{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا *وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر ، وصلاة الخوف ، يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : في السفر ، وظاهر الآية [ أنه ] يقتضي الترخص{[225]} في أي سفر كان ولو كان سفر معصية ، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وخالف في ذلك الجمهور ، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم ، فلم يجوزوا الترخص{[226]} في سفر المعصية ، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة ، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا ، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف .
وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } أي : لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك ، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل ، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس ، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية .
وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة ، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة ، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه .
ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران :
أحدهما : ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره .
والثاني : أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد ، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته .
وقوله : { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان :
إحداهما : أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود ، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ ، فإتيانه بقوله : { مِنَ الصَّلَاةِ } ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط ، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
الثانية : أن { من } تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها ، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين .
فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة ، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد ، وهو قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما ، السفر مع الخوف .
ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله : { أَنْ تَقْصُرُوا } قصر العدد فقط ؟ أو قصر العدد والصفة ؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول .
وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا ؟ أي : والله يقول : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أو كما قال .
فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها ، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد .
وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر ، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة ، وهي اجتماع السفر والخوف ، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده ، الذي هو مظنة المشقة .
وأما على الوجه الثاني ، وهو أن المراد بالقصر : قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه ، فإذا وجد السفر والخوف ، جاز قصر العدد ، وقصر الصفة ، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط ، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة . ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ }
وبعد أن حض - سبحانه - عباده على الهجرة فى سبيله أتبع ذلك ببيان جانب من مظاهر رحمته فى التيسير عليهم فيما شرعه لهم من عبادات ، حيث أباح لهم قصر الصلاة فى حالة السفر ، وعرفهم كيف يؤدونها فى حالة الجهاد والخوف من مباغتة العدو لهم فقال - تعالى - : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ . . . عَذَاباً مُّهِيناً } .
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ( 101 ) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 102 )
قوله { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } أى : إذا سافرتم ، وأطلق الضرب فى الأرض على السفر ؛ لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته على الأرض .
والمراد من الأرض : ما يشمل البر والبحر : أى إذا سافرتم - أيها المؤمنون - فى أى مكان يسافر فيه من بر أو بحر { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أى : حرج أو إثم فى { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } أى فى أن تنقصوا منها ما خففه الله عنكم رحمة بكم .
وقوله { تَقْصُرُواْ } من القصر وهو ضد المد . يقال قصرت الشئ أى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه .
ومن فى قوله { مِنَ الصلاة } يجوز أن يكون زائدة للتأكيد فيكون لفظ الصلاة مفعولا به لتقصروا . ويجوز أن تكون للتبعيض فيكون المفعول محذوفا . والجار والمجرور فى مضوع الصفة . أى : فليس عليكم جناح فى أن تقصروا شيئا من الصلاة .
وقوله { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } جملة شرطية وجوابها محذوف دل عليه ما قبله .
والمراد بالفتنة هنا : إنزال الأذى بالمؤمنين .
أى : إن خفتم أن يتعرض لكم المشركون بما تكرهونه من القتال أو غيره حين سفركم فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .
وقوله { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } تعليل لتأكيد أخ الحذر من الكفر دائما ، لأن عداوتهم للؤمنين ظارهة ، وكراهتهم لهم شديدة .
أى : إن الكافرين كانوا وما زالوا بالنسبة لكم - أيها المؤمنون - يظهورن العداوة ، وما تخفيه صدروهم لكم من أحقاد وكراهية أشد وأكبر .
وقد أكد - سبحانه - هذه العداوة بإن الدالة على التوكيد ، وبكان المفيدة للدوام والاستمرار ، وبوصف هذه العداوة بالسفور والظهور ، لكى يحترس المسلمون منهم أشد الاحتراس .
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
1- أن قصر الصلاة فى السفسر سنة . ومنهم من يرى أن المصلى مخير فيه كما يخير فى الكفارات . ومنهم من يرى أنه فرض .
