق مستفاد من { فئتين } . والله أركسهم بما كسبوا } ردهم إلى حكم الكفرة ، أو نكسهم بأن صيرهم للنار . وأصل الركس رد الشيء مقلوبا . { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } أن تجعلوه من المهتدين . { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الهدى .
تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت ، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم ، أو هو تفريع عن قوله : { ومن أصدق من الله حديثاً } [ النساء : 87 ] . وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي ، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم ، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله : { فقاتل في سبيل الله } في سورة النساء ( 84 ) .
والاستفهام للتعجيب واللَّوم . والتعريف في { المنافقين } للعهد ، و { فئتين } حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله ، الذي هو التوبيخ ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام : { في المنافقين } متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى « منقسمين » ، ومعناه : في شأن المنافقين ، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين .
والفئة : الطائفة . وزنها فِلَة ، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع ، لأنّهم يَرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم . وأصلها فَيّءٌ ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء .
وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر ، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم . قيل : نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أُحد : عبد الله بن أبَيّ وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك . وفي « صحيح البخاري » عن زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبي من أُحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقُتُلْهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت « فما لكم في المنافقين فئتين » ، وقال : « إنّها طَيْبَة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة » أي ولَمْ يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام . فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم . وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى المدينة ، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة ، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها ، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون . ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية .
وعن الضّحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم :
{ إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم } [ النساء : 97 ] الآية . وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثَلاً لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذٍ من أهل المدينة ومن أهل مكة .
والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجاً لهم إلى يوم فتح مكة .
وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المُخطِئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين . وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالِم لا يكون بعيداً عن الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطىء أهلُ العلم في مثله .
وجملة { والله أرْكَسَهم بما كسبوا } حالية ، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى ، لأنّ معنى أركس رَدّ إلى الرّكْس ، والركس قريب من الرجس . وفي حديث الصحيح في الروث « إنّ هذا رِكْسٌ » وقيل : معنى أركس نكس ، أي ردّ ردّاً شنيعاً ، وهو مقارب للأول . وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها ، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات ، والعمل السيّء يأتي بمنتهى المعاصي ، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سبباً في بلوغ الغايات من جنسه .
وقوله : { أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله } استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } ، لأنّ السامعين يترقّبون بيان وجه اللوم ، ويتساءلون عمّاذا يتُخذون نحو هؤلاء المنافقين . وقد دلّ الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محلّ الاستئناف البياني ، وتقديرها : إنهم قد أضلّهم الله ، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ، بناء على أنّ قوله : { والله أركسهم } ليس المراد منه أنَّه أضلّهم ، بل المراد منه أساءَ حالهم ، وسوءُ الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان ، فيكون فَصْل الجملة فصل الاستئناف .
وإن جعلتَ معنى { والله أركسهم } أنّه ردّهم إلى الكفر ، كانت جملة { أتريدون } استئنافاً ابتدائياً ، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار ، بعد جملة { والله أركسهم } التي هي خبرية ، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فما لكم} صرتم {في المنافقين} {فئتين} تختصمون،
{والله أركسهم}: أضلهم فردهم إلى الكفر، {بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله} عن الهدى، {فلن تجد له سبيلا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}: فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين.
{وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}: والله ردّهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم. والإركاس: الردّ.
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الآية؛
فقال بعضهم: نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولأصحابه: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُمْ}... عن عديّ بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاريّ يحدّث عن زيد بن ثابت: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أُحد، رجعت طائفة ممن كان معه، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا. فنزلت هذه الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا...}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة: «أنّها طَيّبَةٌ وإنّها تَنْفِي خَبَثها كمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الفِضّةِ».
وقال آخرون: بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك. وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. عن ابن عباس قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوّكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء¹ فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ}.
[عن] عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} هم ناس تخلفوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة، وأعلنوا الإيمان، ولم يهاجروا. فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا. فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا.
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا. عن السديّ: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتّخَمْناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظّهْر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برية. فانطلقوا¹ واختلف فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداء الله المنافقون، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتّخموها. فخرجوا إلى الظهر يتنزّهون، فإذا برءوا رجعوا. فقال الله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ} يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين {والله أرْكَسَهُمْ بمَا كَسبوا}.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب¹ لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين: التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم، والاَخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة، وفي قول الله تعالى ذكره: {فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا} أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرض هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه.
{وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}؛ اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ}؛ فقال بعضهم: معناه: ردّهم كما قلنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: والله أوقعهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أضلّهم وأهلكهم.
{أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ}: أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام، فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه من أضله الله عنه، يعني بذلك: من خذله الله عنه فلم يوفقه للإقرار به. وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، يقول لهم جلّ ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحقّ واتباع الإسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين؟ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}: ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده، فأضله عنه، فلن تجد له يا محمد سبيلاً، يقول: فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله عنه، ولا منهجا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه النهي عن الاختلاف والتنازع بينهم، كأنه قال، والله أعلم: كيف تختلفون في قوم ظهر نفاقهم؟ وكيف لا تسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالهم؟ وهو بين أظهركم كقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية (النساء: 59). وظهور نفاقهم يحتمل الخبر منه نصا أنهم منافقون، ويحتمل الظهور بالاستدلال على أفعالهم. وقد يوفق على حال المرء بفعله أنه كافر أو مؤمن... ثم يحتمل قوله تعالى: {والله أركسهم بما كسبوا} وجهين: (يحتمل ما أظهروا ما) كان في قلوبهم من النفاق والخلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {بما كسبت قلبوهم} (البقرة: 225)، ويحتمل ابتداء كسب كسبوا بعد ما أسلموا، أي كفروا، وارتدوا عن الإسلام بعد ما صح إسلامهم. والله أعلم، بما كسبوا من إحداث شرك، أو بكسبهم بالقلوب وقت إظهارهم الإيمان في أن ظهر عليهم بلحوقهم إخوانهم من الكفرة، أو لما جعل الله من أعلام النفاق التي ظهرت بفرض الجهاد والعبادات، والله أعلم.
وقوله تعالى: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} تأويله، والله أعلم، {أتريدون أن تهدوا} وقد أراد الله أن يضلوا لما علم الله منهم أنهم لا يهتدون باختيارهم الكفر. ويحتمل أنكم لا تقدرون على هداهم إذا لم يهدهم الله تعالى كقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحبت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56). وفي قوله تعالى أيضا: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} قيل: أن (تسموا مهدين) وقد أظهر الله ضلالتهم ضلة كقوله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين} حذرهم عن الاختلاف في التسمية بعد البيان، وقيل: أن تجعلوهم مهتدين، وقد جعلهم الله ضالين نحو قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}. قوله تعالى: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} يقول: من أضله الله عن الهدى {فلن تجد له سبيلا} يهتدي (به) وقيل: دينا، وقيل: مخرجا، وهو واحد، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
العهد فيهم أنهم أعدائي، لا ينالون مِنِّي في الدنيا والعقبى رضائي، وإنكم لا تُنْقِذون بهممكم من أقمته بقسمتي...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{أن تهدوا} أي ترشدوا {من أضل الله} لم يرشده الله أي يقولون هؤلاء مهتدون والله قد أضلهم {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}: طريقا إلى الحجة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا نفاقاً ظاهراً وتفرقتم فيه فرقتين وما لكم لم تبتوا القول بكفرهم {والله أَرْكَسَهُمْ} أي ردهم في حكم المشركين كما كانوا {بِمَا كَسَبُواْ} من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى أركسوا فيه لما علم من مرض قلوبهم. {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ}: أن تجعلوا من جملة المهتدين {مَنْ أَضَلَّ الله}: من جعله من جملة الضلال، وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضلّ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {فما لكم في المنافقين} الآية. الخطاب للمؤمنين، وهذا ظاهره استفهام، والمقصد منه التوبيخ،. ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ صَاحِبٍ عَنْ صَاحِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إلَى أُحُدٍ رَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ تَقُولُ: نَقْتُلُهُمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: لَا نَقْتُلُهُمْ، فَنَزَلَتْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ.
الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى أَتَوا الْمَدِينَةَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ فَارْتَدُّوا وَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ، فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَفِرْقَةٌ تَقُولُ إنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ هُمْ مُؤْمِنُونَ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِفَاقَهُمْ.
الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا بِهِمْ قَالَتْ فِئَةٌ: اُخْرُجُوا إلَى هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ. وَقَالَتْ أُخْرَى: قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ.
الرَّابِعُ: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالُوا: أَصَابَتْنَا أَوْجَاعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَلَعَلَّنَا نَخْرُجُ إلَى الظُّهْرِ حَتَّى نَتَمَاثَلَ وَنَرْجِعُ؛ فَانْطَلَقُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ طَائِقَةٌ: أَعْدَاءُ اللَّهِ مُنَافِقُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إخْوَانُنَا غَمَّتْهُمُ الْمَدِينَةُ فَاجْتَوَوْهَا، فَإِذَا بَرِئُوا رَجَعُوا؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ.
الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ زَيْدٌ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يَعْنِي حَتَّى يَهْجُرُوا الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ وَالْمَالَ، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ اللَّهَ رَدَّ الْمُنَافِقِينَ إلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ الْإِرْكَاسُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ إلَى الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ، كَمَا قَالَ فِي الرَّوْثَةِ إنَّهَا رِجْسٌ، أَيْ رَجَعَتْ إلَى حَالَةٍ مَكْرُوهَةٍ؛ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَلَّقُوا فِيهِمْ بِظَاهِرِ الْإِيمَانِ، إذَا كَانَ أَمْرُهُمْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ، وَأَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنْدِيقَ يُقْتَلُ، وَلَا يُسْتَتَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}.
فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ. قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ وَهَذِهِ حَالَةٌ دَائِمَةٌ، لَا تَذْهَبُ عَنْهُمْ أَبَدًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ، وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ، فَعُثِرَ عَلَيْهِ، كَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ؟
مالكم صرتم في المنافقين فئتين، وهو استفهام على سبيل الإنكار، أي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية، فليس لكم أن تختلفوا فيه بل يجب أن تقطعوا بكفرهم...
قال الحسن: إنما سماهم منافقين وإن أظهروا الكفر لأنهم وصفوا بالصفة التي كانوا عليها من قبل، والمراد بقوله: {فئتين} ما بينا أن فرقة منهم كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبري والتكفير... ثم قال تعالى: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}...المراد من الآية أن الله تعالى أضلهم عن الدين قوله: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} فالمؤمنون في الدنيا إنما كانوا يريدون من المنافقين الإيمان ويحتالون في إدخالهم فيه. ثم قال تعالى: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} فوجب أن يكون معناه أنه تعالى لما أضلهم عن الإيمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا إلى إدخاله في الإيمان،...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{والله أركسهم بما كسبوا}... ومعنى بما كسبوا أي: بما أجراه الله عليهم من المخالفة،... {أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله} هذا استفهام إنكار أي: من أراد الله ضلاله، لا يريد أحد هدايته لئلا تقع إرادته مخالفة لإرادة الله تعالى، ومَن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم. ممن أضله الله فكأنه قيل: أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم من بعد قوله: والله أركسهم، هو على سبيل التوكيد، إذ ذكروا أولاً على سبيل الخصوص، وثانياً على سبيل اندراجهم في العموم...
{ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً} أي: فلن تجد لهدايته سبيلاً...
وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين، لأنه إذا لم يكن له ذلك، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة، لا لبس في أمرهم، وكشف سبحانه وتعالى الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة وظاهره بالتحية، وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل للحكم بالعدل، وختم بأن الخبر عنهم وعن جميع ذلك صدق؛ كان ذلك سبباً لجزم القول بشقاوتهم والإعراض عنهم والبعد عن الشفاعة فيهم، والإجماع على ذلك من كل مؤمن وإن كان مبنى السورة على التواصل، لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله، فقال تعالى مبكتاً لمن توقف عن الجزم بإبعادهم: {فما لكم} أيها المؤمنون {في المنافقين} أي أيّ شيء لكم من أمور الدنيا أو الآخرة في افتراقكم فيهم {فئتين} بعضكم يشتد عليهم وبعضكم يرفق بهم
ولما كان هذا ظاهراً في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم وضحه بقوله؛ {والله} أي والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه {أركسهم} أي ردهم منكوسين مقلوبين {بما كسبوا} أي بعد إقرارهم بالإيمان من مثل هذه العظائم، فاحذروا ذلك ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان؛ وفي عزوة أحد والتفسير من البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال:"لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فما لكم في المنافقين} -الآية، وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب وفي رواية:- كما تنفي النار خبث الفضة" انتهى. فالمعنى حينئذ: اتفقوا على أن تسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات.
ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم، أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم صريحاً لبت الأمر في كفرهم فقال {أتريدون} أي أيها المؤمنون {أن تهدوا} أي توجدوا الهداية في قلب {من أضل الله} أي وهو الملك الأعظم الذي لا يرد له أمر، وهو معنى قوله: {ومن} أي والحال أنه من {يضلل الله} أي بمجامع أسمائه وصفاته {فلن تجد} أي أصلاً أيها المخاطب كائناً من كان {له سبيلاً} أي إلى ما أضله عنه أصلاً، والمعنى: إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم فذلك أمر ليس إلا الله، وإنما عليكم أنتم الدعاء، فمن أجاب صار أهلاً للمواصلة، ومن أبى صارت مقاطعته ديناً، وقتله قربة، والإغلاظ واجباً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ابتدأ هذه الآيات بالفاء لوصلها بما سبقها إذ السياق لا يزال جاريا في مجراه من أحكام القتال وذكر شؤون المنافقين والضعفاء فيه، ومن المنافقين من كان ينافق بإظهار الإسلام فتخونه أعماله كما تقدم، ومنهم من كان ينافق بإظهار الولاء للمؤمنين والنصر لهم وهم بعض المشركين وكذا بعض أهل الكتاب وهذه الآيات في المنافقين في إبان الحرب بإظهار الولاء والمودة أو بالإيمان في غير دار الهجرة، ورد في أسباب نزولها روايات متعارضة: روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس كانوا خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيهم فرقتين: فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين} وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناس فقال: (من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني) فقال سعد بن معاذ: إن كان من أوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك. فقام سعد بن عبادة فقال ما لك يا ابن معاذ طاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير، فقال: إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين، فقام محمد بن سلمة، فقال: اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يأمرنا فننفذ أمره. فأنزل الله {فما لكم في المنافقين فئتين} الآية. وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم؟ قالوا أصابنا وباء المدينة قالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟، فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا. فأنزل الله الآية، وفي إسناده تدليس وانقطاع اهـ من لباب النقول للسيوطي، والمراد بالذي يؤذي النبي في حديث سعد بن معاذ هو عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين، وما كان منه في قصة الإفك. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام ويعينون المشركين على المسلمين. ورجحها بعضهم حتى على رواية الشيخين بذكر المهاجرة في الآية الثانية.
