{ 21 } { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }
أي : أم حسب المسيئون المكثرون من الذنوب المقصرون في حقوق ربهم { أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بحقوق ربهم ، واجتنبوا مساخطه ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم ؟ أي : أحسبوا أن يكونوا { سَوَاءً } في الدنيا والآخرة ؟ ساء ما ظنوا وحسبوا وساء ما حكموا به ، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين ، ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة ، ويضاد ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرسل ، بل الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب في العاجل والآجل كل على قدر إحسانه ، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة .
ثم فرقت السورة الكريمة بين حال الذين يجترحون السيئات ، وحال الذين يعملون الصالحات ، وحكت جانبا من أقوال المشركين ، وردت عليهم بما يبطلها ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا . . . أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
و { أَمْ } في قوله - تعالى - : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } منقطعة ، وتقدر ببل والهمزة ، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني ، والهمزة لإِنكار الحسبان .
والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي . ويقال : فلان جارحة أهله ، أي : هو الذي يكتسب لهم أرزاقهم .
وحسب : فعل ماض ، والذين فاعله ، وجملة { أَن نَّجْعَلَهُمْ } ساد مسد المفعولين .
والمعنى : بل أحسب الذين اكتسبوا ما يسوء من الكفر والمعاصي ، أن نجعلهم متساوين مع الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات في دار الدنيا أو في الدار الآخرة ؟
كلا ! ! لا يستوون فيهما ، فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يحيون في الدنيا حياة طيبة لا مكان فيها للهموم والأحقاد والإِحن ببركة إيمانهم ، وفي الآخرة ينالون رضا الله - تعالى - وحسن ثوابه .
أما الذين اجترحوا السيئات فهم في شقاء في الدنيا وفي الآخرة .
قال الشوكاني قرأ الجمهور { سواء } بالرفع على أنه خبر مقدم . والمبتدأ محياهم ومماتهم . والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص { سواء } بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله : { كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أو على أنه معفول ثان لحسب .
وقوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس حكما حكمهم الذي زعموا فيها تسويتنا بين الذين اجترحوا السيئات ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة ، توبيخهم على أحكامهم الباطلة ، وأفكارهم الفاسدة .
قال الآلوسي : قوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء حكمهم هذا ، وهو الحكم بالتساوي ، فما مصدرية ، والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود .
ويجوز أن يكون لإِنشاء ذمهم على أن { سَآءَ } بمعنى بئس ، فتكون كلمة { مَا } نكرة موصوفة ، وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس شيئا حكموا به ذلك .
ويعقب على الحديث عن ولاية الظالمين بعضهم لبعض وولاية الله للمتقين ؛ وعن طبيعة هذا القرآن بالقياس إلى المتقين ، وأنه بصائر وهدى ورحمة لأهل اليقين . يعقب على هذا الحديث بالتفرقة الحاسمة بين حال الذين يجترحون السيئات وحال الذين يعملون الصالحات وهم مؤمنون . ويستنكر أن يسوى بينهم في الحكم ، وهم مختلفون في ميزان الله . والله قد أقام السماوات والأرض على أساس الحق والعدل ؛ والحق أصيل في تصميم هذا الكون .
( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات . سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) . .
ويجوز أن يكون الحديث هنا عن أهل الكتاب ، الذين انحرفوا عن كتابهم ، واجترحوا السيئات ، وظلوا يحسبون أنفسهم في صفوف المؤمنين ، ويجعلون أنفسهم أكفاء للمسلمين الذين يعملون الصالحات ، أنداداً لهم في تقدير الله سواء في الحياة أو بعد الممات . أي عند الحساب والجزاء . . كما يجوز أن يكون حديثاً عاماً بقصد بيان قيم العباد في ميزان الله . ورجحان كفة المؤمنين أصحاب العمل الصالح ؛ واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات ، سواء في الحياة أو في الممات . ومخالفة هذا للقاعدة الثابتة الأصيلة في بناء الوجود كله . قاعدة الحق . الذي يتمثل في بناء الكون ، كما يتمثل في شريعة الله . والذي يقوم به الكون كما تقوم به حياة الناس . والذي يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين في جميع الأحوال ؛ وفي مجازاة كل نفس بما كسبت من هدى أو ضلال ؛ وفي تحقيق العدل للناس أجمعين : ( وهم لا يظلمون ) . .
ومعنى أصالة الحق في بناء الكون ، وارتباطه بشريعة الله للبشر ، وحكمه عليهم يوم الحساب والجزاء ، معنى يتكرر في القرآن الكريم ، لأنه أصل من أصول هذه العقيدة ، تجتمع عليه مسائلها المتفرقة ، وترجع إليه في الأنفس والآفاق ، وفي ناموس الكون وشريعة البشر . وهو أساس " فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان "
يقول تعالى : لا يستوي المؤمنون والكافرون ، كما قال : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] وقال هاهنا : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أي : عملوها وكسبوها { أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } أي : نساويهم بهم في الدنيا والآخرة ! { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نُسَاوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة ، وفي هذه الدار .
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مُؤمَّل بن إهابَ ، حدثنا بُكَير{[26319]} بن عثمان التَّنُوخِي ، حدثنا الوَضِين بن عطاء ، عن يزيد بن مَرْثَد الباجي{[26320]} ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : إن الله بنى دينه على أربعة أركان ، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله [ وهو ]{[26321]} من الفاسقين . قيل : وما هن يا أبا ذر ؟ قال : يسلم حلال الله لله ، وحرام الله لله ، وأمر الله لله ، ونهي الله لله ، لا يؤتمن عليهن إلا الله .
قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " كما أنه لا يجتنى من الشوك{[26322]} العنب ، كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار " {[26323]} .
هذا حديث غريب من هذا الوجه . وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب " السيرة " أنهم وجدوا حجرا بمكة في أسِّ الكعبة مكتوب {[26324]} عليه : تعملون السيئات وترجون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب{[26325]} .
وقد روى الطبراني من حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق{[26326]} ، أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ؛ ولهذا قال تعالى : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }
وقوله : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئاتِ ، يقول تعالى ذكره : أم ظنّ الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا ، وكذّبوا رسل الله ، وخالفوا أمر ربهم ، وعبدوا غيره ، أن نجعلهم في الاخرة ، كالذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله وعملوا الصالحات ، فأطاعوا الله ، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والالهة ، كلا ما كان الله ليفعل ذلك ، لقد ميز بين الفريقين ، فجعل حزب الإيمان في الجنة ، وحزب الكفر في السعير . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئاتِ . . . الاية ، لعمري لقد تفرّق القوم في الدنيا ، وتفرّقوا عند الموت ، فتباينوا في المصير .
وقوله : سَوَاءً مَحْياهُم وَمَماتُهُمْ ، اختلفت القرّاء في قراءة قوله : سَوَاءً ، فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة «سَوَاءٌ » بالرفع ، على أن الخبر متناهٍ عندهم عند قوله : كالّذِينَ آمَنُوا وجعلوا خبر قوله : أنْ نَجْعَلَهُمْ قوله : كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، ثم ابتدأوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته ، ومحيا الكافر ومماته ، فرفعوا قوله : «سَوَاءٌ » على وجه الابتداء بهذا المعنى ، وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ » قال : المؤمن في الدنيا والاخرة مؤمن ، والكافر في الدنيا والاخرة كافر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا حسين ، عن شيبان ، عن ليث ، في قوله : «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمماتُهُمْ » قال : بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا ، والكافر كافرا حيا وميتا .
وقد يحتمل الكلام إذا قُرىء سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن مجاهد وليث ، وهو أن يوجه إلى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت ، بمعنى : أنهم لا يستوون ، ثم يرفع سواء على هذا المعنى ، إذ كان لا ينصرف ، كما يقال : مررت برجل خير منك أبوه ، وحسبك أخوه ، فرفع حسبك ، وخير إذ كانا في مذهب الأسماء ، ولو وقع موقعهما فعل في لفظ اسم لم يكن إلا نصبا ، فكذلك قوله : «سواءٌ » . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة سَوَاءً نصبا ، بمعنى : أحسبوا أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : سَوَاء ورفعه ، فقال بعض نحويّي البصرة «سَوَاءٌ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ » رفع . وقال بعضهم : إن المحيا والممات للكفار كله ، قال : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرحُوا السّيّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ ، ثم قال : سواء محيا الكفار ومماتهم : أي محياهم محيا سَوَاء ، ومماتهم ممات سَوَاء ، فرفع السواء على الابتداء . قال : ومن فسّر المحيا والممات للكفار والمؤمنين ، فقد يجوز في هذا المعنى نصب السواء ورفعه ، لأن من جعل السواء مستويا ، فينبغي له في القياس أن يُجريه على ما قبله ، لأنه صفة ، ومن جعله الاستواء ، فينبغي له أن يرفعه لأنه اسم ، إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل ، وينصب السواء على الاستواء ، وإن شاء رفع السواء إذا كان في معنى مستوٍ ، كما تقول : مررت برجل خير منك أبوه ، لأنه صفة لا يصرف والرفع أجود . وقال بعض نحويّي الكوفة قوله : سَوَاءً مَحْياهُمْ بنصب سواء وبرفعه ، والمحيا والممات في موضع رفع بمنزلة ، قوله : رأيت القوم سواءً صغارهم وكبارهم بنصب سواء ؛ لأنه يجعله فعلاً لما عاد على الناس من ذكرهم ، قال : وربما جعلت العرب سواء في مذهب اسم بمنزلة حسبك ، فيقولون : رأيت قومك سواء صغارهم وكبارهم . فيكون كقولك : مررت برجل حسبك أبوه ، قال : ولو جعلت مكان سواء مستوٍ لم يرفع ، ولكن نجعله متبعا لما قبله ، مخالفا لسواء ، لأن مستوٍ من صفة القوم ، ولأن سواء كالمصدر ، والمصدر اسم . قال : ولو نصبت المحيا والممات كان وجها ، يريد أن نجعلهم سواء في محياهم ومماتهم .
وقال آخرون منهم : المعنى : أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة ، ولا الممات ، على أنه وقع موقع الخبر ، فكان خبرا لجعلنا ، قال : والنصب للأخبار كما تقول : جعلت إخوتك سواءً ، صغيرهم وكبيرهم ، ويجوز أن يرفع ، لأن سواء لا ينصرف . وقال : من قال : أمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرحُوا السّيّئات أنْ نَجْعَلهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، فجعل كالذين الخبر استأنف بسواء ورفع ما بعدها ، وإن نصب المحيا والممات نصب سواء لا غير ، وقد تقدّم بياننا الصواب من القول في ذلك .
وقوله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، يقول تعالى ذكره : بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم .
انتقال من وصف تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها ثم من أمر المؤمنين بالصفح عنهم وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله ثم من التثبيت على ملازمة الشريعة الإسلامية إلى وصف صنف آخر من ضلالهم واستهزائهم بالوعد والوعيد وإحالتهم الحياة بعد الموت والجزاءَ على الأعمال وتخييلهم للناس أنهم يصيرون في الآخرة ، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا ، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الآخرة ، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة ، وهذا الانتقال رجوع إلى بيان قوله : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربّكم ترجعون } [ الجاثية : 15 ] .
فحرف { أم } للإضراب الانتقالي ، والاستفهام الذي يلزم تقديره بعد { أمْ } استفهام إنكاري ، والتقدير : لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا لا في الحياة وفي في الممات . و { الذين اجترحوا السيئات } في نقل عن ابن عباس : أنهم المشركون كما يؤذن به الانتقال من الغرض السابق إلى هذا الغرض وإنما عبر عنهم بهذا العنوان لما في الصلة من تعليل إنكار المشابهة والمساواة بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله في عالم الخلد ولأن اكتساب السيئات من شعار أهل الشرك إذ ليس لهم دين وازع يزعهم عن السيئات ولا هم مؤمنون بالبعث والجزاء ، فيكون إيمانهم به مرغباً في الجزاء ، ولذلك كثُر في القرآن الكناية عن المشركين بالتلبس بالسيئات كقوله : { ويلٌ للمطففين } إلى قوله : { ألاَ يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } [ المطففين : 1 5 ] وكقوله : { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين } [ المدثر : 42 46 ] وقوله : { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدعّ اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين } [ الماعون : 1 3 ] ونظيره { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } [ العنكبوت : 4 ] ، فإن ذلك حال الكفار ، وأما المؤمن العاصي فلا تبلغ به حاله أن يحسب أنه مفلت من قدرة الله . قيل : نزلت في قوم من المشركين . w قال البغوي : نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين : لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلنّ عليكم في الآخرة كما فضّلنا عليكم في الدنيا . وعن الكلبي : أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قالوا لعلي وحمزة وبعض المسلمين : والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقاً أي إن كان البعث حقاً لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنّا أفضل حالاً منكم في الدنيا . وتأويل نزول هذه الآية على هذا السبب أن حدوث قول هؤلاء النفر صادف وقت نزول هذه الآيات من السورة أو أن قولهم هذا متكرر فناسب تعرض الآية له حقه .
ونزول الآية على هذا السبب لإبطال كلامهم في ظاهر حاله وإن كانوا لم يقولوه عن اعتقاد وإنما قالوه استهزاء ، لئلا يروج كلامهم على دهمائهم وَالحديثين في الإسلام لأن شأن التصدّي للإرشاد أن لا يغادر مغمزاً لرواج الباطل إلا سدّه ، كما في قوله تعالى : { أفرأيتَ الذي كفر بآياتنا وقال لأُوتَيّن مالاً وولداً أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهداً } [ مريم : 77 ، 78 ] وله نظائر في القرآن . وزاد القرطبي في حكاية كلام الكلبي أنهم قالوه حين برزوا لهم يوم بدر ، وهو لا يستقيم لأن السورة مكية ولم ينقل عن أحد استثناء هذه الآية منها .
والاجتراح : الاكتساب ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، وهو مشتق من الجرح فأطلق على اكتساب السباع ونحوها ، ولذلك سميت كلاب الصيد جوارحَ وسمي به اكتساب الناس لأن غالب كسبهم في الجاهلية كان من الإغارة على إبل القوم وهي بالرماح ، قالت أم زرع : فنكحتُ بعدَه رَجُلاً سريّاً ، ركب شَريّاً ، وأخذ خطباً وأراح عليَّ نَعَماً ثَرَياً ، ولذلك غلب إطلاق الاجتراح على اكتساب الإثم والخبيث .
وظاهر تركيب الآية أن قوله : { سواء محياهم ومماتهم } داخل في الحسبان المنكور فيكون المعنى : إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين لا في الحياة ولا بعد الممات ، فكما خالف الله بين حالَيْهم في الحياة الدنيا فجعل فريقاً كفرة مسيئين وفريقاً مؤمنين محسنين ، فكذلك سيخالف بين حاليهم في الممات فيموت المشركون على اليأس من رحمة الله إذ لا يوقنون بالبعث ويلاقون بعد الممات هول ما توعدهم الله به ، ويموت المؤمنون رجاء رحمة الله والبشرى بما وُعدوا به ويلاقون بعد الممات ثواب الله ورضوانه .
وقرأ الجمهور : { سواء } مرفوعاً فيكون موقع جملة { سواء محياهم } موقع البدل من كاف التشبيه التي هي بمعنى مِثل على ما ذهب إليه صاحب « الكشاف » يريد أنه بدل مطابق لأن الجملة تبدل من المفرد على الأصح ، والبدل المطابق هو عطف البيان عند التحقيق ، فيكون جملة { سواء محياهم ومماتهم } بيانَ ما حسبه المشركون . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف منصوباً ، فلفظُ { سواء } وحده بدل من كاف المماثلة ، بَدَل مفرد من مفرد أو حال من ضمير النصب في { نجعلهم } . وهذا لأن المشركين قالوا للمسلمين : سنكون بعد الموت خيراً منكم كما كنا في الحياة خيراً منكم .
فضمير { محياهم } وضمير { مماتهم } عائدان لكل من الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا على التوزيع ، أي مَحْيَا كلِّ مساوٍ لمماته ، أي لا يتبدل حال الفريقين بعد الممات بل يكُونون بعد الممات كما كانوا في الحياة غير أن موقع كاف التمثيل في قوله : { كالذين آمنوا } ليس واضح الملاقاة لحُسبان المشركين المسلطِ عليه الإنكار لأنهم إنما حسبوا أن يكونوا بعد الممات على تقدير وقوع البعث أحسنَ حالاً من المؤمنين لا أن يكونوا مثل المؤمنين لأنهم قالوا ذلك في مقام التطاول على المؤمنين ، وإرادة إفحامهم بسفسطتهم . فبِنا أن نبين موقع هذا الكاف في الآية .
والذي أرى : أن موقعه الإيماء إلى أن الله قدّر للمؤمنين حسن الحال بعد الممات حتى صار ذلك المقدَّر مَضرِبَ الأمثال ومناط التشبيه ، وإلى أن حُسبان المشركين أنفسَهم في الآخرة على حالة حسنة باطل ، فعبر عن حسبانهم الباطلِ بأنهم أثبتوا لأنفسهم في الآخرة الحال التي هي حال المؤمنين ، أي حسب المشركون بزعمهم أن يكونوا بعد الموت في حالة إذا أراد الواصف أن يصفها وصفها بمشابهة حال المؤمنين في عندِ الله وفي نفس الأمر ، وليس المراد أن المشركين مَثَّلوا حالهم بحال المؤمنين فيؤول قوله : { كالذين آمنوا } إلى حكاية الكلام المحكي بعبارة تساويه لا بعبارة قائله ، وذلك مما يتوسع فيه في حكاية الأقوال كقوله تعالى حكاية عن عيسى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ، ربّي وربّكم } [ المائدة : 117 ] فإن ما أمره الله به : أن اعبدوا الله ربَّك وربّهم ، وذلك من خلاف مقتضى الظاهر دعا الله هنا قصد التنويه بالمؤمنين والعناية بزلفاهم عند الله ، فكأنه قيل : أحسبوا أن نجعلهم في حالة حسنة ولكن هذا المأمول في حسبانهم هو في نفس الأمر حال المؤمنين لا حالُهم . فأُوجز الكلام ، وفَهْم السامع يبسطه . والمواجه بهذا الكلام هم النبي والمؤمنون تكملة للغرض المبتدأ به في قوله : { قل للذي آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] على أن لك أن تجعل قوله تعالى : { كالذين آمنوا } معترضاً بين مفعولي ( نجعل ) وهما ضميرا الغائبين وجملة { سواء محياهم } أو ولفظ { سواء } في قراءة نصبه فلا يكون مراداً إدخاله في حسبان المشركين .
ويجوز على هذا أن يكون قوله : { كالذين آمنوا } تهكماً على المشركين في حسبانهم تأكيداً للإنكار عليهم .
ومِن خلاف ظاهر التركيب ما قيل : إن مدلول { سواء محياهم ومماتهم } ليس من حسبان المشركين المنكور ولكنه كلام مستأنف ، والمعنى : أنه لما أنكر حسبان استواء الكافرين والمؤمنين خطر ببال السامع أن يسأل كيف واقعُ حال الفريقين فأجيب بأن حال محياهم هو مقياس حال مماتهم ، أي حالهم في الآخرة مختلف كما هو في الدنيا مختلف ، فالمؤمنون يحيون في الإقبال على ربهم ورجاء فضله ، والكافرون يعيشون معرضين عن عبادة ربّهم آيسين من البعث والجزاء . وهذا ليس عين الجواب ولكنه من الاكتفاء بعلة الجواب عن ذكره . والتقدير : حال الفريقين مختلف في الآخرة كما كان مختلفاً في الحياة .
وجملة { ساء ما يحكمون } تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل بذلك الإنكار من المعاني . واعلم أن هذه الآية وإن كان موردها في تخالف حالي المشركين والمؤمنين فإن نوط الحكم فيها بصلة { الذين اجترحوا السيئات } يجعل منها إيماء إلى تفاوت حالي المسيئين والمحسنين من أهل الإيمان وإن لم يحسب أحد من المؤمنين ذلك وعن تميم الداري أنه بات ليلة يقرأ هذه الآية ويركع ويسجد ويبكي إلى الصباح . وروي مثل ذلك عن الربيع بن خيثم وعن الفضيل بن عياض : أنه كان كثيراً ما يردد من أول الليل هذه الآية ثم يقول : ليت شعري من أي الفريقين أنت . يخاطب نفسه فكانت هذه الآية تسمى مَبكاة العابدين .
والمحيا والممات : مصدران ميميان أو اسما زَمان ، أي حياتهم وموتهم ، وهو على كلا الاعتبارين بتقدير مضاف ، أي حالة محياهم وحالات مماتهم .