قال القرطبى ما ملخصه : واختلف العلماء فى حكم القصر فى السفر ؛ فروى عن جماعة أنه فرض وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين . واحتجوا بحديث عائشة " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين " ولا حجة فيه لمخالفتها له ؛ فإنها كانت تتم فى السفر وذلك يوهنه . .
وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض . ومشهور مذهبه وجل أصحابه ، وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة . وهو الصحيح .
ومذهب عامة البغداديين من المالكين أن الفرض التخيير . ثم اختلفوا فى أيهما أفضل ، فقال بعضهم : القصر أفضل . . وقيل : الإِتمام أفضل .
أما بالنسبة لمسافة السفر التى يجوز معها قصر الصلاة للعماء فيها أقوال منها : أن السفر الذى يسوغ القصر هو ما كان مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بالسير المعتاد .
وهذا رأى الأحناف . ومن حججهم قوله صلى الله عليه وسلم : " يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام بلياليها " وأيضا ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم ، فدل هذا على أن ما دون الثلاث لا يعد سفرا ، بل هو فى حكم الإِقامة ، حيث جعل الثلاث فاصلا بين الخروج بدون محرم وعدمه . وأيضا فقد جرى عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا بسير نحو ثلاثة أيام .
أما المالكية والشافعية وأكثر الأئمة فيرون أن السفر الذى تقصر فيه الصلاة هو ما كان مسيرة يوم وليلة وقيل يوم فقط ، وذلك لما رواه ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يا أهل مكة لا تقصروا فى أدنى من أربعة برد . من مكة إلى عسفان " ، وقد قدرت هذه المسافة بمسيرة يوم وليلة أو يوم فقط .
ويرى داود الظاهرى وأتباعه أن القصر فى كل ما يسمى سفرا ، سواء أكان قصيرا أم طويلا ؛ لأن المدار عندهم فى تحقيق القصر على تحقيق شرطه وهو الضرب فى الأرض ، ولأن كلمة الضرب فى الأرض قد جاءت على إطلاقها من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة .
وقد رد جمهور العلماء عليهم بردود منها : أن الضرب فى الأرض حقيقته الانتقال من كان إلى مكان . وظاهر أن مجرد الانتقال من مكان إلى آخر لا يكون سببا فى الرخصة ، فلا بد أن يكون السفر المرخص فيه بالقصر سفرا مخصوصا ، وقد بينت السنة النبوية الشريعة مقداره على خلاف فى الروايات .
هذا ، وقد حكى القرطبى أقوال بعض العلماء فى نقد أولئك الذين يأخذون الأمور بظاهرها بدون فهم سليم فقال :
قال ابن العربى : وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره أكل وقصر وقائل هذا أعجمى لا يعرف السفر عند العرب ، أو مستخف بالدين . ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عينى ، ولا أفكر فيه بفضول قلبى . ولم يذكر حد السفر الذى يقع به القصر لا فى القرآن ولا فى السنة . وإنما كان كذلك ، لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله بالقرآن ؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لا لغة ولا شرعا . وإن من مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه يكون مسافرا قطعا . كما أننا نحكم على من مشى يوما وليلة أنه كان مسافرا ، لحديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذى محرم منها " وهذا هو الصحيح لأنه وسط بين الحالين . وعليه عول مالك . ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه ، فقد روى مرة " يوما وليلة " ومرة " ثلاثة أيام " .
ثم قال القرطبى : واختلفوا فى نوع السفر الذى تقصر فيه الصلاة . فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم . . واختلفوا فيما سوى ذلك . فالجمهور على جواز القصر فى السفر المباح كالتجارة وغيرها . وعلى أنه لا قصر فى سفر المصعية كالباغى وقاطع الطريق وما فى معناهما .
ثم قال : واختلف العلماء فى مدة الإِقامة التى إذا نواها المسافر أتم . فقال مالك والشافعى والليث بن سعد : إذا نوى الإِقامة أربعة أيام أتم .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا نوى الإِقامة خمس عشرة ليلة أتم ، وإن كان أقل من ذلك قصر .
2- ذهب جمهور العلماء إلى أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر ، وأن المراد بالقصر فى قوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } هو القصر فى الكمية أى فى عدد الركعات ، بأن يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين ، وأن حكمها للمسافر فى حال الأمن كحكمها فى حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا .
وقد وضح هذه المسألة الإمام ابن كثير توضيحا حسنا فقال ما ملخصه : وقوله - تعالى - { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } الشرط فيه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية . إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة فى مبدئها مخوفة . بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب للإِسلام وأهله . والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له . كقوله - تعالى - { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } وقوله - تعالى - { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ } ومما يشهد بأن للمسافر أن يقصر سواء أكان آمنا أم خائفا ما رواه الترمذى والنسائى عن ابن عباس . أن النبى صلى الله عليه وسلم : خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الهل رب العالمين فصلى ركعتين .
وروى البخارى عن حارثة بن وهب الخزاعى قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين .
وروى البخارى عن أنس قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة . فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة .
وروى مسلم وأحمد وأهل السنن " عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب . قلت له : قوله - تعالى - : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } . وقد أمن الناس . فقال لى عمر : عجبت مما عجبت منه . فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " " .
وروى أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان ، فقلت له : أين قوله ، { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى من هذه النصوص أنها تدل على أن الآية الكريمة مسوق فى تشريع صلاة السفر سواء أكان المسافر آمنا أم خائفا ، وأن قوله - تعالى - { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } المراد من القصر هنا قصر عدد الركعات من أربع إلى اثنين كما كان يفعل النبى صلى الله عليه وسلم فى أسفاره ، وأن القصر للصلاة فى السفر بالنظر لما كنت عليه فى الحضر .
قالوا : ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصا فى عرفهم بنقص عدد الركعات ، ما رواه البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " انصرف من اثنتين - أى صلى الصلاة الربعاية ركعتين عن سهو - فقال له ذواليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله " ؟ . . . هذا ؛ ويرى بعض العلماء أن هذه الآية نزلت فى صلاة الخوف ، وأن المصود بالقصر هنا هو قصر الكيفية لا الكمية - أى تخفيف ما اشتملت عليه من قراءة وتسبيح وغير ذلك - لأنهم يرون أن كمية صلاة المسافر ركعتان فهى تام غير قصر .
قال ابن كثير ما ملخصه : ومن العلماء من قال : إن المراد من القصر ها هنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدى واعتقدوا بما رواه الإِمام مالك عن عائشة أنها قالت فرضت الصلاة بكعتين فى السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد فى صلاة الحضر .
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة فى السفر حتى اثنتين فيكف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية . لأن ما هو الأصل لا يقال فيه { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } . وروى الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن عمر - رضى الله عنه - قال : صلاة السفر ركعتان ؛ وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم " .
وقال القرطبى : وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هى مبيحة للقصر فى السفر للخائف من العدو فمن كان آمنا فلا قصر له . روى عن عائشة أنها كنت تقول فى السفر : أتموا صلاتكم . فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر . فقالت : إنه كان فى حرب وكان يخاف وهل أنتم تخافون ؟ . . .
وذهب جماعة إلى أن الله - تعالى - لم يبح القصر فى كتابه إلا بشرطين : السفر والخوف وفى غير الخوف بالسنة .
ويبدو لنا أن الأولى ما ذهب إليه جمهور العلماء من الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر ؛ وأن المراد بالقصر فيها قصر كمية الصلاة بحيث يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين تخفيفا من الله - تعالى - عليه ، سواء أكان فى حالة أمن أم حالة خوف ، لأن النصوص التى ساقها الجمهور لتأييد رأيهم صريحة فى صحة ما ذهبوا إليه ، ولأن القصر فى اللغة منعناه أن تقتصر من الشئ على بعضه ، وهذا أظهر ما يكون فى قصر الركعات على اثنين بدل أربع ، تقتصر من الشئ على بعضه ، وهذا أظهر ما يكون فى قصر الركعات على اثنين بدل أربع ، أما القصر فى الصفة أو الكيفية فهو تغيير فى الصلاة لا إتيان بالبعض ، إذ هو إحلال للإِيماء محل الركوع والسجود - مثلا - .
وأيضا فإن { مِنَ } فى قوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } تكون أظهر من الاقتصار على بعض الركعات عند من يجعل هذا الحرف للتبعيض .
ومن أراد مزيد بيان لتلك المسائل فليرجع إلى أمهات كتب الفقه والتفسير .
... فكان بينا في كتاب الله تعالى أن قصر الصلاة في الضرب في الأرض والخوف تخفيف من الله عز وجل عن خلقه، لا أن فرضا عليهم أن يقصروا،... أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي عمار، عن عبد الله بن باباه، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله عز وجل: {أن تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلَوَاةِ إِنْ خِفْتُمُ أَنْ يَّفْتِنَكُمُ اَلذِينَ كَفَرُواْ}. فقد أمن الناس؟! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»...
التقصير لمن خرج غازيا خائفا، في كتاب الله عز وجل... وقال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ اِلْوُسْطى} إلى {رُكْبَانًا} فدل إرخاصه في أن يصلوا رجالا وركبانا على أن الحال التي أذن لهم فيها بأن يصلوا رجالا وركبانا من الخوف، غير الحال الأولى التي أمرهم فيها أن يحرس بعضهم بعضا. فعلمنا أن الخوفين مختلفان، وأن الخوف الآخر الذي أذن لهم فيه أن يصلوا رجالا وركبانا، لا يكون إلا أشد من الخوف الأول...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}: وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ}: فليس عليكم حرج ولا إثم، {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ}: أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا، اثنتين، في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلّ عددها في حال ضربكم في الأرض، أشار إلى واحدة في قول آخرين.
وقال آخرون: معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون، حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له.
ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال: {إنّ الكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا} يعني: الجاحدون وحدانية الله كانوا لكم عدوّا مبينا، يقول: عدوّا قد أبانوا لكم عداوتهم، بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.
واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله، فقال بعضهم: في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين... حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا يوسف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن عليّ، قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنّا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحَوْل، غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم! فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إنْ خفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إنّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}... إلى قوله: {إنّ اللّهَ أعَدّ للكافِرينَ عَذَابا مُهِينا} فنزلت صلاة الخوف.
وهذا تأويل للآية حسن لو لم يكن في الكلام «إذا»، وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها، ولو لم يكن في الكلام «إذا» كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق: إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم يا محمد، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، الآية. وبعد، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ بن كعب: «وإذا ضَرَبْتُم في الأرض فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصّلاة أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا».
وهذه القراءة تنبئ على أن قوله: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} مواصل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، وأن قوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ} قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية. وذلك أن تأويل قراءة أبيّ هذه التي ذكرناها عنه: «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا»، فحذفت «لا» لدلالة الكلام عليها، كما قال جلّ ثناؤه: {يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا} بمعنى: أن لا تضلوا. ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق.
وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جلّ ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوّ يخشى أن يفتنه في صلاته. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، أنه قال لعبد الله بن عمر: إنّا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به.
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية: قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة، قالوا: وفيها نزل. عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} قال: يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنَان، فتواقفوا، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا، شكّ أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا. فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فصلى العصر، فصفّ أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعا، ثم سجد الأوّلون سجدة والاَخرون قيام، ثم سجد الاَخرون حين قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فتقدم الصفّ الاَخر، واستأخر الأوّل، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أوّل مرّة وقصر العصر إلى ركعتين، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم.
وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف، إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الإقامة. قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان تمام غير قصر، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة، قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمام في السفر، ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف ركعة. عن السديّ: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا}... إلى قوله: {عَدُوّا مُبِينا} إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام، والتقصير لا يحلّ إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة، يقوم الإمام، ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدوّ، فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القهقرى، ثم تأتى الطائفة الأخرى، فتصلى مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الاَخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة، والناس يقولون: لا، بل هي ركعة واحدة، لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا، تجزئه ركعة الإمام، فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة، فذلك قول الله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}... إلى قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}.
عن جابر بن عبد الله، قال: صلاة الخوف ركعة.
وقال آخرون: عَنى به القَصْر في السفَر، إلا أنه عنى به القصْر في شدّة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا}. عن ابن عباس: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}... الآية، قصر الصلاة إن لقيت العدوّ وقد حانت الصلاة أن تكبر الله وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا.
وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: عَنَى بالقْصر فيها القصر من حدودها، وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا، وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْانا} وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} لدلالة قول الله تعالى: {فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} على أن ذلك كذلك¹ لأن إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف.
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك أمر من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين، فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الأمة مجمعة من أن المسافر لا يستحقّ أن يقال له: إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوّه أن يفتنه، أن يقيم صلاته إذا اطمأنّ وزال الخوف، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف، وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها على ما بينا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
القَصْرُ في الصلاة سُنَّةٌ في السفر، وكان في ابتداء الشرع عند الخوف، فأقرَّ ذلك مع زوال الخوف رفقاً بالعباد، فلما دخل الفرضَ القَصرُ لأجل السفر عوضوا بإباحة النَّفل في السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال، فكذلك الماشي؛ ليُعْلَم أنَّ الإذنَ في المناجاة مستديمٌ في كل وقت؛ فإن أردْتَ الدخول فمتى شئت، وإن أردت التباعد مترخصاً فلك ما شئت، وهذا غاية الكرم، وحفظ سُنَّة الوفاء، وتحقق معنى الولاء...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا} الآية نزلت في إباحة قصر الصلاة في السفر وظاهر القرآن يدل على أن القصر يستباح بالسفر والخوف لقوله {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} أي يقتلكم، والإجماع منعقد على أن القصر يجوز في السفر من غير خوف وثبتت السنة بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ذكر الخوف في الآية على حال غالب أسفارهم في ذلك الوقت...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فما تصنع بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ}؟ قلت: كأنهم ألفوا الإتمام، فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ}:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ قَصْرُ عَدَدٍ، وَهُمُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا قَصْرُ الْحُدُودِ وَتَغْيِيرُ الْهَيْئَاتِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْقَصْرَ فِي الْعَدَدِ قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى اثْنَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَقْصُرُ مِنِ اثْنَيْنِ إلَى وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ فَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا حَالَةَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِهَا إلَى ثِنْتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ.
وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ إلَى وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً. وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إنْ خِفْتُمْ}: فَشَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَوْفَ فِي الْقَصْرِ...
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَصْرَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ -بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ- عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَتَمَّ بِمِنى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أوجب السفر للجهاد والهجرة، و كان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى: {وإذا ضربتم} أي بالسفر {في الأرض} أيّ سفر كان لغير معصية. ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله: {فليس عليكم جناح} أي إثم وميل في {أن تقصروا} ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {من الصلاة} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء... ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال: {إن الكافرين} أي الراسخين منهم في الكفر {كانوا} أي جبلة وطبعاً. ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: {لكم} دون عليكم {عدواً} ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال: {مبيناً} أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
السياق في أحكام الجهاد في سبيل الله وجاء فيه حكم الهجرة. والصلاة فرض لازم في كل حال لا يسقط في وقت القتال ولا في أثناء الهجرة ولا غير الهجرة من أيام السفر، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في السفر وحال الحرب إقامتها فرادى وجماعة كما أمر الله تعالى أن تقام في صورتها ومعناها، فناسب في هذا المقام أن يبين الله تعالى ما يريد أن يرخص لعباده فيه من القصر من الصلاة في هاتين الحالتين فقال: {وإذا ضربتم في الأرض}... وقال ههنا ضربتم في الأرض ولم يقل: {ضربتم في سبيل الله} كما قال في الآية (93) من هذه السورة الواردة في حكم إلقاء السلام في الحرب لأن هذه أعم فهي رخصة لكل مسافر ولو لم يكن سفره في سبيل الله للدفاع عن الحق وإقامة الدين بأن كان للتجارة أو لمجرد السياحة مثلا، وإذا كان السفر في سبيل الله فالمسافر أحق بالرخصة وهي له أولا وبالذات بقرينة السياق وما جاء في الآية التي بعد هذه {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} أي فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة دين الله وهو الحنيفية السمحة في القصر من الصلاة. والجناح فسر بالإثم وبالتضييق وبالميل عن الاستواء قيل هو من جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها قاله الراغب وهو الذي فسر جنوح السفينة بما ذكر، وفسره غيره بأنه عبارة عن بلوغها أرضا رقيقة تغرز فيها ويمتنع جريها، وهذا المعنى يناسب الجناح أيضا على أن الجنوح معناه الميل وهو من الجنح بالكسر بمعنى الجانب. ومن فسر الجناح بالتضييق أخذه من قولهم جنح البعير (بصيغة المجهول) إذا انكسرت جوانحه (أضلاعه) لثقل حمله، وتفسيره بالإثم مأخوذ من هذا أيضا وهو مجاز. والقصر (بالفتح) (كعنب) ضد الطول وقصرت الشيء جعلته قصيرا...
فقوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة، والفتنة الإيذاء بالقتل أو غيره كما صرح به بعضهم وأصله الاختبار بالمكروه والأذى كما تقدم من قبل...
{إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} تعليل لتوقع الفتنة من الذين كفروا أي كان شأنهم أنهم أعداء مظهرون للعداوة بالقتال والعدوان...
والقصر المذكور في الآية الأولى هنا ليس هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين بشروطه في كتب الفقه فذلك مأخوذ من السنة المتواترة، وأما ها هنا فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة وغيرهم من السلف، والشرط فيها على ظاهره، والقول بأنه لبيان الواقع فلا مفهوم له لغوٌ من القول لا يجوز أن يقال في أعلى الكلام وأبلغه، فهذا القصر المذكور في الآية الأولى هو المبين في الآية التي بعدها،... والآية التي نحن بصدد تفسيرها في القصر من عدد الركعات بأن تصلي طائفة مع الإمام ركعة واحدة فإذا أتمتها جاءت طائفة أخرى وهي التي كانت تحرس الأولى فصلت معه الركعة الثانية، وليس في الآية أن واحدة من الطائفتين تتم الصلاة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه...
ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران:
أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره.
والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته...
وقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان: إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: {مِنَ الصَّلَاةِ} ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الثانية: أن {من} تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين...
فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف...
ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا} قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول. وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" أو كما قال. فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد. وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة...
وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة. ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يخلص لنا مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني... وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة -في كل ميادينها- وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله. بعد ذلك يستطرد الى رخصة، يبيحها الله للمهاجرين، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة. في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى. فيفتنوهم عن دينهم. وهي رخصة القصر من الصلاة -وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف- فهذا قصر خاص...
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه، تعينه على ما هو فيه، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه، وما هو مرصود له في الطريق.. والصلاة أقرب الصلات إلى الله. وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات. فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم: (واستعينوا بالصبر والصلاة).. ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار. فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله. وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله.. غير أن الصلاة الكاملة -وما فيها من قيام وركوع وسجود- قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب. أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه. أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه.. ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة...
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنه، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة، ويأخذ حذره من عدوه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وينتقل كتاب الله من الحث على الهجرة وتبيين فوائدها وفضائلها إلى تبيين الكيفية التي يؤدي بها المسلمون صلواتهم عندما يكونون مشتبكين في حالة حرب مع أعدائهم، حيث إن الإسلام لا يعفيهم من الصلاة ولو في هذه الحالة، نظرا إلى أن الصلاة عماد الدين وعموده الفقري، لا غنى عنها في حضر أو سفر، ولا في صحة أو مرض، ولا في حال أمن أو خوف، وأرشدهم الحق سبحانه وتعالى إلى نوع التخفيف الذي خففه عنهم بالنسبة للحالة التي يخشون فيها فتنة العدو وهم في مواجهته، وذلك بالإذن لهم في قصر الصلاة، والاقتصار فيها على ركعة واحدة أو ركعتين اثنتين، على أن يقسموا أنفسهم بالتناوب إلى طائفتين: طائفة تقوم بالصلاة، وأخرى بالحراسة، فتصطف الطائفة الأولى وراء الإمام وتصلي معه ركعة واحدة، ثم تتم ركعتها الثانية وحدها وتسلم، في الوقت الذي تكون فيه الطائفة الثانية قائمة بحراستها من مفاجآت العدو لها أثناء الصلاة. وعند انتهاء الطائفة الأولى من صلاتها تبادر فتأخذ مراكز الطائفة الأخرى التي حرستها من قبل وتحل محلها في الحراسة، وتأتي الطائفة الثانية لتلتحق بدورها في الصلاة وراء الإمام، الذي يثبت قائما في انتظارها بركعته الثانية، فتأتم به فيها، ثم تضيف إلى الركعة التي أدركتها معه ركعة أخرى وحدها تتم بها ركعتين وتسلم، وفي الحين تعود إلى مراكزها في صف القتال. وهكذا يحافظ المؤمنون على صلواتهم التي هي صلتهم بالله في كل الظروف، يستمدون عن طريقها المدد الإلهي والعون الروحي لمواجهة مسؤولياتهم بقلب ثابت، وعزم صادق، ويقين في الله لا يداخله أدنى شك أو وهن،... ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد ما قرره الشارع في كيفية هذه الصلاة من الجمع بين مقتضيات العبادة ومقتضيات الدفاع على أكمل وجه من التوفيق والتنسيق، فأعطى لواجب العبادة حقه من جهة، وأعطى لضرورة الدفاع حقها من جهة أخرى، وهكذا لم يكتف الإسلام من جنوده بالعبادة وحدها مع التفريط في مقتضيات الدفاع والتعرض للخطر، كما لم يكتف منهم بالواجب العسكري وحده والتحرز من العدو، مع نسيان الله وإهمال الصلاة. وتلك هي خطة الإسلام المرسومة دائما في مختلف مجالات الحياة، بالنسبة للجوانب الروحية والجوانب المادية، لا يضحي بجانب منها في سبيل الجانب الآخر، وإنما يعمل على إعطاء كل جانب من الجانبين حظه من العناية والاهتمام، ويسعى للتوفيق بينهما حفظا للتوازن وحرصا على الانسجام...
وطبقا لما هو متعارف في تشريع الكتاب والسنة من تنبيه الشارع إلى حكمة التشريع في عدة مناسبات جاء التعقيب على الكيفية التي شرعها الله لصلاة المسلمين وهم في مواجهة العدو، بما يبين السر فيها وفي تقسيمهم إلى طائفتين: طائفة تصلي وطائفة تحرس المصلين، ألا وهو اتخاذ الاحتياط والتزام الحذر، إزاء مباغتات العدو وهجومه المنتظر، وذلك قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً}...
ثم رخص الله سبحانه وتعالى لجنود الإسلام أن يضعوا أسلحتهم لعذر المرض والمطر، لكن مع ترك الاستسلام ووجوب الاحتياط وأخذ الحذر، وذلك قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)}...
شرع سبحانه صلاة مخصوصة اسمها "صلاة الحرب وصلاة الخوف "حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة ففي الحرب يكون من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه. كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات...