{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } أي : أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة ، وإيضاح الحق ، والله لا يستحيي من الحق ، وكأن في هذا ، جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة ، واعترض على الله في ذلك . فليس في ذلك محل اعتراض . بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم . فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر . ولهذا قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها ، ويتفكرون فيها .
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلا علموا أنها حق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ، ونعمة سابغة .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفرا إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ولهذا قال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية . قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [ وضلالة ] وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة [ ورحمة ] وزيادة خير إلى خيرهم ، فسبحان من فاوت بين عباده ، وانفرد بالهداية والإضلال .
ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى{[78]} فقال : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعة الله ، المعاندين لرسل الله ، الذين صار الفسق وصفهم ، فلا يبغون به بدلا ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى ، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة .
والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين ، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان ، كالمذكور في هذه الآية ونحوها ، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الآية ] .
وبعد هذا البيان الجامع عن أحوال المهتدين بهديه أو الناكبين عن صراطه ، وما تخلل ذلك من المواعظ النافعة ، والتمثيلات الرائعة ، والبشارات الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً ، بعد كل ذلك بين - سبحانه - أنه لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير ، فقال - تعالى- : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . } .
روى الواحدى في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله - تعالى - لما أنزل قوله - تعالى - { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وقوله - تعالى - : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } لما نزل قال المشركون : أرأيتم أي شيء يصنع بهذا ؟ ! فأنزل الله { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . } .
وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا : ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله ! فأنزل الله هذه الآية { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى } . إلخ .
وقال السدى : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . } وقوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله هذه الآية . ويبدوا أن الآية الكريمة قد نزلت للرد على جميع تلك الفرق الضالة ، فقد قرر العلماء أن لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .
والاستحياء والحياد واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب . وهو في أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم . وهذا المعنى غير لائق بجلال الله ، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمة ، وهو ترك ضرب الأمثال بها . والمعنى : إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل ، مألوف فى الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً . ومذهب السلف : إمرار هذا وأمثاله على ما ورد ، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله - تعالى - مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات .
أي : ليس الحياء بمانع لله - تعالى - من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة في نظركم ؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فإن فيها من دلائل القدرة ، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ، ويشهد بحكمة الخالق .
والمثل فى اللغة : الشبيه . وهو فى عرف القرآن : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع ، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله في حال المنافقين ؛ أو وصف غريب نحو قوله تعالى : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيرادة بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع .
و ( ما ) فى قوله { مَثَلاً مَّا } هي ما الإِبهامية ، تجيء بعد النكرة فتزيدها شيوعاً وعموماً ، كقولك : أعطني كتاباً ما ، أي كتاب كان .
والبعوضة واحدة البعوض وهى حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهى بدل أو بيان من قوله { مَثَلاً } .
وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } عطف على بعوضة ، والمراد فما فوقها فى الحجم كالذباب والعنكبوت ، والكلب والحمار ، أو فما فوقها في المعنى الذي وقع التمثيل فيه ، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة . قال صاحب الكشاف : سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه ملا فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . . وأن لله - تعالى - أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه فى صغره إلا هو وحده . . وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } فيه معنيان :
أحدهما : فما تجاوزهما وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس وأنذلهم ، هو فوق ذلك ، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة .
والثاني : فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال :
{ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } . أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد ، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها ، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر ، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت : زيد ذاهب ، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت : أما زيد فذاهب .
والضمير فى قوله { أَنَّهُ } يعود على المثل ، أو على ضربه المفهوم من قوله : { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } . والحق : خلاف الباطن ، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره .
ووجه كون المثل أو ضربه حقاً ، أنه يوضح المبهم ، ويفصل المجمل ، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها . ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين ، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك ، فهم مؤمن أو كافر . والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم ، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكلهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك .
وعبر فى جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة ، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز . وقال : { أَنَّهُ الحق } معرفاً بأل ، ولم يقل : أنه حق للمبالغة في حقية المثل . ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل ، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال .
وقوله : { مِن رَّبِّهِمْ } حال من الحق ، ومن ابتدائية ، أي : إنه هذا الكلام وارد من الله ، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب ، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذي لا يقع منه الخطأ .
ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذه الأمثال عندما تتلى عليهم فقال :
{ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .
كلمة { مَاذَآ } مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإِشارة ، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركباً من كلمتين ، وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة ، حتى تصير الإِشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو : ماذا التواني ؟ أو حيث لا يكون للإِشارة موقع كقوله تعالى : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر } وقد يتوسعون فيها توسعاً أٌوى فيجعلون ذا اسم موصول ، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله ، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } ونحو { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أي : ما الذي أراده الله بهذا المثل .
والإِرادة فى أصل اللغة : نزوع النفس إلى الفعل ، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات ، فيترجح بها أحد وجهي المقدور ، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع .
وقوله : { مَثَلاً } واقع في موقع التمييز لاسم الإِشارة " هذا " كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول . ماذا أردت بهذا جواباً ؟
والاستفهام الذي حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين ، المقصود به الإِنكار والتحقير لهذه الأمثال ، ولأن يكون الله - تعالى - قد ضربها للناس . والمعنى : فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف ، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين ، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم ، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار . ثم ساق - سبحانه - جملتين بين فيهما الحكمة من ضرب الأمثال فقال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } . فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقاً ، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم ، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً في ظلمات جهلهم .
ووصف كلا من فريقي المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهتديين وصفوا بالقلة كثيرا كما في قوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } وذلك لأن أهل الهدى كثيرون في أنفسهم ، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من أهل الهدى كثير في الحقيقة ، وإن قلوا في الصورة ، فوصفوا بالكثرة ذهاباً إلى هذه الحقيقة .
وقدم الإِضلال على الهداية ، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفت في أعضادهم .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } .
الفاسقون : جمع فاسق ، من الفسق ، وهو في أصل اللغة : الخروج . يقال : فسقت الرطبة من قشرها . أي : خرجت منه ، وشرعاً ، الخروج عن طاعة الله ، فيشمل الخروج من حدود الإِيمان ، وهو الكفر ، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر ، ولكنه اختص فى العرف بارتكاب الكبيرة ، ولم يسمع الفسق فى كلام الجاهلية ، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإِسلامية .
وقصر الإِضلال بالمثل على الفاسقين ، إيذان بأن الفسق هو الذي أعدهم لأن يضلوا به ، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا .
{ إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } .
قد يبدو في بادىء النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلاً بشيء حقير أو غير حقير ، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال ، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين .
روى الواحدي في « أسباب النزول » عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } [ الحج : 73 ] وقوله : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله : { إن الله لا يستحي } الآية .
والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة بعد أن هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فيتلقون منهم صوراً من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد ناراً وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاق خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين .
فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة ، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلاً . وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة ، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود ، ولأنه الأوفق بقوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله } وهذه صفة اليهود ، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم{ رَاعنا } [ البقرة : 104 ] ، قال تعالى : { فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم } [ البقرة : 59 ] كما ورد تفسيره في « الصحيح » ولم يكن ذلك من شأن العرب .
وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثلِه في كلام بلغائهم كقولهم أَجرأُ من ذُبابة ، وأسْمَع من قُرادٍ ، وأطْيَشُ من فَراشة ، وأضعف من بَعُوضَة . وهذا الاحتمال أدَلُّ ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غُلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف ، والمكابرُ يقول ما لا يعتقد ، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح ، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب « الكشاف » وهو أوفق بالسياق .
والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يُلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين . وقد دل على هذا المعنى قوله بعده : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا } إلى قوله : { ويهدي به كثيراً } .
فإن قيل : لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زماناً .
قلنا : الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيآت ، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل ، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبناً فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا ، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه . فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] الآيات وقوله : { صم بكم عمي } [ البقرة : 18 ] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون .
والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقاً لا خصوص المركب من هيئة ، بخلاف قوله فيما سبق { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } لأن المعنىَّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله : { لن يخلقوا ذباباً } [ الحج : 73 ] وقوله : { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] .
وأما الإتيان بالمسند إليه علماً دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضاً إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل .
ولهذا أيضاً اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه ، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها ، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت .
فإن قلت : إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالُنا نرى كثيراً من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق :
من عِزّهم حجرَتْ كليبٌ بيتها *** زَرباً كأنهمُ لديهِ القُمَّل
أماتكمُ من قبل موتِكم الجهلُ *** وجركمُ من خفة بكمُ النمل
ولو أن بُرغوثاً على ظهر قملة *** يكرُّ على ضَبْعَيْ تميم لولَّت
قلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام ، ومن جانب صور المعاني ، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب ، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولاً عند قوم غير مقبول عند آخرين ، ومقبولاً في عصر مرفوضاً في غيره ، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان :
فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي *** وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عنك واسع
فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعُدَّ من الجفاء أو العجرفة ، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع :
عَذير الحي من عَدوَا *** نَ كانُوا حَيَّةَ الأرض
وقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني :
ماذا رُزِئْنا به من حيَّةٍ ذَكَرٍ *** نَضْنَاضَةٍ بالرزايا صِلّ أَصلاَلِ
وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليًّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله :
أنت كالكلب في وفائك بالعه *** د وكالتيْس في قراع الخطوب
وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله :
عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أَدري ولا أدري{[101]}
وقد انتقد بشارٌ على كُثيِّر قوله :
ألا إنما ليلى عصا خيزُرانة *** إذا لمسوها بالأكُف تلينُ
فقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا ، على أن بشاراً هو القائل :
إذا قامت لجارتها تثنت *** كأن عظامها من خيزران
وشبَّه بشار عبدة بالحيَّة في قوله :
وكأنها لما مشت *** أَيْمٌ تأود في كثيبْ
والاستحياء والحياء واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب ، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله ، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل .
والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفاً لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله ، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم .
والضرب في قوله : { أن يضرب مثلاً } مستعمل مجازاً في الوضع والجعل من قولهم ضربَ خيمة وضرب بيتاً قال عبدة بن الطبيب :
إنَّ التي ضربتْ بيتاً مُهاجِرَةً *** بكوفةِ الجُندِ غالت ودَّها غُولُ
ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتابُ المُنْزَلُ
أي جعل شيئاً مثلاً أي شبهاً ، قال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] أي لا تجعلوا له مماثلاً من خلقه فانتصاب { مثلاً } على المفعول به . وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقاً من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب { مثلاً } على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلاً مرادف مصدر فعله على هذا التقدير ، والمعنى لا يستحي أن يشبِّه بشيء ما .
والمثل المثيل والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر وتنكير { مثلاً } للتنويع بقرينة بيانه بقوله { بعوضة فما فوقها } .
وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير ، نحو لأمر ما وأعطاه شيئاً ما . والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد . وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة .
و { بعوضة } بدل أو بيان من قوله : { مثلاً } . والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها ، وتعرف في لغة هذيل بالخموش ، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلاً لشدة الضعف والحقارة .
وقوله : { فما فوقها } عطف على { بعوضة } ، وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازماً للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً ويستعمل مجازاً في المتجاوز غيره في صفة تجاوزاً ظاهراً تشبيهاً بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه ، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال : فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع ، وتقول : أعطى فلان فوق حقه أي زائداً على حقه . وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجماً . ونظيره قول النبيء صلى الله عليه وسلم « ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » رواه مسلم ، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نَخْبة النملة كما جاءَ في حديث آخر ، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلاً موقع من بليغ الإيجاز .
والفاء عاطفة { ما فوقها } على { بعوضة } أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما ، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل { أن يضرب } ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائداً عليها درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص ، فاستعملت في مطلق الاتصال ، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه : « رحم الله المحلقين فالمقصرين » .
والمعنى أن يضرب البعوضة مثلاً فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار .
{ فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .
الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله : { لا يستحي } لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم ، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به ، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم . وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال .
و { أما } حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر . ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيت وكيت ، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط ، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاماً بعد كلامه الأول . وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء ، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة ، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيداً وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام ، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله : { فأما الذين آمنوا فيعلمون } الخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء .
وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر ، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك .
والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالباً ، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية .
وإنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز ، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان ، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسداً وعناداً .
وضمير { أنه } عائد إلى المثل .
و { الحق } ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته . و { من ربهم } حال من { الحق } و { من } ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ .
وأصل { ماذا } كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسمِ الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيراً إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا . غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركباً من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد ، نحو ماذا التواني ، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله } [ النساء : 39 ] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب . وقد يتوسعون فيها توسعاً أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسؤول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يُجرون عليه جملة أو نحوَها هي صلة ويجعلون ذا موصولاً نحو : { ماذا أنزل ربكم } [ النحل : 24 ] وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولاً مقدماً إذا وقع بعده فِعل . والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية ، ومثله لا يجاب بشيء غالباً لأنه غير مقصود به الاستعلام . وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى : { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] .
والإشارة بقوله : { بهذا } مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله : { أَهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] .
وانتصب قوله : { مثلاً } على التمييز من { هذا } لأنه مبهم فحقَّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم « رُبَّهُ رَجُلاً » .
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين }
بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأَما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالاً فإنَّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هُدى ، وقولَ الكافرين { ماذا أراد الله } الخ ضلال ، والأظهر أن لا يكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً للاستفهام في قول الذين كفروا { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } لأن ذلك ليس استفهاماً حقيقياً كما تقدم .
ويجوز أن يجعل جواباً عن استفهامهم تخريجاً للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً لهم وردا عليهم وبياناً لحال المؤمنين ، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفاً من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي . وكونُ كلا الفريقين من المضلَّل والمهدى كثيراً في نفسه ، لا ينافي نحو قوله : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة ، أخصُّ في الاهتداء .
والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفِسق بكسر الفاء ، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة :
صِغار النوى مكنوزة ليس قِشْرُها *** إذا طار قِشْر التمر عنها بطائر
قالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر ، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين ، قال رؤبة يصف إبلاً :
فواسَقاً عن قَصْدهَا جوائراً *** يَهوين في نجد وغورٍ غائراً
والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر . وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غيرُ الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق ، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين .
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعى فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده . وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجِبلة فيهم فهم مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] . فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خَلق أسبابه القريبة والبعيدةِ وإلا فإنَّ الله أمَر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام .
وقوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيراً في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب ، حتى يصير لها دربة .
وهذا الذي يؤذن به التعليق على الوصف المشتق إن كان المراد به هنا المعنى الاشتقاقي ، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني ، وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل ، وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة فلا يصدر إلا من اليهود وقد عرفوا بهذا الوصف .
والقول في مذاهب علماء الإسلام في الفسق وتأثيره في الإيمان ليس هذا مقام بيانه إذ ليس هو المقصود من الآية .
فإن كان محمل الفاسقين على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في قوله : { وما يضل به } الخ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل والمهتدى ، وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقياً ادعائياً أي يضل به كثيراً وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالاً هم الفاسقون ، ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم ، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال سواه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا} وذلك أن الله عز وجل ذكر العنكبوت والذباب في القرآن، فضحكت اليهود، وقالت: ما يشبه هذا من الأمثال! فقال سبحانه:
{إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا}، يعني أن الله عز وجل لا يمنعه الحياء أن يصف للخلق مثلا.
{ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا}، يعني يصدقون بالقرآن، {فيعلمون أنه}، أي هذا المثل هو {الحق من ربهم وأما الذين كفروا} بالقرآن، يعني اليهود، {فيقولون ماذا أراد الله بهذا} الذي ذكر {مثلا}، إنما يقوله محمد من تلقاء نفسه وليس من الله، فأنزل الله عز وجل: {يضل به}، أي يضل الله بهذا المثل {كثيرا} من الناس، يعني اليهود، {ويهدي به}، أي بهذا المثل {كثيرا} من الناس، يعني المؤمنين، {وما يضل به}، أي بهذا المثل {إلا الفاسقين} يعني اليهود.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها... فقال بعضهم:
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا "وقوله: "أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّماءِ "الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله:"إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً" إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ"...
عن الربيع بن أنس، في قوله تعالى: "إنّ اللّهَ لا يَسْتَحِيِي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا" قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلئوا من الدنيا رِيّا أخذهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا "فلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ" الآية... فذلك قوله: "حَتّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ"...
عن قتادة قوله: "إن اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا" أي إن الله لا يستحيي من الحقّ أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر. إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت، قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: "إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا"... [و] عن قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: "إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها"...
غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس. وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ضربها للمنافقين دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول، أعني قوله: "إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما" جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضُرب لهم من الأمثال في هذه السورة أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور لأن الأمثال التي ضربها الله لهم و لآلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى، لما أخبر عنه أنه لا يستحي أن يضربه مثلاً، إذْ كان بعضها تمثيلاً لآلهتهم بالعنكبوت وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب، وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوز أن يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن قول الله جل ثناؤه: "إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا" إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرها وكبيرها ابتلاءً بذلك عباده واختبارا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به، إضلالاً منه به لقوم وهداية منه به لآخرين...
عن مجاهد في قوله: "مَثَلاً مَا بَعُوضَةً" يعني الأمثال صغيرها وكبيرها، يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم، ويهديهم الله بها، ويضلّ بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به...
قال أبو جعفر: لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق،خصها الله بالذكر في القلة، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحقّ وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيّب من السماء على ما نَعَتهما به من نَعْتهما...
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت الذي هذا الخبر جوابه، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك بينها جلّ ذكره في قوله: "فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً" وأن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الآيتين المقدمتين، اللتين مثّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بمُوقِدِ النار وبالصيب من السماء على ما وصف من ذلك قبل قوله: "إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً" قد أنكروا المثل وقالوا: "ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً"، فأوضح خطأ قيلهم ذلك، وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه، وأنه ضلال وفسوق، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله: "إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي..." فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى: "إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي...": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً، ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى: "وَتَخْشَى الناسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ" ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقّ أن تستحيه. فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء
وأما معنى قوله: "أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً" فهو أن يبين ويصف، كما قال جل ثناؤه: "ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ" بمعنى وصف لكم...
فمعنى قوله إذا: "إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً": إن الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به، وأما «ما» التي مع «مثل» فإنها بمعنى «الذي»، لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها مثلاً...
وأما تأويل قوله: "فَمَا فَوْقَهَا": فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة...
"فَأما الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأما الّذِينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً" قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: "فأمّا الّذِينَ آمَنُوا": فأما الذين صدقوا الله ورسوله.
وقوله: "فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ": فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل...
أن هذا المثل الحق من ربهم، [و] أنه كلام الله ومن عنده...أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه الحقّ من الله.
"وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذا مَثَلاً":
"وأما الّذِينَ كَفَرُوا" يعني الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علموا أنه حقّ. وذلك صفة المنافقين، وإياهم عنى الله جل وعزّ ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية، فيقولون: "ماذا أراد الله بهذا مثلاً"...
[و] عن مجاهد: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَق مِنْ رَبّهِمْ الآية، قال: يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم، ويهديهم الله بها ويضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به...
وتأويل قوله: "ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً": ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلاً، ف«ذا» الذي مع «ما» في معنى «الذي» وأراد صلته، وهذا إشارة إلى المثل.
"يُضِلّ بِهِ كَثِيرا":يضلّ الله به كثيرا من خلقه، والهاء في «به» من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ، ومعنى الكلام: أن الله يضلّ بالمثل الذي يضرّبه كثيرا من أهل النفاق والكفر...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "يُضِلّ بِهِ كَثِيرا" يعني المنافقين. "وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا" يعني المؤمنين. فيزيد هؤلاء ضلالاً إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به. ويهدي به يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به...
"وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ": هم المنافقون...
وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، يقال منه: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرها، ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة، لخروجها عن جحرها. فكذلك المنافق والكافر سُميا فاسقين لخروجهما عن طاعة ربهما، ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: "إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ" يعني به: خرج عن طاعته واتباع أمره...
[و] عن ابن عباس في قوله: "بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" أي بما بعدوا عن أمري.
فمعنى قوله: "وَمَا يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفاسِقِينَ": وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق إلا الخارجين عن طاعته والتاركين اتباع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفاق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}: إنما هو خبر منه تعالى أنه لا يستحيي تعالى أن يضرب مثلا في الحق من الأمثال: صغيرها وكبيرها لأن صغير الأشياء عنده وكبيرها بمنزلة واحدة من حيث لا يتسهل الصغير ولا يصعب الكبير، وإن في الصغير من الإحكام والإتقان ما في الكبير، فلما تساوى الكل في قدرته، جاز أن يضرب المثل بما شاء من ذلك، فيقر بذلك المؤمنون ويسلمون وإن ضل به الفاسقون بسوء اختيارهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذا الكتاب لقومٍ شفاءٌ ورحمة، ولآخرين شقاء وفتنة. فمن تعرَّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] تذكَّروا عند ورود الواسطة -صلوات الله عليه وعلى آله- قديم عهده، وسابقَ وُدِّه، فازدادوا بصيرة على بصيرة. ومَنْ رَسَمَهُ بِذُلِّ القطيعة، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة، ما ازدادوا عند حصول الدعوة النبوية إلا جُحداً على جُحد، وما خفي عليهم اليوم صادق الدلالة، إلا لِمَا تقدم لهم سابقُ الضلالة. لذلك قال الله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
سيقت هذه الآية لبيان أنَّ ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقّرات من الأشياء مضروباً بها المثل، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب، من قبل أنّ التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهّم من المشاهد. فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك. فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً إلاَّ أمراً تستدعيه حال المتمثل له وتستجرّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية.
ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً جلياً أبلج، كيف تمثل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى لا حال أحقر منها وأقلّ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن، وجعلت أقلّ من الذباب وأخس قدراً، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع، ولم يقل للمتمثل: استحى من تمثيلها بالبعوضة، لأنه مصيب في تمثيله، محق في قوله. سائق للمثل على قضية مضربه، محتذ على مثال ما يحتكمه ويستدعيه، ولبيان أنّ المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والعمل على العدل والتسوية والنظر في الأمور بناظر العقل، إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمرّ الشبهة بساحته، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله. وأن الكفّار الذين غلبهم الجهل على عقولهم، وغصبهم على بصائرهم فلا يتفطنون ولا يلقون أذهانهم، أو عرفوا أنه الحق إلا أنّ حبّ الرّياسة وهوى الألف والعادة لا يخليهم أن ينصفوا، فإذا سمعوه عاندوا وكابروا وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار، وأن ذلك سبب زيادة هدى المؤمنين وانهماك الفاسقين في غيّهم وضلالهم. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام.
وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثّلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا: أجمع من ذرّة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد. وأصرد من جرادة، وأضغف من فراشة. وآكل من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعف من بعوضة، وأعز من مخ البعوض وكلفتني مخ البعوض.
ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة، كالزوان والنخالة وحبة الخردل، والحصاة، والأرضة، والدود، والزنابير.
والتمثيل بهذه الأشياء وبأحقر منها مما لا تغني استقامته وصحته على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معوّلاً...
فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه [بما لا يجوز في حقه من] التغير والخوف والذم، وذلك في حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً" قلت: هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. وكذلك معنى قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ} أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال. وهو فنّ من كلامهم بديع، وطراز عجيب...
فإن قلت: كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ قلت: ليس كذلك، فإن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها، ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحادّ إلا تحركها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحتَ لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر {سبحان الذى خَلَق الازواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ}...
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب: لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به قوم، تسبب لضلالهم وهداهم...
أحدهما: أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب، فإن القوم أنكروا تمثيل الله تعالى بكل هذه الأشياء.
والثاني: أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها، والمحققون مالوا إلى هذا القول لوجوه:
أحدها: أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولا.
وثانيها: أن الغرض ههنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانيا أشد حقارة من الأول. يقال إن فلانا يتحمل الذل في اكتساب الدينار، وفي اكتساب ما فوقه، يعني في القلة لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار.
وثالثها: أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت بعجزهم عن المعارضة أن هذا الكلام كلامه سبحانه، ثبت أن ما فيه من الأمثال أقواله فهددهم في هذه السورة المدنية على العناد، وتلاه بالآية التي أخبر فيها بأن ثمار الدنيا وأزواجها وإن شابهت ما في الجنة بالاسم وبعض الشكل، فقد باينته بالطعوم والطهارة وما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، فاضمحلت نسبتها إليها، وكان في ختم الآية ب"خالدون" إشارة إلى أن الأمثال التي هي أحسن كلام الناس وإن شابهت أمثاله سبحانه في الاسم ودوام الذكر، فلا نسبة لها إليها لجهات لا تخفى على المنصف، فلم يبق إلا طعنهم بأنها لكونها بالأشياء الحقيرة، لا تليق بكبريائه، فبين حسنها ووجوب الاعتداد بها وإنعام النظر فيها بالإشارة بعدم الاستحياء من ضربها لكونها حقاً، إلى أن الأشياء كلها وإن عظمت حقيرة بالنسبة إلى جلاله وعظمته وكماله، فلو ترك التمثيل بها لذلك لانسد ذلك الباب الذي هو من أعجب العجاب فقال تعالى على طريق الاستنتاج من المقدمات المسلَّمات وأكد سبحانه دفعاً لظن أنه يترك لما لبّسوا به الأمثال التي هي أكشف شيء للأشكال وأجلى في جميع الأحوال. وقال الحرالي:: لما كانت الدعوة تحوج مع المتوقف فيها والآبي لها إلى تقريب للفهم بضرب الأمثال، وكانت هذه الدعوة جامعة الدعوات، وصل بها هذه الآية الجامعة لإقامة الحجة في ضرب الأمثال وأن ذلك من الحق سبحانه.
{والله لا يستحيي من الحق} [الأحزاب: 53]... بين تعالى أن مقدار الحكمة الشاهد للممثل في البعوضة وفيما هو أظهر للحس وآخذ في العلم. وإنما يجب الالتفات للقدر لا للمقدار ولوقع المثل على ممثله قل أو جل دنا أو علا، فتنزه تعالى عما يجده الخلق عندما ينشأ من بواطنهم وهمهم أن يظهروا أمراً فيتوهمون فيه نقصاً، فيرجعهم ذلك عن إظهاره قولاً أو فعلاً -انتهى.
فقال تعالى: {إن الله} أي المحيط بكل شيء جلالاً وعظمة وكمالا {لا يستحيي} أي لا يفعل ما يفعله المستحي من ترك ما يستحي منه.
والحياء قال الحرالي:: انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن لمواجهة ما تراه نقصاً حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن. {أن يضرب} من ضرب المثل وهو 341 وقع المثل على الممثل، لأن أصل الضرب وقع شيء على شيء، والمعنى أن يوجد الضرب متجدداً مستمراً... {مثلاً ما} مثل أمر ظاهر للحس ونحوه، يعتبر به أمر خفي يطابقه فينفهم معناه باعتباره و "ما" في نحو هذا الموقع لمعنى الاستغراق، فهي هنا لشمول الأدنى والأعلى من الأمثال- انتهى.
وقال الحرالي:: والبعوض جنس معروف من أدنى الحيوان الطائر مقداراً وفيه استقلال وتمام خلقة... {فما فوقها} أي من معنى يكون أظهر منها، والفاء تدل على ارتباط ما إما تعقيب واتصال أو تسبيب، ففيه هنا إعلام بأقرب ما يليه على الاتصال والتدريج إلى أنهى ما يكون -انتهى. والمعنى أن ذلك إن اعتبر بالنسبة إليه سبحانه كان هو وأنتم وغيركم بمنزلة واحدة في الحقارة، وإن اعتبر بالنسبة إليكم كان الفريقان بمنزلة واحدة في أنه خلق حقير ضعيف صغير من تراب، وأما شرف بعضه على بعض فإنما كان بتشريف الله له ولو شاء لعكس الحال.
ثم ذكر شأن قسمي المؤمنين والكافرين بقسمي كل منهم في قبول أمثاله فقال مؤكداً بالتقسيم لأن حال كل من القسمين حال المنكر لما وقع للآخر: {فأما}، قال الحرالي:: كأنها مركبة من "إن" دالة على باطن ذات و "ما" دالة على ظاهر مبهم، يؤتى به للتقسيم- انتهى. {الذين آمنوا} أي بما ذكرنا أول السورة، ولما تضمن "أما" معنى الشرط كما فسره سيبويه بمهما يكن من شيء، أجيب بالفاء في قوله: {فيعلمون أنه} أي ضرب المثل {الحق} كائناً {من ربهم} أي المحسن إليهم بجميع أنواع الإحسان، وأنه ما أراد بهم إلا تربيتهم بالإحسان بضربه على عوائد فضله، وأما أمثال غيره، فإن لم يكن فيها نوع من الباطل فلا بد فيها من ضرب من التسمُّح تكون به غير جديرة باسم الحق ولا عريقة فيه.
قال الحرالي:: لما كان الذين آمنوا ممن بادر فأجاب، وكان ضرب المثل تأكيد دعوة وموعظة لمن حصل منه توقف، حصل للذين آمنوا استبصار بنور الإيمان في ضرب المثل، فصاروا عالمين بموقع الحق فيه، وكما استبصر فيه الذين آمنوا، استغلق معناه على الذين كفروا وجهلوه فاستفهموا عنه استفهام إنكار لموقعه -انتهى. فلذا قال {وأما الذين كفروا} أي المجاهرون منهم والمساترون {فيقولون} أي قولاً مستمراً {ماذا} أي الذي {أراد الله} الذي هو أجل جليل {بهذا} الحقير أي بضربه له {مثلاً} أي على جهة المثلية استهزاء وجهلاً وعناداً وجفاءً؛ ثم وصل بذلك ذكر ثمرته عند الفريقين جواباً لسؤال من سأل منهم فقال: {يضل به كثيراً} أي منهم بأن لا يفهمهم المراد منه فيظنون بذلك الظنون. وقال الحرالي:: وكان إضلالاً لهم، لأن في ضرب المثل بما يسبق لهم استزراؤه بنحو الذباب والعنكبوت الذي استزروا ضرب المثل به، تطريق لهم إلى الجهالة، فكان ذلك إضلالاً، وقدم الجواب بالإضلال لأنه مستحق المستفهم، والإضلال التطريق للخروج عن الطريق الجادة المنجية- انتهى.
{ويهدي به كثيراً} أي ببركة اعتقادهم الخير وتسليمهم له الأمر، يهديهم ربهم بإيمانهم فيفهمهم المراد منه ويشرح صدورهم لما فيه من المعارف، فيزيدهم به إيماناً وطمأنينة وإيقاناً، والمهديون كثير في الواقع قليل بالنسبة إلى الضالين. ولما كان المقام للترهيب كما مضى في قوله: {فاتقوا النار} اكتفى في المهتدين بما سبق من بشارتهم وقال في ذم القسم الآخر وتحذيره: {وما يضل به إلا}، قال الحرالي:: كأنها مركبة من "إن" و "لا" مدلولها نفي حقيقة ذات عن حكم ما قبلها -انتهى. {الفاسقين} أي الخارجين عن العدل والخير. وقال الحرالي:: الذين خرجوا عن إحاطة الاستبصار وجهات تلقي الفطرة والعهد الموثق وحسن الرعاية، لأن الفسق خروج عن محيط كالكمام للثمرة، والجحر للفأرة- انتهى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يقول تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} أي: أيَّ مثل كان {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق، والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا، جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ولهذا قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فيتفهمونها، ويتفكرون فيها.
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.
ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} أي: الخارجين عن طاعة الله، المعاندين لرسل الله، الذين صار الفسق وصفهم، فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.
والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان، كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الآية].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين -وربما كان اليهود والمشركون- قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه!.. وكان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة، كما كان يقوم بها المشركون في مكة.
فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال، وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا.
(إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما، بعوضة فما فوقها)..
فالله رب الصغير والكبير، وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل. إنها معجزة الحياة. معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله.. على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير. وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره. والله -جلت حكمته- يريد بها اختبار القلوب، وامتحان النفوس:
(فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم)..
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله؛ وبما يعرفون من حكمته. وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم، وحساسية في أرواحهم، وتفتحا في مداركهم، واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله.
(وأما الذين كفروا فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟)..
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره. ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارا، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب. يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله!
هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير:
(يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا الفاسقين)..
والله -سبحانه- يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها، ويتلقاها عباده، كل وفق طبيعته واستعداده، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه. والابتلاء واحد.. ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق.. الشدة تسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية. وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا، وتخرجه من الصف إخراجا. والرخاء يسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا. وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء.. وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس.. (يضل به كثيرا).. ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، (ويهدي به كثيرا) ممن يدركون حكمة الله. (وما يضل به إلا الفاسقين).. الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
روى الواحدي في « أسباب النزول» عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} [الحج: 73] وقوله: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} [العنكبوت: 41] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله: {إن الله لا يستحي} الآية.
والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة بعد أن هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيتلقون منهم صوراً من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد ناراً وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاق خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين.
فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلاً. وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود، ولأنه الأوفق بقوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله} وهذه صفة اليهود، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم {رَاعنا} [البقرة: 104]، قال تعالى: {فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم} [البقرة: 59] كما ورد تفسيره في « الصحيح» ولم يكن ذلك من شأن العرب.
وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثلِه في كلام بلغائهم كقولهم أَجرأُ من ذُبابة، وأسْمَع من قُرادٍ، وأطْيَشُ من فَراشة، وأضعف من بَعُوضَة. وهذا الاحتمال أدَلُّ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غُلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف، والمكابرُ يقول ما لا يعتقد، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب « الكشاف» وهو أوفق بالسياق. والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يُلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين. وقد دل على هذا المعنى قوله بعده:
{فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا} إلى قوله: {ويهدي به كثيراً}...
والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر. وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غيرُ الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا...
بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن الجنة.. وأعطانا مثلا يقرب لنا صور النعيم الهائلة التي سينعم بها الإنسان في الجنة.. أراد أن يوضح لنا المنهج الإيماني الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن.. ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف كافرا بعبادته.. ولكن الإنسان الذي ارتضى دخول الإيمان بالله جل جلاله قد دخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى.. ومادام قد دخل العقد الإيماني فأنه يتلقى عن الله منهجه في افعل ولا تفعل.. وهذا المنهج عليه أن يطبقه دون أن يتساءل عن الحكمة في كل شيء.. ذلك أن الإيمان هو إيمان بالغيب.. فإذا كان الشيء نفسه غائبا عنا فكيف نريد أن نعرف حكمته..
إن حكمة أي تكليف إيماني هي: أنه صادر من الله سبحانه وتعالى، ومادام صادرا من الله فهو لم يصدر من مساوٍ لك كي تناقشه، ولكنه صادر من إله وجبت عليك له الطاعة لأنه إله وأنت له عابد.. فيكفي أن الله سبحانه وتعالى قال افعل حتى نفعل.. ويكفي أنه قال لا تفعل حتى لا نفعل..
الحكمة غائبة عنك.. ولكن صدور الأمر من الله هو الحكمة، وهو الموجب للطاعة.. فأنا أصلي لأن الله فرض الصلاة، ولا أصلي كنوع من الرياضة.. وأنا أتوضأ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالوضوء قبل الصلاة.. ولكنني لا أتوضأ كنوع من النظافة.. وأنا أصوم لأن الله أمرني بالصوم.. ولا أصوم حتى أشعر بجوع الفقير.. لأنه لو كانت الصلاة رياضة لاستبدلناها بالرياضة في الملاعب.. ولو أن الوضوء كان نظافة لقمنا بالاستحمام قبل كل صلاة.. ولو أن الصوم كان لنشعر بالجوع ما وجب على الفقير أن يصوم لأنه يعرف معنى الجوع..
إذن فكل تكاليف من الله نفعلها لأن الله شرعها ولا نفعلها لأي شيء آخر.. وكل ما يأتينا من الله من قرآن نستقبله على أنه كلام الله ولا نستقبله بأي صيغة أخرى.. ذلك هو الإيمان الذي يريد الله منا أن نتمسك به، وأن يكون هو سلوك حياتنا.
تلك مقدمة كان لابد منها إذا أردنا أن نعرف معنى الآية الكريمة:"إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" وعندما ضرب الله مثلا بالبعوضة.. استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي.. قالوا كيف يضرب الله مثلا بالبعوضة ذلك المخلوق الضعيف.. الذي يكفي أن تضربه بأي شيء أو بكفك فيموت؟. لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلا بالفيل الذي هو ضخم الجثة شديدة القوة.. أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان وضرب لنا مثلا بالبعوضة فقالوا: {ماذا أراد الله بهذا مثلا}.. ولم يفطنوا إلى أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة.. لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها...
{يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين}.. ومن هم الفاسقون؟.. هم الذين ينقضون عهد الله.. أول شيء في الفسق أن ينقض الفاسق عهده.. ويقال فسقت الرطبة أي بعدت القشرة عن الثمر.. فعندما تكون الثمرة أو البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالثمرة بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها.. فإذا أصبحت الثمرة أو البلحة رطبا تسود قشرتها وتبتعد عن الثمرة بحيث تستطيع أن تنزعها عنها بسهولة.. هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله.. ينسلخ عنه بسهولة ويسر، لأنه غير ملتصق به.. وعندما تبتعد عن منهج الله فإنك لا ترتبط بأوامره ونواهيه.. فلا تؤدي الصلاة مثلا، وتفعل ما نهى الله عنه لأنك فسقت عن دينه.. والذي أوجد الفسق هو أن الإنسان خلق مختارا.. قادرا على أن يفعل أو لا يفعل.. وبهذا الاختيار أفسد الإنسان نظام الكون.. فكل شيء ليس للإنسان اختيار فيه تراه يؤدي مهمته بدقة عالية كالشمس والقمر والنجوم والأرض.. كلها تتبع نظاما دقيقا لا يختل لأنها مقهورة.. ولو أن الإنسان لم يخلق مختارا.. لكان من المستحيل أن يفسق.. وأن يبتعد عن منهج الله ويفسد في الأرض.. ولكن هذا الاختيار هو أساس الفساد كله.