روى ابن جرير في التفسير عن ابن عباس بعد ذكر سنده من طريق محمد بن سعد: قوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد عليه السلام فليس علينا منهم بأس وأن المؤمنين لما أخبروا خرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم قالت طائفة من المؤمنين اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين سبحان الله أو كما قالوا تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت. وذكر الآية. وهذا لا يدل على أن أولئك القوم قد أسلموا بالفعل كما توهمه عبارة بعض الناقلين. وروى ابن جرير عن معمر بن راشد قال بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أنهم قد أسلموا وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة دماؤهم حلال، وقالت طائفة دماؤهم حرام، فأنزل الله الآية
وروي أيضا عن الضحاك قال هم ناس تخلفوا عن نبي الله (صلى الله عليه وسلم) وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر فسماهم الله منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا.
ثم ذكر ابن جرير روايات من قال إنها نزلت في منافقين كانوا في المدينة وأرادوا الخروج منها معتذرين بالمرض والتخمة، ومن قال إنها نزلت في أهل الإفك ثم رجح قول من قالوا أنها نزلت في قوم من مكة ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم لذكر الهجرة في الآية.
ومن المعهود أنهم يجمعون بين الروايات في مثل هذا بتعدد الوقائع ونزول الآية عقبها، ولا يمنعهم من هذا أن يكون بين الوقائع تراخ وزمن طويل، وأقرب من ذلك أن يحملها كلٌّ على واقعة يرى أنها تنطبق عليها من باب التفسير لا التاريخ، ولكن من الروايات ما يكون نصا أو ظاهرا في التاريخ وتعيين الواقعة، إلا أن تكون الرواية منقولة بالمعنى كما هو الغالب وحينئذ تكون الرواية في سبب النزول ليست أكثر من فهم للمروي عنه في الآية ورأي في تفسيرها يخطئ فيه ويصيب، ولا يلزم أحدا أن يتبعه فيه، بل لمن ظهر له خطؤه أن يرده عليه ولا سيما إذا كان ما يتبادر من معنى الآيات يأباه. وقد رأيت أن بعضهم رد رواية الصحيحين في جعل المراد بالمنافقين هنا فئة عبد الله بن أبيّ ابن سلول الذين رجعوا عن القتال في أحد واستدلوا بما رأيت من ذكر المهاجرة في الآية الثانية، ويمكن تأويل هذا اللفظ بما تراه. وأقوى منه في رد هذه الرواية وما دونها في قوة السند من سائر الروايات (أي التي جعلت الآية في منافقي المدينة) إن الأحكام التي ذكرت في هذه الآيات لم يعمل النبي (صلى الله عليه وسلم) بها في أحد ممن قالوا إنها نزلت فيهم وهو قتلهم حيثما وجدوا بشرطه، وهذه آية من آيات صد بعض الروايات الصحيحة السند عن الفهم الصحيح الذي يتبادر من الآيات بلا تكلف.
ورجح ابن جرير وغيره رواية ابن عباس (رضي الله عنه) في نزول هذه الآية في أناس كانوا بمكة يظهرون الإسلام خداعا للمسلمين وينصرون المشركين. وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إنها نزلت في المنافقين في الولاء والمحالفة وهذه عبارته في الدرس: الفاء في قوله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين} تشعر بارتباط الآية بما قبلها، وزعم بعضهم أن الفاء للاستئناف وهذا لا معنى له وإنما يخترع الجاهل تعليلات ومعاني لما لا يفهمه (وقد يخترع الروايات كما صرح به في غير موضع) فالآية مرتبطة بما قبلها أشد الارتباط إذ الكلام السابق كان في أحكام القتال حتى ما ورد في الشفاعة الحسنة والسيئة، وقد ختمه بقوله:"الله لا إله إلا هو" الخ أي لا إله غيره يخشى ويخاف أو يرجى فتترك تلك الأحكام لأجله، ثم جاء بهذه الآيات موصولة بما قبلها بالفاء وهي تفيد تفريع الاستفهام الإنكاري فيها على ما قبله، أي إذا كان الله تعالى قد أمركم بالقتال في سبيله وتوعد المبطئين عنه والذين تمنوا تأخير كتابته عليهم، وإذا كان لا إله غيره فيترك أمره وطاعته لأجله فما لكم تترددون في أمر المنافقين وتنقسمون فيهم إلى فئتين؟.
قال: والمنافقون هنا غير من نزلت فيهم آيات البقرة وسورة المنافقين وأمثالهن من الآيات، المراد بالمنافقين هنا فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون، ضلعهم مع أمثالهم من المشركين، ويحتاطون في إظهار الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم قوة، فإذا ظهر لهم ضعفهم انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة. فكان المؤمنون فيهم على قسمين منهم من يرى أن يعدوا من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المحاذين لهم جهرا، ومنهم من يرى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المجاهرين بالعداوة (وعبارته ممن لا ينافق) فأنكر الله عليهم ذلك وقال: {والله أركسهم بما كسبوا} أي كيف تتفرقون في شأنهم والحال أن الله تعالى أركسهم وصرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك والمعاصي حتى أنهم لا ينظرون فيه نظر إنصاف وإنما ينظرون إليكم وما أنتم عليه نظر الأعداء المبطلين ويتربصون بكم الدوائر اه ما نقلناه عن الدرس وليس عندنا عنه هنا شيء آخر.
أقول الركس -بفتح الراء- مصدر ركس الشيء يركسه (بوزن نصر) إذا قلبه على رأسه أو رد آخره على أوله، يقال ركسه وأركسه فارتكس. قال في اللسان بعد معنى ما ذكر: وقال شمر بلغني عن ابن الأعرابي أنه قال المنكوس والمركوس المدبر عن حاله والركس ردّ الشيء مقلوبا اه ويظهر أنه مأخوذ من الركس (بكسر الراء) وهو كما في اللسان شبيه بالرجيع، وأطلق في الحديث على الروث. والحاصل أن الركس والأركس شر ضروب التحول والارتداد وهو أن يرجع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس أو مقلوبا أو متحولا عن حاله إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث، والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال أو إلى الشرك. وقد استعمل هنا في التحول والانقلاب المعنوي أي من إظهار الولاء والتحيز إلى المسلمين إلى إظهار التحيز إلى المشركين، وهو شر التحول والارتداد المعنوي كأن صاحبه قد نكس على رأسه وصار يمشي على وجهه: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم} [الملك:22] ومن كانت هذه حاله في ظهور ضلالته في أقبح مظاهرها فلا ينبغي أن يرجو أحد من المؤمنين نصر الحق من قبله، ولا أن يقع الخلاف بينهم وبين سائر إخوانهم في شأنه.
وقد أسند الله تعالى فعل هذا الإركاس إليه وقرنه بسببه وهو كسب أولئك المركسين للسيئات والدنايا من قبل حتى فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئتهم فأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحق حتى لم يعد يخطر على بالهم ولا يجول في أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه، مقاومة ظاهرة عند القدرة، وخفية عند العجز، هذا هو أثر كسبهم للسيئات في نفوسهم وهو أثر طبيعي، وإنما أسنده الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته في تأثير الأعمال الاختيارية في نفوس العاملين، أو معنى أركسهم أظهر ركسهم بما بينه من أمرهم وهذا هو معنى قوله: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} وهو استفهام إنكاري معناه ليس في استطاعتكم أن تغيروا سنن الله في نفوس الناس، فتنالوا منها ضد ما يقتضيه ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات، بتأثير ما كسبته طول عمرها من الأعمال.
{ومن يضلل الله} أي من تقضي سنته تعالى في خلقه بأن يكون ضالا عن طريق الحق: {فلن تجد له سبيلا} يصل بسلوكها إليه فإن للحق سبيلا واحدة وهي صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وشمالها كل من سلك سبيلا منها بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام:153] ولما تلا النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه الآية وضح معناها بالخطوط الحسية فخط في الأرض خطا جعله مثالا لسبيل الله وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان، ومن المحسوس الذي لا يحتاج إلى ترتيب الأقيسة للاستدلال أن غاية أي خط من تلك الخطوط لا تلتقي بغاية الخط الأول.
قلت إن سبيل الحق هي صراط الفطرة، وبيان هذا أن مقتضى الفطرة أن يستعمل الإنسان عقله في كل ما يعرض له في حياته ويتبع فيه ما يظهر له بعد النظر والبحث أنه الحق الذي باتباعه خيره ومنفعته العاجلة والآجلة وكماله الإنساني، على قدر علمه بالحق والخير والكمال، ومن مقتضى الفطرة أن يبحث الإنسان دائما ويطلب زيادة العلم بهذه الأمور، ولا يصده عن هذا الصراط المستقيم شيء كالتقليد والغرور بما هو عليه وظنه أنه ليس وراءه خير له منه وأنفع وأكمل، أولئك الذين يقطعون على نفسهم طريق العقل والنظر، والتمييز بين الخير والشر، والنفع والضر، والحق والباطل، فيكونون أتباع كل ناعق، ويسلكون ما لا يحصى من السبل وإن ادعى كل منهم الانتساب إلى زعيم واحد، وشبهتهم على ترك صراط الفطرة أن عقولهم قاصرة عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وأنهم اتبعوا من بلغهم من آبائهم ومعاشريهم أنهم كانوا أقدر منهم على معرفة ذلك وبيانه، والحق الواقع أنهم لا يعلمون حقيقة ما كان عليه أولئك الزعماء ولا شيئا يعتد به من علمهم، وإنما يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم من الثقة بزعماء عصرهم ولو كان آباؤهم وزعماؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ومن قطع على نفسه طريق النظر، وكفر نعمة العقل، لا يمكن إقامة الحجة عليه، ولذلك قال تعالى: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} [النساء:88] فإن {سبيلا} نكرة في سياق النفي تفيد العموم كأنه قال من ترك سبيل الله وهي اتباع الفطرة باستعمال العقل كان من سنة الله أن يكون ضالا طول حياته إذ لا تجد له سبيلا أخرى يسلكها فيهتدي بها إلى الحق.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم. فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إننا نجد في النصوص استنكارا لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين؛ وتعجبا من اتخاذهم هذا الموقف؛ وشدة وحسما في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته، وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك، وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك -وفي كل موقف مماثل- التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين؛ لأن فيها تميعا كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين. ذلك أن قول جماعة من المؤمنين: ""سبحان الله! -أو كما قالوا- أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم؟ "".. وتصورهم للأمر على هذا النحو، من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون! مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين:""إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس "".. وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم: ""يظاهرون عدوكم "".. تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان، في ظروف تستدعي الوضوح الكامل، والحسم القاطع. فإن كلمة تقال باللسان؛ مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين، لا تكون إلا نفاقا. ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء. لأنه تمييع للتصور ذاته.. وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين. ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة. فقد كان التصور واضحا.. هؤلاء منافقون.. ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم. هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين. وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين. لأنهم قالوا كلاما كالذي يقوله المسلمون. وأدوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين! من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين، ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم، كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية.. ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين: (والله أركسهم بما كسبوا).."
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم،... وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم،... والاستفهام للتعجيب واللَّوم. والتعريف في {المنافقين} للعهد،... وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين، والمقام للكلام في الإيمان والكفر، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم...
فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المُخطِئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين. وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالِم لا يكون بعيداً عن الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطىء أهلُ العلم في مثله...
{والله أرْكَسَهم بما كسبوا}... أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى،... وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات، والعمل السيّء يأتي بمنتهى المعاصي، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سبباً في بلوغ الغايات من جنسه... {أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله}... إنهم قد أضلّهم الله، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله،... {والله أركسهم} ليس المراد منه أنَّه أضلّهم، بل المراد منه أساءَ حالهم،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيري النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوي المؤمنون في البلاد. ففي أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة وانتصار المؤمنين في بدر، ظهر النفاق فيها خوفا من قوة المؤمنين، وأخذ ينفث سمومه في قوتهم! وكلما عم سلطان الدولة الإسلامية واتسع، ظهر منافقون، فظهر في الأعراب نفاق كما قال تعالى: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97)} (التوبة) وظهر نفاق بين مشركي مكة، فكان ناس إذا أرادوا تجارة، وأرادوا أن يأمنوا غارات المؤمنين في الطريق عليهم، أعلنوا أنهم يصدقون بما جاء به محمد، وناقلوه بين الركب وبين الناس، فكان المؤمنون يختلفون في شأنهم، فمنهم من يراهم مؤمنين لا يقاتلون ولا يغار عليهم، ومنهم من يراهم كفارا منافقين يريدون أن ينجوا بأموالهم فنزل قوله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا} {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا} إذا كان المنافقون على ما ترون، من أنهم ينطقون باللسان خشية القوة، وابتغاء الفتنة ولا يريدون إلا دفع الأذى عن أنفسهم، وإنزاله بكم، فما الذي يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم فئتين أي طائفتين، إحداهما ترجو الخير فيهم، والثانية ترى الشر يستحكم في قلوبهم ويبدو في لحن أقوالهم؟ وأنتم ترون أيها المختلفون ضلالهم، ووقوعهم في الفساد وأنهم لا يبدو من أعمالهم ما يدل على إيمانهم، بل هم يعملون بالكفر، وينطقون بالإسلام...
والإركاس معناه قلب الشيء على رأسه، ورد مقدمه إلى مؤخره. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني:"الركس قلب الشيء على رأسه ورد أوله إلى أخره، يقال أركسته فركس وارتكس في أمره". والمعنى على هذا أن الله سبحانه وتعالى أوقعهم في الضلال فقلب مداركهم، ورد الأول على الآخر في تفكيرهم، بحيث صاروا لا يستطيعون ترتيب المقدمات الفكرية ونتائجها، وذلك بما كسبوا من الإيغال في الشر بعد ابتغائه وطلبه فلما ساروا فيه خطوة امتد بهم السير خطوات حتى أوغلوا فيه، وأصبحوا لا يستطيعون الحكم في القول... وعندي أن المنافقين هنا تشمل من اتصفوا بذلك، وتخص الأعراب ومن على شاكلتهم من الذين كانوا يسلمون في قبائلهم، ويعلنون ذلك من غير أن يهاجروا على المدينة مناصرين للمؤمنين، ولم يكن من أعمالهم ما يدل على انتمائهم للدولة الإسلامية، وإعلان ولايتها عليهم. والحقيقة أن هؤلاء كانوا يتذرعون بكلمة الإسلام، لكيلا يحكم السيف الإسلامي فيهم. ولذلك ذكرت الآية الأمارة القاطعة الدالة على إيمانهم هي أن يهاجروا. {أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} أيها المؤمنون المختلفون أتريدون أن تحملوا على الإيمان من أضله الله، أي من كتب عليه الضلالة، بسبب أنه سار في طريقها، وانحرف عن جادة الحق وسبيل المؤمنين، فإن من يسير في طريق لا بد أن ينتهي إلى نهايته، ما دام لم يرجع ولم يعد. ومن يضلل الله، أي من يكتب عليه في لوحه المحفوظ، وقدره المحتوم، أن يكون ضالا، فلن يجد أحد سبيلا إلى هدايته؛ لأن قَدَر الله تعالى لا يتغير وقضاءه لا يتبدل، وحكمه لا يتخلف فمن حاول هداية المنافقين الذين حكم عليهم بالضلال، فكأنما يحارب قدر الله سبحانه وتعالى. وإن المؤمنين يحاولون هداية المنافقين، أو حكم لهم بالإيمان، بينما المنافقون يودون للمؤمنين عكس ذلك...