{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا }
هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ، حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة ، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وعلى أن يعتمر من العام المقبل ، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل .
وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا ، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل ، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار ، يتمكن من ذلك ، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام ، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا ، فلذلك سماه الله فتحا ، ووصفه بأنه فتح مبين أي : ظاهر جلي ، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله ، وانتصار المسلمين ، وهذا حصل بذلك{[789]} الفتح ، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور ، فقال :
1- سورة الفتح من السور المدنية ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ، وكان نزولها في أعقاب صلح الحديبية .
قال ابن كثير –رحمه الله- : نزلت سورة " الفتح " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة . . . ( {[1]} ) .
2- والمتدبر للقرآن الكريم ، يرى كثيرا من آياته وسوره ، في أعقاب بعض الغزوات ، ليتعلم المسلمون من تلك الآيات والسور ما ينفعهم وما يصلح من شأنهم .
فمثلا في أعقاب غزوة " بدر " نزلت سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر .
وفي أعقاب غزوة " أحد " نزلت عشرات الآيات في سورة آل عمران .
وفي أعقاب غزوة " بني النضير " نزلت آيات من سورة الحشر .
وفي أعقاب غزوة " الأحزاب " نزلت آيات من سورة الأحزاب .
وفي أعقاب صلح الحديبية نزلت هذه السورة الكريمة ، التي تحكي الكثير من الأحداث التي تتعلق بهذا الصلح .
3- وقبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، نرى من الخير أن نعطي للقارئ فكرة واضحة عن صلح الحديبية ، التي نزلت في أعقابه هذه السورة . . فنقول –وبالله التوفيق- :
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه قد دخل المسجد الحرام هو وأصحابه ، وقد صرحت السورة الكريمة بذلك في قوله –تعالى- : [ لقد صدق الله رسول الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون . . . ] فقص صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا بها . وكان المشركون قد منعوهم من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام .
4- وخرج صلى الله عليه وسلم ومعه حوالي أربعمائة وألف من أصحابه ، ليس معهم من السلاح سوى السيوف في أغمادها ، وساقوا معهم الهدى الذي يتقربون بذبحه إلى الله –تعالى- ليكون دليلا على أنهم لا يريدون حرب قريش ، وإنما يريدون الطواف بالبيت الحرام .
وسار صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما وصل إلى " عُسْفَان " وهو مكان بين مكة والمدينة –جاءه بشر بن سفيان العكبي وكان مكلفا من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفة أخبار قريش فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العُوذُ المطَافِيلُ –أي : ومعهم الإبل التي لم تلد ، والإبل التي ولدت ، قد لبسوا جلود النمور –أي : قد استعدوا لقتالك وقد نزلوا بِذِي طَوىً –وهو مكان بالقرب من مكة- ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا . .
فقال صلى الله عليه وسلم : " يا ويح قريش ! ! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة " أي أو أن أقتل في سبيل الله .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : " مَن رجلُ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها " ؟ .
فقال رجل من قبيلة أسلم : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقا وعرا ، انتهى يهم إلى " الحديبية " وهي قرية على بعد مرحلة من مكة ، أو هي بئر سمى المكان بها .
5- وفي هذا المكان بركت القصواء –وهي الناقة التي كان يركبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس : خلأت الناقة أي : حرنت وأبت المشي - ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " .
ثم أمر صلى الله عليه وسلم الناس بالنزول في هذا المكان . .
6- وعلمت قريش بنزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية ، فبدأوا يرسلون رسلهم لمعرفة الأسباب التي حملت المسلمين إلى المجيء إليهم .
وكان من بين الرسل بُدَيل بن ورقاء الخزاعي . . فلما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب مجيئه إلى مكة ، أخبره أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ، ومعظما لحرمته . .
وعاد بديل إلى مكة ، وأخير المشركين بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يقتنعوا ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . والله لا يدخلها علينا عنوة أبدا . . .
7- ثم أرسلت قريش رسلا آخرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من بينهم ، عروة بن مسعود الثقفي . . فكان مما قاله للرسول صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس –أي : أخلاطهم- ثم جئت بهم إلى أهلك . . إن قريشا قد تعاهدت أنك لن تدخل عليهم مكة عنوة . .
وكان عروة خلال حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى لحيته صلى الله عليه وسلم فكان المغيرة ابن شعبة يقرع يد عروة ويقول له : اكفف يداك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك .
وشاهد عروة ما شاهد من احترام المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المشركين وقال لهم : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . .
8- ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش عثمان بن عفان –رضي الله عنه- لكي يخبرهم بأن المسلمين ما جاءوا لحرب ، وإنما جاءوا للطواف بالبيت .
وذهب إليهم عثمان وأخبرهم بذلك ، ولكنهم صمموا على منع المسلمين من دخول مكة ، قالوا لعثمان : إن شئت أنت أن تطوف بالبيت فطف .
فقال لهم : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال مكث عثمان عند قريش ، حتى أشبع بين المسلمين أنه قد قتله المشركون .
فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا المسلمين إلى مبايعته على الموت ، فبايعه المسلمون على ذلك تحت شجرة الرضوان . . .
ثم جاء عثمان بعد ذلك دون أن يصيبه أذى . . .
9- وأخيرا أوفدت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا منهم اسمه سهيل بن عمرو ، ليعقد صلحا مع المسلمين ، وقالوا له : أنت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا . .
وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سهيلا مقبلا نحوه ، قال لأصحابه : لقد سهل الله لكم من أمركم ، إن قريشا أرادت الصلح حين بعث هذا الرجل .
وتم الصلح بين الفريقين على ما يأتي :
أولا : أن يرجع المسلمون دون زيارة البيت هذا العام ، فإذا كان العام التالي : أخلت قريش لهم مكة ثلاثة أيام ، ليطوفوا بالبيت ، وليس معهم إلا السيوف في غمدها . .
ثانيا : أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين عشر سنوات .
ثالثا : من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتى قريش من المسلمين لم يردوه .
رابعا : من أحب أن يدخل في عقد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .
ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .
ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الشروط ، التي ظاهرها الظلم للمسلمين ، حتى قال عمر –رضي الله عنه- للرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري " .
ثم أشار صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين أن يتحللوا من عمرتهم ، بأن ينحروا هديهم ، وأن يحلقوا رءوسهم أو يقصروا . ولكنهم لم يسارعوا بالامتثال ، فدخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة –رضي الله عنها- ، وقد ظهر الغضب على وجهه .
فقالت له : يا رسول الله ، اعذرهم ، وابدأ بما تأمرهم به دون أن تكلم منهم أحدا .
فقام صلى الله عليه وسلم فنحر هديه ، ودعا حالقه فحلق له ، فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم ، قاموا فنحروا هديهم ، وجعل بعضهم يحلق بعضا .
ثم أقام المسلمون بعد ذلك عدة أيام بالحديبية ، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة ، وعندما سمع صلى الله عليه وسلم بعضهم يقول : لقد رجعنا ولم نصنع شيئا . .
قال صلى الله عليه وسلم " بل فتحتم أعظم الفتح " .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله هذا . فقد كان صلح الحديبية فتحا عظيما ، كما تبين ذلك عند تفسيرنا للسورة الكريمة .
وبهذا العرض المجمل لأحداث صلح الحديبية ، نكون قد أعطينا القارئ فكرة مركزة عن هذا الصلح ، وعن الجو العام الذي نزلت في أعقابه سورة الفتح ، ومن أراد المزيد لمعرفة أحداث صلح الحديبية فليرجع إلى كتب السيرة( {[2]} ) .
افتتحت سورة " الفتح " بهذه البشارات السامية ، والمدائح العالية للنبى - صلى الله عليه وسلم - افتتحت بقوله - تعالى - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
والفتح فى الأصل : إزالة الأغلاق عن الشئ . . وفتح البلد : المقصود به الظفر به ، ووقوعه تحت سيطرة الفاتح .
والذى عليه المحققون من العلماء أن المراد بالفتح هنا : صلح الحديبية وما ترتب عليه من خيرات كثيرة ، ومنافع جمة للمسلمين .
ويشهد لذلك أحاديث متعددة منها : ما أخرجه البخارى وأبو داود والنسائى عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد خرج إليها - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين هلال ذى القعدة ، فأقام بها بضعة عشر يوما ، ثم قفل راجعا إلى المدينة ، فينما نحن نسير إلى المدينة إذ أتاه الوحى - وكان إذا أتاه اشتد عليه - فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود عن مجمع بن جارية الأوسى قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم - موضع بين مكة والمدينة - وقد جمع الناس وقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الآيات .
فقال رجل : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : أو والذى نفسى بيده إنه لفتح .
ويرى بعضهم : أن المراد بالفتح هنا : فتح مكة ، والتعبير عنه بالماضى فى قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } لتحقق الوقوع ، فهو من قبيل قوله - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } ويبدو لنا أن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية لوجود اللآثار الصحيحة التى تشهد لذلك ، ولأن هذا الصلح قد ترتب عليه من المنافع للدعوة الإِسلامية ما يجعله من أعظم الفتوح ، إن لم يكن أعظمها .
