تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول ، أي : الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه ، والاجتناب لما نهيا عنه ، والانكفاف عنه والنهي عنه .

وقوله : إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه ، وبيان لفائدته وحكمته ، فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام .

ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم ، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك ، وتختلف قلوبكم ، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه ، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء .

فليكثر العبد من قول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب ، اصرف قلبي إلى طاعتك .

وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي : تجمعون ليوم لا ريب فيه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بعصيانه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه ، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سبباً في عذابهم ، وذكرهم بجانب من منته عليهم ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين . . . لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .

قال القرطبى : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . } هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، والاستجابة :

الإِجابة . . . قال الشاعر :

وداع داع يا من يجيب إنى الندى . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أى : فلم يجبه عند ذاك مجيب .

وكان الإِمام القرطبى يرى أن السين والتاء في قوله : " استجيبوا " زائدتان .

ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب ، لأن الاستجابة هى الإِجابة بنشاط وحسن استعداد .

وقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة ، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا ، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة .

وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن ، أو الجهاد ، أو العلم . . إلخ .

وذلك ، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا .

والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } بالله حق الإِيمان ، { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } عن طواعية واختيار ، ونشاط وحسن استعداد { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى : إلى ما يصلح أحوالكم ، ويرفع درجاتكم ، من الأقوال النافعة ، والأعمال الحسنة ، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة : وتظفرون بالسعادتين : الدنيوية والأخروية .

والضمير في قوله { دَعَاكُم } يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله ، ولأن في الاستجابة له استجابة لله - تعالى - .

قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وقوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله ، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له - سبحانه -يَحُولُ .

وقوله : { يَحُولُ } من الحول بين الشئ والشئ ، بمعنى الحجز والفصل بينهما .

قال الراغب : أصل الحول تغير الشئ وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل حال الشئ يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول : وباعتبار الانفصال فيل حال بينى وبينك كذا أي فصل . .

هذا ، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان :

أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول ابن جرير - : أنه - سبحانه - أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعى به شيئا ، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك أن الحول بين الشئ والشئ إما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز - جل ثناؤه - بين عبد وقلبه في شئ أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإِيمان .

وقول من قال : يحول بينه وبين عقله . وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه . . فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له .

وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى .

وقال ابن كثير - بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير - : وقد وردت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله علي وسلم - يقول : " إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء " ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " .

وروى : الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن النواس بن سمعان الكلابى قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " .

أما القول الثانى فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول الزمخشرى - " أنه - سبحانه - يميت المرء فتفوته الفرصة التي هى واجدها ، وهى التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله .

أو - كما يقول الفخر الرازى - بعبارة أوضح : " أن المراد أنه - تعالى - يحول بين المرء وبين ما يتماه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل . فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال . الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب ، لأن تسمية الشئ باسم ظرفه جائزة كقولهم : سال الوادى .

والذى نراه أن القول الثانى أولى بالقبول ، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذى باتباعه يحيون حياة طيبة ، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب ، كما قال - تعالى - في ختامها { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .

وليست مسوقة لإِثبات قدرة الله ، وأنه أملك لقلوب عباده منهم : وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء .

فالمعنى الذي ذكره ابن جرير - وتابعه عليه ابن كثير وغيره ، معنى وجيه في ذاته ، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها . . ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشرى والرازى . لأن الآية الكريمة التي معنا والتى بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت ، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة .

والمعنى الإِجمال للآية الكريمة { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بعزيمة صادقة ، وسرعة فائقة ، { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة { وَاعْلَمُواْ } علما يقينا { أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } أي يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها : فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا ، وسيجمع كذا غدا ، وسيجمع كذا في المستقبل ، وسيحصل على كذا قريبا . . ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه . . فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت .

وقوله : { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تذييل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة . والضمير في قوله { وَأَنَّهُ } يعود إلى الله تعالى - أو هو ضمير الشأن . أى : وأنه - سبحانه - إليه وحده ترجعون لا إلى غيره ، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أختم ، ويجاز كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر .

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب . في العمل الصالح بسرعة ونشاط ، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا . الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول ، مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض ؛ والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول :

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . وأنه إليه تحشرون . واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .

إن رسول الله [ ص ] إنما يدعوهم إلى ما يحييهم . . إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة ، وبكل معاني الحياة . .

إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول ، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ؛ ومن ضغط الوهم والأسطورة ، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة ، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .

ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ؛ تعلن تحرر " الإنسان " وتكريمه بصدورها عن الله وحده ، ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ؛ لا يتحكم فرد في شعب ، ولا طبقة في أمة ، ولا جنس في جنس ، ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .

ويدعوهم إلى منهج للحياة ، ومنهج للفكر ، ومنهج للتصور ؛ يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة ، المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان ، العليم بما خلق ؛ هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ؛ ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .

ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم ، والثقة بدينهم وبربهم ، والانطلاق في " الأرض " كلها لتحرير " الإنسان " بجملته ؛ وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ؛ وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله ، فاستلبها منه الطغاة !

ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله ، لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ؛ وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ؛ ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ؛ حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ؛ وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .

ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [ ص ] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .

إن هذا الدين منهج حياة كاملة ، لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 24 ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 25 )

هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية :

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . .

استجيبوا له طائعين مختارين ؛ وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد :

( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) . .

ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . ( يحول بين المرء وقلبه )فيفصل بينه وبين قلبه ؛ ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه ، ويصرفه كيف شاء ، ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !

إنها صورة رهيبة حقاً ؛ يتمثلها القلب في النص القرآني ، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب ، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !

إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة ، والحذر الدائم ، والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ؛ والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ؛ والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته ، أو غفلة من غفلاته ، أو دفعة من دفعاته . .

ولقد كان رسول الله [ ص ] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه : " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس ، وهم غير مرسلين ولا معصومين ? !

إنها صورة تهز القلب حقا ؛ ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات ، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه ، وهو في قبضة القاهر الجبار ؛ وهو لا يملك منه شيئا ، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !

صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم :

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . .

ليقول لهم : إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة ، ولكنه - سبحانه - يكرمكم ؛ فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ؛ وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ؛ وأمانة الخلافة الواعية ، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .

( وأنه إليه تحشرون ) . .

فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور ، لا استجابة العبد المقهور .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

قال البخاري : { اسْتَجِيبُوا } أجيبوا ، { لِمَا يُحْيِيكُمْ } لما يصلحكم . حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[12792]} بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : " ما منعك أن تأتيني ؟ " ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ثم قال : " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج " ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرت له - وقال معاذ : حدثنا شعبة ، عن خُبَيْب{[12793]} بن عبد الرحمن ، سمع حفص بن عاصم ، سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا - وقال : " هي { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } السبع المثاني " {[12794]}

هذا لفظه بحروفه ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة .

وقال مجاهد في قوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : الحق .

وقال قتادة { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : هو هذا القرآن ، فيه النجاة والتقاة{[12795]} والحياة .

وقال السُّدِّيّ : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَةَ بن الزبير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .

وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .

رواه الحاكم في مستدركه موقوفا ، وقال : صحيح ولم يخرجاه{[12796]} ورواه ابن مَرْدُوَيه من وجه آخر مرفوعا{[12797]} ولا يصح لضعف إسناده ، والموقوف أصح . وكذا قال مجاهد ، وسعيد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعطية ، ومُقَاتِل بن حيَّان ، والسُّدِّيّ .

وفي رواية عن مجاهد في قوله : { يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } حتى تركه لا يعقل .

وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه .

وقال قتادة هو كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] .

وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " يا مُقَلِّب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قال : فقلنا : يا رسول الله ، آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال{[12798]} نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها " .

وهكذا رواه الترمذي في " كتاب القدر " من جامعه ، عن هناد بن السري ، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، عن الأعمش - واسمه سليمان بن مهران - عن أبي سفيان - واسمه طلحة بن نافع - عن أنس{[12799]} ثم قال : حسن . وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ، رواه بعضهم عنه ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح{[12800]}

حديث آخر : قال عبد بن حميد{[12801]} في مسنده : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن بلال ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " يا مُقَلِّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك " .

هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو - مع ذلك - على شرط أهل السنن ولم يخرجوه{[12802]}

حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول : حدثني بسر بن عبد الله{[12803]} الحضرمي : أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النواس بن سَمْعَان الكلابي ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " . وكان يقول : " يا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا{[12804]} على دينك " . قال : " والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه " .

وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن يزيد{[12805]} بن جابر{[12806]} فذكر مثله .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا حماد بن زيد ، عن المعلى بن زياد ، عن الحسن ؛ أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها : " يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر{[12807]} تدعو بهذا الدعاء . فقال : " إن قلب الآدمي بين إصبعين{[12808]} من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه{[12809]} وإذا شاء أقامه{[12810]} {[12811]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثني شهر ، سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول : " اللهم يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قالت : فقلت{[12812]} يا رسول الله ، أو إن القلوب لتقلب{[12813]} ؟ قال : " نعم ، ما{[12814]} خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله ، عز وجل ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه . فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب " . قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : " بلى ، قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني " {[12815]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، أخبرني أبو هانئ ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبَلي{[12816]} أنه سمع عبد الله بن عمرو ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يُصَرِّف{[12817]} كيف شاء{[12818]} . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم مُصَرِّف القلوب ، صَرِّف قلوبنا إلى طاعتك " .

انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري ، فرواه مع النسائي من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصري ، به . {[12819]}


[12792]:في أ: "حبيب".
[12793]:في أ: "حبيب".
[12794]:صحيح البخاري برقم (4647).
[12795]:في ك، م: "البقاء".
[12796]:المستدرك (2/328).
[12797]:ذكره السيوطي في الدر المنثور (4/45).
[12798]:في أ: "فقال".
[12799]:المسند (3/112) وسنن الترمذي برقم (2140).
[12800]:رواه الحاكم في المستدرك (2/288) من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، رضي الله عنه.
[12801]:في ك، م، أ: "قال الإمام عبد بن حميد".
[12802]:المنتخب برقم (359).
[12803]:في د، ك، م: "عبيد الله".
[12804]:في د، ك، م: "قلبي".
[12805]:في أ: "زيد".
[12806]:المسند (4/182) وسنن النسائي الكبرى برقم (7738) وسنن ابن ماجة برقم (199).
[12807]:في أ: "تكثر أن".
[12808]:في د: "الإصبعين".
[12809]:في أ: "أزاغه أزاغه".
[12810]:في أ: "أقامه أقامه".
[12811]:المسند (6/91).
[12812]:في ك، أ: "قلت".
[12813]:في أ: "وإن القلب ليتقلب".
[12814]:في أ: "ما من".
[12815]:المسند (6/301) ورواه الترمذي في السنن برقم (3522) من طريق شهر بن حوشب به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن".
[12816]:في أ: "الجبلي".
[12817]:في د: "يصرفها".
[12818]:في د، م: "يشاء".
[12819]:المسند (2/168) وصحيح مسلم برقم (2654) وسنن النسائي الكبرى برقم (7861).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فقال بعضهم : معناه : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : أما يحييكم فهو الإسلام ، أحياهم بعد موتهم ، بعد كفرهم .

وقال آخرون : للحقّ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : الحقّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : الحقّ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : للحقّ .

وقال آخرون : معناه : إذا دعاكم إلى ما في القرآن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : هو هذا القرآن فيه الحياة والعفة والعصمة في الدنيا والاَخرة .

وقال آخرون : معناه : إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدوّ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ : أي للحرب الذي أعزّكم الله بها بعد الذلّ ، وقوّاكم بعد الضعف ، ومنعكم بها من عدوّكم بعد القهر منهم لكم .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : استجيبوا لله وللرسول بالطاعة إذا دعاكم الرسول لِما يحييكم من الحقّ . وذلك أن ذلك إذا كان معناه كان داخلاً فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدوّ والجهاد ، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن ، وفي الإجابة إلى كلّ ذلك حياة المجيب . أما في الدنيا ، فيقال : الذكر الجميل ، وذلك له فيه حياة . وأما في الاَخرة ، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها .

وأما قول من قال : معناه الإسلام ، فقول لا معنى له لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فلا وجه لأن يقال للمؤمن استجب لله وللرسول إذا دعاك إلى الإسلام والإيمان .

وبعد : ففيما :

حدثنا أحمد بن المقدام العجلي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا روح بن القاسم ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو يصلي ، فدعاه : «أي أبيّ » فالتفت إليه أبيّ ، ولم يجبه . ثم إن أبيّا خفف الصلاة ، ثم انصرف إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك أي رسول الله قال : «وَعَلَيْكَ ما مَنَعَكَ إذْ دَعَوْتُكَ أنْ تُجِيبَنِي ؟ » قال : يا رسول الله كنت أصلي . قال : «أفَلَمْ تَجِدْ فِيما أُوحِيَ إليّ اسْتَجُيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ؟ » قال : بلى يا رسول الله ، لا أعود .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو قائم يصلي ، فصرخ به ، فلم يجبه ، ثم جاء فقال : «يا أبيّ ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ، أليس الله يقول يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ؟ » قال أبيّ : لا جرم يا رسول الله ، لا تدعوني إلاّ أجبت ، وإن كنت أصلي .

ما يبين عن أن المعنيّ بالاَية هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحقّ بعد إسلامهم ، لأن أبيّا لا شكّ أنه كان مسلما في الوقت الذي قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين .

القول في تأويل قوله تعالى : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وأنّهُ إلَيْه تُحْشَرُونَ .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : بين الكافر أن يؤمن ، وبين المؤمن أن يكفر .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قالا : حدثنا سفيان ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا الثوري ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه .

حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثني أبو السائب وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله .

قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، وعبد العزيز بن أبي روّاد ، عن الضحاك ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين الكافر وطاعته ، وبين المؤمن ومعصيته .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي روق ، عن الضحاك بن مزاحم ، بنحوه .

قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : يحول بين المرء وبين أن يكفر ، وبين الكافر وبين أن يؤمن .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن الضحاك بن مزاحم يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين الكافر وبين طاعة الله ، وبين المؤمن ومعصية الله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بن أبي روّاد ، عن الضحاك ، نحوه .

وحُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، يقول : فذكر نحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن منهال ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبد العزيز بن أبي روّاد يحدّث عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن ومعصيته .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يقول : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، ويحول بين الكافر وبين الإيمان .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يقول : يحول بين الكافر وبين طاعته ، ويحول بين المؤمن وبين معصيته .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .

قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي روّاد ، عن الضحاك : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يقول : يحول بين الكافر وبين طاعته ، وبين المؤمن وبين معصيته .

قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يحول بين المؤمن والمعاصي ، وبين الكافر والإيمان .

قال : حدثنا عبيدة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بينه وبين المعاصي .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : يحول بين المرء وعقله ، فلا يدري ما يعمل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المرء وعقله .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ حتى يتركه لا يعقل .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : هي يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن حميد ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : إذا حال بينك وبين قلبك كيف تعمل .

قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين قلب الكافر ، وأن يعمل خيرا .

وقال آخرون : معناه يحول بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلاّ بإذنه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلاّ بإذنه .

وقال آخرون : معنى ذلك أنه قريب من قلبه لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسرّه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : هي كقوله أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ .

وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال : إن ذلك خبر من الله عزّ وجلّ أنه أملك لقلوب عباده منهم ، وإنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعي به شيئا ، أو أن يفهم إلاّ بإذنه ومشيئته . وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز جلّ ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه ، دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ، وقول من قال : يحول بينه وبين عقله ، وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلاّ بإذنه لأن الله عزّ وجلّ إذا حال بين عبد وقلبه ، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما منع إدراكه به على ما بينت . غير أنه ينبغي أن يقال : إن الله عمّ بقوله : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ الخبر عن أنه يحول بين العبد وقلبه ، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئا دون شيء ، والكلام محتمل كلّ هذه المعاني ، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يحب التسليم له .

وأما قوله : وأنّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ فإن معناه : واعلموا أيها المؤمنون أيضا مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه ، أن الله الذي يقدر على قلوبكم ، وهو أملك بها منكم ، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة ، فيوفيكم جزاء أعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته ، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه ، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم ، فيوجب ذلك سخطه ، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (24)

{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } بالطاعة . { إذا دعاكم } وحد الضمير فيه لما سبق ولان دعوة الله تسمع من الرسول . وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي ، قال : " ألم تخبر فيما أوحي إلي " { استجيبوا لله وللرسول } . واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضا إجابة . وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول . { لما يحييكم } من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته . قال :

لا تعجبن الجهول حلّته *** فذاك ميتٌ وثوبه كفن

أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } . { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : { ونحن اقرب إليه من حبل الوريد } وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته . وقرئ " بين المرِّ " بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه . { وأنه إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم .