تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } أي : أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة ، وإيضاح الحق ، والله لا يستحيي من الحق ، وكأن في هذا ، جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة ، واعترض على الله في ذلك . فليس في ذلك محل اعتراض . بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم . فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر . ولهذا قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها ، ويتفكرون فيها .

فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلا علموا أنها حق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ، ونعمة سابغة .

{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفرا إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ولهذا قال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية . قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [ وضلالة ] وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة [ ورحمة ] وزيادة خير إلى خيرهم ، فسبحان من فاوت بين عباده ، وانفرد بالهداية والإضلال .

ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى{[78]}  فقال : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعة الله ، المعاندين لرسل الله ، الذين صار الفسق وصفهم ، فلا يبغون به بدلا ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى ، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة .

والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين ، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان ، كالمذكور في هذه الآية ونحوها ، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الآية ] .


[78]:- في ب: ثم ذكر حكمته وعدله في إضلال من يضل.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

وبعد هذا البيان الجامع عن أحوال المهتدين بهديه أو الناكبين عن صراطه ، وما تخلل ذلك من المواعظ النافعة ، والتمثيلات الرائعة ، والبشارات الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً ، بعد كل ذلك بين - سبحانه - أنه لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير ، فقال - تعالى- : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . } .

روى الواحدى في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله - تعالى - لما أنزل قوله - تعالى - { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وقوله - تعالى - : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } لما نزل قال المشركون : أرأيتم أي شيء يصنع بهذا ؟ ! فأنزل الله { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . } .

وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا : ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله ! فأنزل الله هذه الآية { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى } . إلخ .

وقال السدى : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . } وقوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله هذه الآية . ويبدوا أن الآية الكريمة قد نزلت للرد على جميع تلك الفرق الضالة ، فقد قرر العلماء أن لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .

والاستحياء والحياد واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب . وهو في أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم . وهذا المعنى غير لائق بجلال الله ، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمة ، وهو ترك ضرب الأمثال بها . والمعنى : إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل ، مألوف فى الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً . ومذهب السلف : إمرار هذا وأمثاله على ما ورد ، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله - تعالى - مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات .

أي : ليس الحياء بمانع لله - تعالى - من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة في نظركم ؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فإن فيها من دلائل القدرة ، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ، ويشهد بحكمة الخالق .

والمثل فى اللغة : الشبيه . وهو فى عرف القرآن : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع ، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله في حال المنافقين ؛ أو وصف غريب نحو قوله تعالى : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيرادة بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع .

و ( ما ) فى قوله { مَثَلاً مَّا } هي ما الإِبهامية ، تجيء بعد النكرة فتزيدها شيوعاً وعموماً ، كقولك : أعطني كتاباً ما ، أي كتاب كان .

والبعوضة واحدة البعوض وهى حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهى بدل أو بيان من قوله { مَثَلاً } .

وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } عطف على بعوضة ، والمراد فما فوقها فى الحجم كالذباب والعنكبوت ، والكلب والحمار ، أو فما فوقها في المعنى الذي وقع التمثيل فيه ، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة . قال صاحب الكشاف : سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه ملا فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . . وأن لله - تعالى - أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه فى صغره إلا هو وحده . . وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } فيه معنيان :

أحدهما : فما تجاوزهما وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس وأنذلهم ، هو فوق ذلك ، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة .

والثاني : فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة .

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال :

{ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } . أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد ، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها ، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر ، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت : زيد ذاهب ، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت : أما زيد فذاهب .

والضمير فى قوله { أَنَّهُ } يعود على المثل ، أو على ضربه المفهوم من قوله : { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } . والحق : خلاف الباطن ، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره .

ووجه كون المثل أو ضربه حقاً ، أنه يوضح المبهم ، ويفصل المجمل ، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها . ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين ، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك ، فهم مؤمن أو كافر . والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم ، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكلهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك .

وعبر فى جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة ، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز . وقال : { أَنَّهُ الحق } معرفاً بأل ، ولم يقل : أنه حق للمبالغة في حقية المثل . ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل ، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال .

وقوله : { مِن رَّبِّهِمْ } حال من الحق ، ومن ابتدائية ، أي : إنه هذا الكلام وارد من الله ، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب ، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذي لا يقع منه الخطأ .

ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذه الأمثال عندما تتلى عليهم فقال :

{ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .

كلمة { مَاذَآ } مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإِشارة ، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركباً من كلمتين ، وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة ، حتى تصير الإِشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو : ماذا التواني ؟ أو حيث لا يكون للإِشارة موقع كقوله تعالى : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر } وقد يتوسعون فيها توسعاً أٌوى فيجعلون ذا اسم موصول ، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله ، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } ونحو { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أي : ما الذي أراده الله بهذا المثل .

والإِرادة فى أصل اللغة : نزوع النفس إلى الفعل ، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات ، فيترجح بها أحد وجهي المقدور ، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع .

وقوله : { مَثَلاً } واقع في موقع التمييز لاسم الإِشارة " هذا " كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول . ماذا أردت بهذا جواباً ؟

والاستفهام الذي حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين ، المقصود به الإِنكار والتحقير لهذه الأمثال ، ولأن يكون الله - تعالى - قد ضربها للناس . والمعنى : فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف ، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين ، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم ، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار . ثم ساق - سبحانه - جملتين بين فيهما الحكمة من ضرب الأمثال فقال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } . فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقاً ، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم ، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً في ظلمات جهلهم .

ووصف كلا من فريقي المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهتديين وصفوا بالقلة كثيرا كما في قوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } وذلك لأن أهل الهدى كثيرون في أنفسهم ، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من أهل الهدى كثير في الحقيقة ، وإن قلوا في الصورة ، فوصفوا بالكثرة ذهاباً إلى هذه الحقيقة .

وقدم الإِضلال على الهداية ، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفت في أعضادهم .

ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } .

الفاسقون : جمع فاسق ، من الفسق ، وهو في أصل اللغة : الخروج . يقال : فسقت الرطبة من قشرها . أي : خرجت منه ، وشرعاً ، الخروج عن طاعة الله ، فيشمل الخروج من حدود الإِيمان ، وهو الكفر ، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر ، ولكنه اختص فى العرف بارتكاب الكبيرة ، ولم يسمع الفسق فى كلام الجاهلية ، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإِسلامية .

وقصر الإِضلال بالمثل على الفاسقين ، إيذان بأن الفسق هو الذي أعدهم لأن يضلوا به ، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [ البقرة : 17 ] وقوله { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [ البقرة : 19 ] الآيات الثلاث ، قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : { هُمُ الْخَاسِرُونَ }

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله [ تعالى هذه الآية ]{[1404]} { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }{[1405]} .

وقال سعيد ، عن قتادة : أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما ، قل أو كثر ، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }

قلت : العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية ، وليس كذلك ، وعبارة رواية سعيد ، عن قتادة أقرب والله أعلم . وروى ابن جُرَيج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة .

وقال ابن أبي حاتم : روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة .

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ؛ إذ البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت . وكذلك مثل هؤلاء{[1406]} القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن ، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله تعالى عند ذلك ، ثم تلا { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 44 ] .

هكذا رواه ابن جرير ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، بنحوه ، فالله أعلم .

فهذا اختلافهم في سبب النزول ، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السُّدي ؛ لأنه أمس بالسورة ، وهو مناسب ، ومعنى الآية : أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي ، أي : لا يستنكف ، وقيل : لا يخشى أن يضرب مثلا ما ، أي : أيّ مثل كان ، بأي شيء كان ، صغيرًا كان أو كبيرًا .

و " ما " هاهنا للتقليل{[1407]} وتكون { بَعُوضَةً } منصوبة على البدل ، كما تقول : لأضربن ضربًا ما ، فيصدق بأدنى شيء [ أو تكون " ما " نكرة موصوفة ببعوضة ]{[1408]} . واختار ابن جرير أن ما موصولة ، و { بَعُوضَةً } معربة بإعرابها ، قال : وذلك سائغ{[1409]} في كلام العرب ، أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ، ونكرة أخرى ، كما قال حسان بن ثابت :

وَكَفَى{[1410]} بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا *** حُب{[1411]} النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إيَّانَا{[1412]}

قال : ويجوز أن تكون { بَعُوضَةً } منصوبة بحذف الجار ، وتقدير الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها .

[ وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء . وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت " بعوضة " بالرفع ، قال ابن جني : وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله : { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] أي : على الذي أحسن هو أحسن ، وحكى سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، أي : يعني بالذي هو قائل لك شيئًا ]{[1413]} .

وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } فيه قولان : أحدهما : فما دونها في الصغر ، والحقارة ، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح ، فيقول السامع{[1414]} : نعم ، وهو فوق ذلك ، يعني فيما وصفت . وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة ، قال الرازي : وأكثر المحققين ، وفي الحديث : " لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " {[1415]} . والثاني : فما فوقها : فما هو أكبر منها ؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة . وهذا [ قول قتادة بن دعامة و ]{[1416]} اختيار ابن جرير .

[ ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة ، رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة »{[1417]} ]{[1418]} .

فأخبر أنه لا يستصغر{[1419]} شيئًا يَضْرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ، كما [ لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ]{[1420]} ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] ، وقال : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 24 - 27 ] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ]{[1421]} } الآية [ النحل : 75 ] ، ثم قال : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ]{[1422]} } الآية [ النحل : 76 ] ، كما قال : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } الآية [ الروم : 28 ] . وقال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ]{[1423]} } الآية [ الزمر : 29 ] ، وقد قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] وفي القرآن أمثال كثيرة .

قال بعض السلف : إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }

وقال مجاهد قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها .

وقال قتادة : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : يعلمون أنه كلام الرحمن ، وأنه من عند الله .

وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك .

وقال أبو العالية : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } يعني : هذا المثل : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا } كما قال في سورة المدثر : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وكذلك قال هاهنا : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ }

قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني : المنافقين ، { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } يعني المؤمنين ، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم{[1424]} لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا ، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم{[1425]} وأنه لما ضربه له موافق ، فذلك{[1426]} إضلال الله إياهم به { وَيَهْدِي بِهِ } يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم ، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما{[1427]} ضربه الله له مثلا وإقرارهم به ، وذلك هداية من الله لهم به { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } قال : هم المنافقون{[1428]} .

وقال أبو العالية : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } قال : هم أهل النفاق . وكذا قال الربيع بن أنس .

وقال ابن جريج عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } يقول : يعرفه الكافرون فيكفرون به .

وقال قتادة : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } فسقوا ، فأضلهم الله على فسقهم .

وقال ابن أبي حاتم : حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان ، عن أبي سِنان ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني الخوارج .

26


[1404]:زيادة من ط.
[1405]:تفسير عبد الرزاق (1/64).
[1406]:في أ: "هذا".
[1407]:في جـ، ط، ب، أ، و: "للتقليل زائدة".
[1408]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1409]:في جـ، أ، و: "شائع".
[1410]:في جـ، ب، أ، و: "يكفي".
[1411]:في جـ: "حث".
[1412]:البيت في تفسير الطبري (1/404).
[1413]:زيادة من جـ، ط، ب.
[1414]:في جـ: "القابل".
[1415]:رواه الترمذي في السنن برقم (2320) من طريق عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه به مرفوعا، وفيه عبد الحميد بن سليمان ضعيف.
[1416]:زيادة من جـ، ط.
[1417]:صحيح مسلم برقم (2572)
[1418]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1419]:في جـ: "لا يستنكف".
[1420]:زيادة من جـ، ط.
[1421]:زيادة من جـ، ط.
[1422]:زيادة من جـ.
[1423]:زيادة من جـ.
[1424]:في جـ، ط، ب: "ضلالتهم".
[1425]:في جـ، ط، أ: "لما ضربه له".
[1426]:في جـ: "فوافق ذلك".
[1427]:في جـ، ط: "لما".
[1428]:في أ: "أهل النفاق".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة } لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل ، عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل ، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير كما يمثل العظيم بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم ، كما مثل في الإنجيل غل الصدور ، بالنخالة . والقلوب القاسية ، بالحصاة . ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير . وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد وأطيش من فراشه ، وأعز من مخ البعوض . لا ما قالت الجهلة من الكفار : لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين ؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ؟ وجعلها أقل من الذباب والعنكبوت . وأيضا لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل ؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره ؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى : { إن الله لا يستحي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها . والحياء : انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم ، وهو الوسط بين الوقاحة : التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها ، والخجل : الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا . واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي ، إذا اعتلت نساه وحشاه . وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث : " إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه " . " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " /ح/ فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، ونظيره قول من يصف إبلا : إذا ما استحين الماء يعرض نفسه *** كرعن بسبت في إناء من الورد وإنما عدل به عن الترك ، لما فيه من التمثيل والمبالغة ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة . وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم ، وأصله وقع شيء على آخر ، وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من ، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه . وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا وتسد عنها طرق التقييد ، كقولك أعطني كتابا ما ، أي : أي كتاب كان . أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع ، فإن القرآن كله هدى وبيان ، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه ، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقة وقوة وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه . وبعوضة عطف بيان لمثلا . أو مفعول ليضرب ، ومثلا حال تقدمت عليه لأنه نكرة . أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل . وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى هذا يحتمل { ما } وجوها أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها ، كما حذف في قوله : { تماما على الذي أحسن } وموصوفة بصفة كذلك ، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين . واستفهامية هي المبتدأ ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال ، قال بعده : ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل ، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك . ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران . والبعوض : فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع والعضب ، غلب على هذا النوع كالخموش .

{ فما فوقها } عطف على بعوضة ، أو ما إن جعل اسما ، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت ، كأنه قصد به رد ما استنكروه . والمعنى : أنه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه ، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا ، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلا للدنيا ، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة " فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة ، لقوله عليه الصلاة والسلام " ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة " .

{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء ، قال سيبويه : أما زيد فذاهب معناه ، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء ، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر ، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم ، وذم بليغ للكافرين على قولهم ، والضمير في { أنه } للمثل أو لأن يضرب . و{ الحق } الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة ، من قولهم حق الأمر ، إذا ثبت ومنه : ثوب محقق أي : محكم النسج .

{ وأما الذين كفروا فيقولون } كان من حقه : وأما الذين كفروا فلا يعلمون ، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه ، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه .

{ ماذا أراد الله بهذا مثلا } يحتمل وجهين : أن تكون " ما " استفهامية و " ذا " بمعنى الذي وما بعده صلته ، والمجموع خبر ما . وأن تكون " ما " مع " ذا " اسما واحدا بمعنى : أي شيء ، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله ، والأحسن في جوابه الرفع على الأول ، والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال . والإرادة : نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه ، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع ، والأول مع الفعل والثاني قبله ، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به ، ولذلك اختلف في معنى إرادته ، فقيل : إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ، ولأفعال غيره أمره بها . فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته ، وقيل : علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل ، والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله ، والحق : أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه ، أو معنى يوجب هذا الترجيح ، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال . و{ مثلا } نصب على التمييز ، أو الحال كقوله تعالى : { هذه ناقة الله لكم آية } . { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } جواب ماذا ، أي إضلال كثير وإهداء كثير ، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد ، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما ، وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان ، وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده - ضلال وفسوق ، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم ، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : { وقليل ما هم } ، { وقليل من عبادي الشكور } ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد ، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال :

قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا *** . . .

وقال :

إن الكرام كثير في البلاد وإن *** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

{ وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن حد الإيمان ، كقوله تعالى : { إن المنافقين هم الفاسقون } من قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت . وأصل الفسق : الخروج عن القصد قال رؤبة :

فواسقا عن قصدها جوائرا *** . . .

والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وله درجات ثلاث :

الأولى : التغابي وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها .

الثانية : الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها .

الثالثة : الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها ، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ، ولا بس الكفر . وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ، ولقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } والمعتزلة لما قالوا : الإيمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل ، والكفر تكذيب الحق وجحوده . جعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام ، وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال ، وأدى بهم إلى الضلال . وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به ، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به . وقرئ ( يضل ) بالبناء للمفعول و{ الفاسقون } بالرفع .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ( 26 )

ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في السورة قال الكفار : ما هذه الأمثال ؟ الله عز وجل أجل من أن يضرب هذه أمثالاً ، فنزلت الآية .

وقال ابن قتيبة : «إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت »( {[364]} ) .

وقال قوم : «هذه الآية مثل للدنيا »( {[365]} ) .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى . و { يستحيي } أصله يستحيي ، عينه ولامه حرفا علة ، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت .

وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه ، وابن محيصن وغيرهما «يستحي » بكسر الحاء ، وهي لغة تميم ، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما للالتقاء . ( {[366]} )

واختلف المتأولون في معنى : { يستحيي } في هذه الآية . فرجح الطبري أن معناه يخشى . وقال غيره . معناه يترك وهذا هو الأولى . ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك أو قريب منه . ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك ، رد الله بقوله : { إن الله لا يستحيي } على القائلين كيف يضرب الله مثلاً بالذباب ونحوه ، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول ، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع ، فليست مما يستحيى منه .

وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس ، وهذا غير مرضي .

وقوله تعالى : { أن يضرب } ، { أن } مع الفعل في موضع نصب ، كأنها مصدر في موضع المفعول ، ومعنى { يضرب مثلاً } يبين ضرباً من الأمثال أي نوعاً ، كما تقول : هذا من ضرب هذا ، والضريب المثيل . ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث ، وضرب الذلة ، فيجيء المعنى( {[367]} ) أن يلزم الحجة بمثل( {[368]} ) ، و { مثلاً } مفعول ، فقيل هو الأول ، وقيل هو الثاني ، قدم وهو في نية التأخير ، لأن «ضرب » في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين . ( {[369]} )

واختلفوا في قوله : { ما بعوضة } فقال قوم : { ما } صلة زائدة لا تفيد إلا شيئاً من تأكيد ، وقيل ما نكرة في موضع نصب على البدل من قوله { مثلاً } ، و { بعوضة } نعت ل { ما } ، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها . حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن { أن يضرب } إنما يتعدى إلى مفعول واحد .

وقال بعض الكوفيين : نصب { بعوضة } على تقدير إسقاط حرف الجر ، والمعنى أن يضرب مثلاً ما من بعوضة .

وحكي عن العرب : «له عشرون ما ناقة فجملاً » ، وأنكر أبو العباس هذا الوجه .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يترجح أن { ما } صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصاً وتقريباً( {[370]} ) ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [ الخفيف ]

سلع ما ومثله عشر ما . . . عائل ما وعالت البيقورا( {[371]} )

وبعوضة على هذا مفعول ثان .

وقال قوم : { ما } نكرة ، كانه قال شيئاً . والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت : [ الكامل ] .

فكفى بنا فضلاً على من غيرنا . . . حبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا( {[372]} )

قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم نظير هذا القول( {[373]} ) ، والشبه بالبيت غير صحيح عندي ، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم ، يقال بضع وبعض بمعنى ، وعلى هذا حملوا قول الشاعر( {[374]} ) : [ الوافر ] .

لنعمَ البيتُ بيتُ أبي دثارٍ . . . إذا ما خاف بعضُ القومِ بَعْضا

وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج : «بعوضةٌ » بالرفع .

قال أبو الفتح : وجه ذلك أن «ما » اسم بمنزلة «الذي » ، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلاً ، فحذف العائد على الموصول ، وهو مبتدأ ، ومثله قراءة بعضهم : «تماماً على الذي أحسن » أي على الذي هو أحسن .

وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئ( {[375]} )ً ، أي هو قائل .

وقوله تعالى : { فما فوقها } من جعل { ما } الأولى صلة زائدة ، ف «ما » الثانية عطف على بعوضة ، ومن جعل { ما } اسماً ف «ما » الثانية عطف عليها .

وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما : «المعنى فما فوقها في الصغر » .

وقال قتادة وابن جريج وغيرهما : «المعنى في الكبر » .

قال القاضي أبو محمد : والكل محتمل ، والضمير في { أنه } ، عائد على المثل .

واختلف النحويون في { ماذا }( {[376]} ) : فقيل هي بمنزلة اسم واحد ، بمعنى أي شيء أراد الله ، وقيل «ما » اسم «وذا » اسم آخر بمعنى الذي ، ف «ما » في موضع رفع بالابتداء ، و «ذا » خبره ، ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام .

وقوله : { مثلاً } نصب على التمييز ، وقيل على الحال من «ذا » في { بهذا } ، والعامل فيه الإشارة والتنبيه .

واختلف المتأولون في قوله تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيراً }( {[377]} ) فقيل هو من قول الكافر( {[378]} ) ، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى ؟ وقيل بل هو خبر من الله تعالى( {[379]} ) أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به ، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق . وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم : «إن الله لا يخلق الضلال » ولا خلاف أن قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين }( {[380]} ) من قول الله تعالى .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { ويهدي به كثيراً } إلى آخر الآية رداً من الله تعالى على قول الكفار { يضل به كثيراً } والفسق الخروج عن الشيء . يقال فسقت الفارة إذا خرجت من جحرها ، والرطبة إذا خرجت من قشرها ، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان ، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية : «يُضل » بضم الياء فيهما .

وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ «يَضل » بفتح الياء «كثيرٌ » بالرفع «ويهدي به كثير . وما يضل به إلا الفاسقون » بالرفع( {[381]} ) .

قال أبو عمرو الداني : «هذه قراءة القدرية وابن أبي عبله من ثقات الشاميين ومن أهل السنة ، ولا تصح هذه القرءة عنه ، مع أنها مخالفة خط المصحف » .

وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى : «يُضل » بضم الياء وفي الثانية «وما يَضل » بفتح الياء «به إلا الفاسقون » .

قال القاضي أبو محمد : وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه .


[364]:- إنما أنكروا ذلك لأنهم أخذوا بمجرد الظاهر، ولم ينظروا في المراد من الخطاب، وهذا عدم فقه منهم للغرض المقصود، ولذلك كان إذا نفي الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقوفهم مع ظاهر الخطاب، وعدم اعتبارهم للمراد منه، كما قال تعالى: [ذلك بأنهم قوم لا يفقهون] وإذا أثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه وهو باطنه، كما قال تعالى: [فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم] فما استنكره اليهود أو المنافقون من ضرب المثل بالمحقرات من الأشياء ليس موضعا للاستنكار، من حيث أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به عظيما، وإن كان المتمثل له حقيرا كان المتمثل به كذلك، فعظم المثل وحقارته شيء يستدعيه حال المتمثل له، كما أشار إليه الزمخشري، ولذلك رد الله عليهم بقوله: [إن الله لا يستحي]الآية.
[365]:- صاحب هذا القول يقول: إنه مثل ضربه الله للدنيا وأهلها، فإن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت، كذلك هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: [فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء] هكذا رواه ابن جرير، وضعف ابن عطية هذا القول، وهو كذلك، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم جناح البعوضة مثلا للدنيا في حديث سهل بن سعد (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء).
[366]:- قيل: المحذوف الأولى، وهي عين الكلمة، وقيل: الثانية وهي لام الكلمة- خلاف مذكور في محله.
[367]:- أي معنى الآية، فمعنى (أن يضرب مثلا) أن يلزم الحجة بمثل.
[368]:- الحياء بمعناه في اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، وكل ما لا يصح نسبته إلى الله تعالى فمختلف في تأويله، منهم من قال نؤمن به إجمالا ونكل عمله إلى الله تعالى، وأهل التأويل اختلفوا في تفسير الاستحياء في الآية، والأقوال المذكورة كلها تتقارب في المعنى، وأهل التأويل اختلفوا في تفسير الاستحياء في الآية، والأقوال المذكورة كلها تتقارب في المعنى، وكلها من ثمرات الحياء، ثم إنه ليس انتفاء الشيء عن الله تعالى مما يدل على صحة نسبته إليه كما ذهب إليه القاضي أبو بكر الطيب رحمه الله، بل الحق أن كل أمر مستحيل على الله تعالى يصح أن ينفى عنه، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة، ألا ترى إلى قوله تعالى: [لا تأخذه سنة ولا نوم] [لم يلد ولم يولد] [ما اتخذ الله من ولد] [وهو يطعم ولا يطعم] فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض، وهو الحق المبين.
[369]:- ضرب، يمكن أن تفسر بذكر أو بين، ويمكن أن تفسر بجعل، فالمعنى الأول يتعدى إلى واحد، والثاني إلى اثنين.
[370]:- قال أبو (ح): والذي نختاره من هذه الأعاريب: أن [ضرب] يتعدى إلى واحد، وذلك الواحد هو [مثلا]، لقوله تعالى: [ضرب مثل] ولأنه مقدم في التركيب، وصالح لأن ينتصب بيضرب، و[ما] صفة تزيد النكرة شيوعا، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس، و[بعوضة] بدل لأن عطف البيان، مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس اهـ.
[371]:- كانت العرب إذا أرادت الاستسقاء في السنة الآزمة جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء، لأن الله تعالى يرحمها بسبب ذلك بزعمهم. وقد قال أمية بن أبي الصلت الثقفي في ذلك: سنة ازمة تــــــخــــيل للــــنا س نرى للعـــضاة فـــيها صريرا لا على كوكب بنوء ولا ريـــــــــــــــــــح جنوب ولا ترى طخرورا ويسوقون باقر السهل للــــطــو د مـهــــازيل خشــية أن تــبــورا عاقدين النيران في هــلـب الأذ نـــاب مـــنها لكي تهـــيج بحورا سلع ما ومثـــــــله عــــشر مــا عـــائل ما وعالــت البـــيـــقورا ومعنى "عالت البيقورا" أن البقر عالت، وأن سنة الجدب أثقلتها بسبب ما حملته من الأشجار والنيران في هذه السنة – قال عيسى بن عمر: هذا البيت لا أدري ما معناه، ولا رأيت أحدا يعرفه.
[372]:- قيل: هذا البيت لكعب بن مالك، وقيل: لعبد الله بن رواحة. وقد أدخل الشاعر الباء على المفعول به، وهي لا تدخل إلا على الفاعل كقوله تعالى: [وكفى بالله حسيبا]، وغيرنا مرفوع على تقدير من هو غيرنا بحذف صدر الصلة على حد قوله تعالى: [على الذي أحسن] ومخفوض على أن من نكرة موصوفة أي على إنسان أو قوم غيرنا.
[373]:- يعني في قوله تعالى: [فلما أضاءت ما حوله].
[374]:- هو أبو دثار الكلبي كما في "كنايات الجرجاني"، وأبو دثار في البيت يعني به الظلة والكلة التي يُتَّقى بها، وقوله (بعضا) أي عضا ولسعا، يقال يقال: بعضه البعوض ببعضه بعضا: عضه وأذاهن ولا يقال في غير البعوض.
[375]:- المشهور: ما أنا بالذي قائل لك سوءا.
[376]:- (ماذا) تستعمل في العربية على أوجه، منها: أن (ماذا) برمتها استفهام، كقولك: لماذا جئت؟ -ومنها: أن (ما) استفهام و (ذا) موصول نحو (ماذا نفعل)؟ ومنها: غير ذلك. وهي في الآية الكريمة استفهام انكاري، وانظر لذا قول ابن مالك: ومثل ماذا بعد ما استفهام أو من إذا لم تُلغ في الكلام في تفسير الإمام (ط) رحمه الله ما نصه: "وتأويل قوله: [ماذا أرد الله بهذا مثلا] الذي أراد الله بهذا المثل مثلا فذا مع ما في معنى الذي وأراد صلته، وهذا إشارة إلى المثل". انتهى منه بلفظه. وما سلكه رحمه الله في هذه الآية. من جعل (ماذا) فيها اسما موصولا على جهة التركيب مسلك فاسد، لأنه يؤدي إلى أن المقول في الآية المذكورة ليس جملة ولا مفردا في معناها، والصواب كما في أبي (ح) وغيره أن [ماذا] كلها استفهام على جهة التركيب مفعول مقدم بأراد. ويجوز أن تكون [ما] وحدها استفهاما، و[ذا] موصولا بمعنى الذي خبره، وجملة (أراد) صلة، فمنصوب القول على الأول جملة (أراد الله بهذا مثلا) مع ضميمة المفعول المقدم- والمنصوب على الوجه الثاني جملة (ماذا أراد الله) الخ. هكذا قرره بعض الشيوخ.
[377]:- جملتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين، المصدرتين بأما، والكثرة والقلة نسبية، فأهل الهداية بالقياس إلى أهل الضلال قلة، وبالقياس إلى ذاتهم وحقيقتهم كثرة، وبهذا يجمع بين النصوص التي وصفتهم بالقلة في موضع، وبالكثرة في موضع آخر.
[378]:- هذا تخليط وإلباس، وذلك أن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار، أو من كلام الله، وأما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار، وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل فإنه يكون إلباسا في التركيب، وكلام الله أعلى من ذلك، قاله أبو (ح).
[379]:- هذا أشبه بنظم القرآن وأنسب، والمعنى: قل يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، يوفق به، ويخذل به.
[380]:- نفي لتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم، والهداية لقوم، أي هو هدى كما قال أولا للمتقين، لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن، كما هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه. وهو الذي أنزل من أجله.
[381]:- أي في الثلاثة- ويقال: هداه يهديه هدى وهديا وهداية، فهدى هو: أي أرشده فاسترشد. لازم ومتعد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } .

قد يبدو في بادىء النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلاً بشيء حقير أو غير حقير ، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال ، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين .

روى الواحدي في « أسباب النزول » عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } [ الحج : 73 ] وقوله : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله : { إن الله لا يستحي } الآية .

والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة بعد أن هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فيتلقون منهم صوراً من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد ناراً وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاق خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين .

فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة ، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلاً . وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة ، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود ، ولأنه الأوفق بقوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله } وهذه صفة اليهود ، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم{ رَاعنا } [ البقرة : 104 ] ، قال تعالى : { فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم } [ البقرة : 59 ] كما ورد تفسيره في « الصحيح » ولم يكن ذلك من شأن العرب .

وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثلِه في كلام بلغائهم كقولهم أَجرأُ من ذُبابة ، وأسْمَع من قُرادٍ ، وأطْيَشُ من فَراشة ، وأضعف من بَعُوضَة . وهذا الاحتمال أدَلُّ ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غُلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف ، والمكابرُ يقول ما لا يعتقد ، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح ، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب « الكشاف » وهو أوفق بالسياق .

والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يُلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين . وقد دل على هذا المعنى قوله بعده : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا } إلى قوله : { ويهدي به كثيراً } .

فإن قيل : لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زماناً .

قلنا : الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيآت ، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل ، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبناً فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا ، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه . فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] الآيات وقوله : { صم بكم عمي } [ البقرة : 18 ] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون .

والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقاً لا خصوص المركب من هيئة ، بخلاف قوله فيما سبق { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } لأن المعنىَّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله : { لن يخلقوا ذباباً } [ الحج : 73 ] وقوله : { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] .

وموقع ( إنّ ) هنا بيِّن .

وأما الإتيان بالمسند إليه علماً دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضاً إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل .

ولهذا أيضاً اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه ، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها ، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت .

فإن قلت : إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالُنا نرى كثيراً من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق :

من عِزّهم حجرَتْ كليبٌ بيتها *** زَرباً كأنهمُ لديهِ القُمَّل

وقول أبي الطيب :

أماتكمُ من قبل موتِكم الجهلُ *** وجركمُ من خفة بكمُ النمل

وقول الطرمّاح :

ولو أن بُرغوثاً على ظهر قملة *** يكرُّ على ضَبْعَيْ تميم لولَّت

قلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام ، ومن جانب صور المعاني ، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب ، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولاً عند قوم غير مقبول عند آخرين ، ومقبولاً في عصر مرفوضاً في غيره ، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان :

فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي *** وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عنك واسع

فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعُدَّ من الجفاء أو العجرفة ، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع :

عَذير الحي من عَدوَا *** نَ كانُوا حَيَّةَ الأرض

وقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني :

ماذا رُزِئْنا به من حيَّةٍ ذَكَرٍ *** نَضْنَاضَةٍ بالرزايا صِلّ أَصلاَلِ

وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليًّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله :

أنت كالكلب في وفائك بالعه *** د وكالتيْس في قراع الخطوب

وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله :

عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أَدري ولا أدري{[101]}

وقد انتقد بشارٌ على كُثيِّر قوله :

ألا إنما ليلى عصا خيزُرانة *** إذا لمسوها بالأكُف تلينُ

فقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا ، على أن بشاراً هو القائل :

إذا قامت لجارتها تثنت *** كأن عظامها من خيزران

وشبَّه بشار عبدة بالحيَّة في قوله :

وكأنها لما مشت *** أَيْمٌ تأود في كثيبْ

والاستحياء والحياء واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب ، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله ، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل .

والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفاً لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله ، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم .

والضرب في قوله : { أن يضرب مثلاً } مستعمل مجازاً في الوضع والجعل من قولهم ضربَ خيمة وضرب بيتاً قال عبدة بن الطبيب :

إنَّ التي ضربتْ بيتاً مُهاجِرَةً *** بكوفةِ الجُندِ غالت ودَّها غُولُ

وقول الفرزدق :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتابُ المُنْزَلُ

أي جعل شيئاً مثلاً أي شبهاً ، قال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] أي لا تجعلوا له مماثلاً من خلقه فانتصاب { مثلاً } على المفعول به . وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقاً من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب { مثلاً } على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلاً مرادف مصدر فعله على هذا التقدير ، والمعنى لا يستحي أن يشبِّه بشيء ما .

والمثل المثيل والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر وتنكير { مثلاً } للتنويع بقرينة بيانه بقوله { بعوضة فما فوقها } .

وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير ، نحو لأمر ما وأعطاه شيئاً ما . والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد . وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة .

و { بعوضة } بدل أو بيان من قوله : { مثلاً } . والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها ، وتعرف في لغة هذيل بالخموش ، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلاً لشدة الضعف والحقارة .

وقوله : { فما فوقها } عطف على { بعوضة } ، وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازماً للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً ويستعمل مجازاً في المتجاوز غيره في صفة تجاوزاً ظاهراً تشبيهاً بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه ، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال : فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع ، وتقول : أعطى فلان فوق حقه أي زائداً على حقه . وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجماً . ونظيره قول النبيء صلى الله عليه وسلم « ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » رواه مسلم ، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نَخْبة النملة كما جاءَ في حديث آخر ، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلاً موقع من بليغ الإيجاز .

والفاء عاطفة { ما فوقها } على { بعوضة } أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما ، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل { أن يضرب } ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائداً عليها درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص ، فاستعملت في مطلق الاتصال ، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه : « رحم الله المحلقين فالمقصرين » .

والمعنى أن يضرب البعوضة مثلاً فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار .

{ فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .

الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله : { لا يستحي } لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم ، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به ، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم . وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال .

و { أما } حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر . ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيت وكيت ، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط ، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاماً بعد كلامه الأول . وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء ، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة ، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيداً وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام ، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله : { فأما الذين آمنوا فيعلمون } الخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء .

وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر ، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك .

والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالباً ، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية .

وإنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز ، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان ، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسداً وعناداً .

وضمير { أنه } عائد إلى المثل .

و { الحق } ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته . و { من ربهم } حال من { الحق } و { من } ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ .

وأصل { ماذا } كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسمِ الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيراً إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا . غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركباً من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد ، نحو ماذا التواني ، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله } [ النساء : 39 ] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب . وقد يتوسعون فيها توسعاً أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسؤول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يُجرون عليه جملة أو نحوَها هي صلة ويجعلون ذا موصولاً نحو : { ماذا أنزل ربكم } [ النحل : 24 ] وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولاً مقدماً إذا وقع بعده فِعل . والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية ، ومثله لا يجاب بشيء غالباً لأنه غير مقصود به الاستعلام . وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى : { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] .

والإشارة بقوله : { بهذا } مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله : { أَهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] .

وانتصب قوله : { مثلاً } على التمييز من { هذا } لأنه مبهم فحقَّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم « رُبَّهُ رَجُلاً » .

{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين }

بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأَما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالاً فإنَّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هُدى ، وقولَ الكافرين { ماذا أراد الله } الخ ضلال ، والأظهر أن لا يكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً للاستفهام في قول الذين كفروا { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } لأن ذلك ليس استفهاماً حقيقياً كما تقدم .

ويجوز أن يجعل جواباً عن استفهامهم تخريجاً للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً لهم وردا عليهم وبياناً لحال المؤمنين ، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفاً من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي . وكونُ كلا الفريقين من المضلَّل والمهدى كثيراً في نفسه ، لا ينافي نحو قوله : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة ، أخصُّ في الاهتداء .

والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفِسق بكسر الفاء ، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة :

صِغار النوى مكنوزة ليس قِشْرُها *** إذا طار قِشْر التمر عنها بطائر

قالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر ، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين ، قال رؤبة يصف إبلاً :

فواسَقاً عن قَصْدهَا جوائراً *** يَهوين في نجد وغورٍ غائراً

والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر . وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غيرُ الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق ، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين .

وإسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعى فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده . وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجِبلة فيهم فهم مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] . فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خَلق أسبابه القريبة والبعيدةِ وإلا فإنَّ الله أمَر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام .

وقوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيراً في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب ، حتى يصير لها دربة .

وهذا الذي يؤذن به التعليق على الوصف المشتق إن كان المراد به هنا المعنى الاشتقاقي ، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني ، وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل ، وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة فلا يصدر إلا من اليهود وقد عرفوا بهذا الوصف .

والقول في مذاهب علماء الإسلام في الفسق وتأثيره في الإيمان ليس هذا مقام بيانه إذ ليس هو المقصود من الآية .

فإن كان محمل الفاسقين على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في قوله : { وما يضل به } الخ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل والمهتدى ، وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقياً ادعائياً أي يضل به كثيراً وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالاً هم الفاسقون ، ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم ، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال سواه .


[101]:- انظر صفحة 4 جزء 3 من محاضرات الأبرار لابن عربي طبع حجر بمطبعة شعراوي 1282 بالقاهرة.