لقد ترتب عليه أن انتشر الأمان بين المسلمين والمشركين ، فاستطاع المسلمون أن ينشروا دعوة الحق فى مكة وفى غيرها ، كما استطاعوا أن ينتقلوا من مكان إلى آخر للتبشير بدينهم ، فترتب على ذلك أن دخل فى الإِسلام عدد كبير من الناس .
قال الزهرى : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، وتمكن الإِسلام من قلوبهم ، وأسلم خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإِسلام .
قال ابن هشام : والدليل على صحة قول الزهرى ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية فى الف وأربعمائة من أصحابه ثم خرج إلى مكة فى عام الفتح - بعد ذلك بسنتين - فى عشرة آلاف من أصحابه .
وقد أكد - سبحانه - هذا الفتح بثلاثة أنواع من المؤكدات ، وهى " إن " والمصدر " فتحا " والوصف " مبينا " وذلك للمسارعة إلى تبشير المؤمنين بتحقق هذا الفتح ، ولإِدخال السرور على قلوبهم ، بعد تلك الشروط التى اشتمل عليها الصلح ، والتى ظنها بعضهم أن فيها إجحافا بالمسلمين .
وأسند - سبحانه - الفعل إلى نون العظمة { فَتَحْنَا } لتفخيم شأن المخبر - عز وجل - وعلو شأن المخبَر عنه وهو الفتح .
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور { لَكَ } على المفعول المطلق { فَتْحاً } للاهتمام وللإِشعار بأن ذلك الفتح كان من أجله - صلى الله عليه وسلم - وفى ذلك ما فيه من تعظيم أمره - صلى الله عليه وسلم - ومن وجوب طاعته ، والامتثال لأمره .
قال الإمام أحمد{[1]} حدثنا وَكِيع ، حدثنا شُعْبَة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت عبد الله بن مغفل يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها - قال معاوية : لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته ، أخرجاه من حديث شعبة به{[2]} .
نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله . فلما نحر هديه حيث أحصر ، ورجع ، أنزل الله ، عز وجل ، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روى عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية .
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية {[3]} .
وقال{[4]} البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحًا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر . فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ، ثم تمضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا {[5]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح ، حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه {[6]} ، عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، قال : فسألته عن شيء - ثلاث مرات – فلم يرد علي ، قال : فقلت لنفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال : فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء ، قال : فإذا أنا بمناد ينادي : يا عمر ، أين عمر ؟ قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نزلت{[7]} علي الليلة {[8]} سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .
ورواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن مالك ، رحمه الله{[9]} ، وقال علي بن المديني : هذا إسناد مديني [ جيد ]{[10]} لم نجده إلا عندهم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض " ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله ، لقد بين الله ، عز وجل ، ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } حتى بلغ : { فَوْزًا عَظِيمًا } [ الفتح : 5 ] ، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به{[11]} .
وقال{[12]} الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب ، قال : سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري - وكان أحد{[13]} القراء الذين قرءوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ، قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ، وفتح هو ؟ قال : " إي والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح " . فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما .
رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى ، عن مجمع بن يعقوب ، به{[14]} .
وقال{[15]} ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، حدثنا جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول{[16]} : لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا : " امضوا " {[17]} . فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : " افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [ يفعل ] {[18]} من نام أو نسي " . قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها ، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها فركبها {[19]} ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه [ الوحي ]{[20]} اشتد عليه ، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } .
وقد رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي من غير وجه ، عن جامع بن شداد به {[21]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة ، قال : سمعت المغيرة بن شعبة{[22]} يقول : كان النبي {[23]} صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا " .
أخرجاه{[24]} وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به{[25]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه{[26]} .
فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ؟ " .
أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب ، به{[27]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن عون الخراز - وكان ثقة بمكة - حدثنا محمد بن بشر{[28]} حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟ " غريب من هذا الوجه {[29]} .
فقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي : بينا ظاهرا ، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض{[26760]} ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان .
سورة { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } سميت في كلام الصحابة { سورة الفتح } . ووقع في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة { سورة الفتح } فرجع فيها . وفيها حديث سهل بن حنيف لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا . ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر .
ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي .
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها . وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة . وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي .
ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر . وفي الموطإ عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال : عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك . قال عمر : فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } . ومعنى قوله لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } .
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } إلى قوله { فوزا عظيما } مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها .
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد . نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة .
وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فقال رسول الله : لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها وفي رواية من أولها إلى آخرها .
تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم ، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين .
والتنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب .
والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه ، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل .
ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها .
وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر ، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية .
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة . وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى { فعجل لكم هذه } .
افتتاح الكلام بحرف ( إنّ ) ناشىء على ما أحلّ للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض ، وأما النبيء صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً بذلك ، وسيأتي تبيين هذا التأكيد قريباً .
والفتح : إزالة غلق البابِ أو الخزانة قال تعالى : { لا تُفتَّح لهم أبواب السماء } [ الأعراف : 40 ] ويطلق على النصر وعلى دخول الغازي بلاد عدوّه لأن أرض كل قوم وبلادهم مواقع عنها فاقتحام الغازي إياها بعد الحرب يشبه إزالة الغلق عن البيت أو الخزانة ، ولذلك كثر إطلاق الفتح على النصر المقترن بدخول أرض المغلوب أو بلده ولم يطلق على انتصار كانت نهايته غنيمة وأسر دون اقتحام أرض فيقال : فتح خيبر وفتح مكة ولا يقال : فتح بَدر . وفتح أُحد . فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح ، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله : { نصر من الله وفتح قريب } في سورة الصف ( 13 ) . ولعلّ الذي حداهم على عدّ النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدّو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدّو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه . وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى : { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } الآية سورة ألم السجدة ( 28 ) .
ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسّرين : المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح . والمعنى : سنفتح . وإنما جيء في الإخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه ، شُبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي . أو نقول استعمل { فتحنا } بمعنى : قدّرنا لك الفتح ، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع . وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره ، وذلك أيضاً كناية عن علو شأن المخبر مثل { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ النحل : 1 ] .
وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيهاً له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبد الله : ما كنّا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية ، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد ، وعن البراء بن عازب « تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية » ، يريد أنكم تحملون الفتح في قوله : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } على فتح مكة ولكنه فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح .
ويؤيد هذا المحمل حديث عبد الله بن مغفَّل « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورةَ الفتح » ، وفي رواية « دخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح على راحلته » .
على أن قرائن كثيرة تُرجح أن يكون المراد بالفتح المذكور في سورة الفتح : أُولاها أنّه جعله مُبيناً .
الثّانية : أنه جعل علّته ( النصر العزيز ) الثانية ، ولا يكون الشيء علّة لنفسه .
الثالثة : قوله { وأثابهم فتحاً قريباً } [ الفتح : 18 ] .
الرّابعة : قوله : { ومغانم كثيرة يأخذونها } [ الفتح : 19 ] .
الخامسة : قوله : { فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } [ الفتح : 27 ] .
والجمهور على أن المراد في سورة الفتح هو صلح الحديبية ، وجعلوا إطلاق اسم الفتح عليه مجازاً مرسلاً باعتبار أنه آل إلى فتح خيبر وفتِح مكة ، أو كان سبباً فيهما فعن الزهري « لقد كان يوم الحديبية أعظم الفتوح ذلك أن النبيء صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة فلما وقع صلح مشي الناس بعضهم في بعض ، أي تفرقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجْل الأمن بينهم ، وعلموا وسمِعوا عن الله فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتانِ إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكّة في عشرة آلاف » اه ، وفي رواية « فلما كانت الهدنة أمن الناس بعضُهم بعضاً فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يكلَّم أحد يعقل بالإسلام إلا دخل فيه » . وعلى هذا فالمجاز في إطلاق مادة الفتح على سببه ومآله لا في صورة الفعل ، أي التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه بهذا الاعتبار المجازي قد وقع فيما مضي فيكون اسم الفتح استعمل استعمال المشترك في معنييه ، وصيغةُ الماضي استعملت في معنييها فيظهر وجه الإعجاز في إيثار هذا التركيب . وقيل : هو فتح خيبر الواقع عند الرجوع من الحديبية كما يجىء في قوله : { إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها } [ الفتح : 15 ] .
وعلى هذه المحامل فتأكيد الكلام ب ( إن ) لما في حصول ذلك من تردد بعض المسلمين أو تساؤلهم ، فعن عمر أنه لما نزلت { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال : « أوَ فتح هو يا رسول الله ؟ قال : " نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح " . وروى البيهقي عن عروة بن الزبير قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما هذا بفتح صُددنا عن البيت وصُدّ هدينا . فبلغ ذلك رسول الله فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ولقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون .
فقال المسلمون : صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت ، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا » .
وحذف مفعول { فتحنا } لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص .
واللام في قوله : { فتحنا لك } لام العلة ، أي فتحنا لأجلك فتحاً عظيماً مثل التي في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] .
وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافاً للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة .