{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار اشتكته زوجته [ إلى الله ، وجادلته ]{[1000]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمها على نفسه ، بعد الصحبة الطويلة ، والأولاد ، وكان هو رجلا شيخا كبيرا ، فشكت حالها وحاله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررت ذلك ، وأبدت فيه وأعادت .
فقال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } أي : تخاطبكما فيما بينكما ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لجميع الأصوات ، في جميع الأوقات ، على تفنن الحاجات .
{ بَصِيرٌ } يبصر دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، وهذا إخبار عن كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة ، وفي ضمن ذلك الإشارة بأن الله [ تعالى ] سيزيل شكواها ، ويرفع بلواها ، ولهذا ذكر حكمها ، وحكم غيرها{[1001]} على وجه العموم ، فقال :
1- سورة " المجادلة " بفتح الدال وكسرها والثاني أظهر ، لأن افتتاح السورة في المرأة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها - .
وهذه السورة : هي السورة الثامنة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة " المنافقون " ، وقبل سورة " مريم " .
وعدد آياتها ثنتان وعشرون آية في المصحف الكوفي والبصري والشامي ، وإحدى وعشرون آية في المصحف المكي والمدني .
2- وهي من السور المدنية الخالصة . ومن قال بأن فيها آيات مكية ، لم يأت بدليل يعتمد عليه في ذلك .
قال القرطبي : " هذه السورة مدنية في قول الجميع ، إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأولى منها مدني ، وباقيها مكي . وقال الكلبي : نزل جميعها بالمدينة . غير قوله –تعالى- : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } نزلت بمكة " ( {[1]} ) .
3- وقد افتتحت سورة " المجادلة " بالحديث عن المرأة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها ، وقد أصدر –سبحانه- حكمه العادل في مسألتها ، مبينا حكم الظهار فقال –تعالى- : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، ذلكم توعظون به ، والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله ، وتلك حدود الله ، وللكافرين عذاب أليم } .
4- ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن الذين يحادون الله ورسوله فبينت سوء عاقبتهم ، لأن الله –تعالى- لا يخفى عليه شيء من أحوالهم ، فهو –سبحانه- { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم } .
5- ثم وجه –سبحانه- ثلاثة نداءات إلى المؤمنين ، أمرهم في أول نداء بأن يتناجوا بالبر والتقوى . . وأمرهم في النداء الثاني أن يفسح بعضهم لبعض في المجالس . . وأمرهم في النداء الثالث إذا ما ناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة .
قال –تعالى- : { يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول ، فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ، ذلك خير لكم وأطهر ، فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } .
6- وبعد أن عجبت السورة الكريمة من أحوال المنافقين ، وبينت سوء عاقبتهم ، وكيف أن الشيطان قد استحوذ عليهم ، فأنساهم ذكر الله .
بعد كل ذلك ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين وببيان صفاتهم الكريمة ، فقال –عز وجل- { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر ، يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشريتهم ، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، رضي الله عنه ورضوا عنه ، أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون } .
7- هذا ، والمتأمل في سورة المجادلة ، يراها قد بينت حكم الظهار ، وأبطلت ما كان شائعا من أن الرجل إذا ظاهر من زوجته لا تحل له . . وساقت جانبا من فضل الله –تعالى- على عباده ، حيث أجاب دعاء امرأة قد اشتكت إليه ، وقضى في مساءلتها قبل أن تقوم من مكانها ، وهي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم تجادله في شأن زوجها .
كما يراها قد كشفت القناع عن المنافقين ، وفضحتهم على أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم الذميمة ، وموالاتهم لأعداء الله ورسوله .
كما يراها قد ساقت ألوانا متعددة من الآداب التي يجب على المؤمنين أن يتحلوا بها ، وبشرتهم برضا الله –تعالى- عنهم ، متى أخلصوا له –سبحانه- العبادة والطاعة .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما أخرجه الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن خولة بنت ثعلبة قالت : فىَّ والله وفي - زوجي - أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة .
قالت : " كنت عنده ، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل علي يوما فراجعته بشىء فغضب ، فقال : أنت علي كظهر أمي .
قالت : ثم خرج فجلس فى نادي قومه ساعة ، ثم رجع ، فإذا هو يريدنى عن نفسي ، فقالت له : كلا والذى نفس خوله بيده لا تخلص إلىَّ ، وقلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه .
قالت : فواثبنى ، فامتنعت عنه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني .
ثم خرجت إلى بعض جاراتى ، فاستعرت منها ثيابا ، ثم خرجت حتى جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلست بين يديه ، فذكرت له - صلى الله عليه وسلم - ما لقيت من زوجي ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه .
قالت : فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يا خويلة ، ابن عمك شيخ كبير فاتى الله فيه " .
قالت : فوالله ما برحت حتى نزل فىَّ قرآن ، فتغشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتغشاه ، ثم سرى عنه ، فقال لي : " يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا " . ثم قرأ علي هذه الآيات " .
وفى رواية : " أنها أتت النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالت له : يا رسول الله ، إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في ، فلما خلا سني ، ونثرت بطنى ، جعلنى عليه كأمه ، وتركنى إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لى رخصة يا رسول الله فحدثنى بها .
فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما أمرت بشىء فى شأنك حتى الآن " وفى رواية أنه قال لها : " ما أراك إلا قد حرمت عليه " .
فقالت : يا رسول الله ، إنه ما ذكر طلاقا ، وأخذت تجادل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فافتي ، وشدة حالي ، وإن لي من زوجي أولاداً صغاراً ، إن ضمَّهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا .
قالت : وما برحت حتى نزل القرآن ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " يا خولة أبشري " ثم قرأ على هذه الآيات " .
و " قد " فى قوله - تعالى - : { قَدْ سَمِعَ . . . } ؟ .
قلت : " معناه التوقع ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله - تعالى - مجادلتها وشكواها ، وينزل فى ذلك ما يفرج كربها " .
والسماع فى قوله - تعالى - : { سَمِعَ } بمعنى علم الله - تعالى - التام بما دار بين تلك المرأة ، وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبحانه - لشكواها ، وحكمه فى تلك المسألة ، بما يبطل ما كان شائعاً بشأنها قبل نزول هذه الآية .
وقوله : { تُجَادِلُكَ } من المجادلة ، وهى المفاوضة على سبيل المغالبة والمنازعة ، وأصلها من جدلت الحبل : إذا أحكمت فتله .
وقوله : { تشتكي } من الشكو ، وأصله فتح الشَّكوة - وهى سقاء صغير يجعل فيه الماء - وإظهار ما فيها ، ثم شاع هذا الاستعمال فى إظهار الإنسان لما يؤلمه ويؤذيه ، وطلب إزالته .
والمعنى : قد سمع الله - تعالى - سماعا تاما ، قول هذه المرأة التى تجادلك - أيها الرسول الكريم - فى شأن ما دار بينها وبين زوجها ، وفيما صدر عنه فى حقها من الظهار ، وسمع - سبحانه - شكواها إليه ، والتماسها منه - عز وجل - حل قضيتها ، وتفريج كربتها ، وإزالة ما نزل بها من مكروه .
وقال - سبحانه - { التي تُجَادِلُكَ } بأسلوب الاسم الموصول للإشعار بأنها كانت فى نهاية الجدال والشكوى ، وفى أقصى درجات التوكل على ربها ، والأمل فى تفريج كربتها ، رحمة بها وبزوجها وبأبنائها .
وقوله - سبحانه - : { اللَّهِ والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } جملة حالية ، والتحاور : مراجعة الكلام من الجانبين . يقال : حاور فلان فلانا فى الكلام إذا راجعه فيما يقوله .
أى : والحال أن الله - تعالى - يسمع ما يدور بينك - أيها الرسول الكريم - وبين تلك المرأة ، من مراجعة فى الكلام ، ومن أخذ ورد فى شأن قضيتها .
والمقصود بذلك ، بيان الاعتناء بشأن هذا التحاور ، والتنويه بأهميته ، وأنه - تعالى - قد تكرم وتفضل بإيجاد التشريع الحكيم لحل هذه القضية .
وعبر - سبحانه - بصيغة المضارع ، لزيادة التنويه بشأن ذلك التحاور ، واستحضار صورته فى ذهن السامع ، ليزداد عظة واعتبارا .
وجملة : { تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } تذييل قصد به التعليل لما قبله بطريق التحقيق .
أى : أنه - سبحانه - يسمع كل المسموعات ، ويبصر كل المبصرات ، على أتم وجه وأكمله ، ومن مقتضيات ذلك ، أن يسمع تحاوركما ، ويبصر ما دار بينكما .
قال القرطبي : " أخرج ابن ماجة أن عائشة - رضى الله عنها - قالت : " تبارك الذى وسع سمعه كل شىء إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى على بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول : يا رسول الله ! ! أكل شبابى ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سني . . . ظاهر مني ! ! اللهم إني أشكو إليك .
وفى البخاري عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا فى ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله - تعالى - : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ } .
سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون
نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .
ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .
ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .
( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيَ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَمِعَ اللّهُ يا محمد قَوْلَ الّتي تجادلُكَ فِي زَوْجِها والتي كانت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها امرأة من الأنصار .
واختلف أهل العلم في نسبها واسمها ، فقال بعضهم : خولة بنت ثعلبة ، وقال بعضهم : اسمها خُوَيلة بنت ثعلبة .
وقال آخرون : هي خويلة بنت خويلد . وقال آخرون : هي خويلة بنت الصامت . وقال آخرون : هي خويلة ابنة الدليج وكانت مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها ، وزوجها أوس بن الصامت ، مراجعتها إياه في أمره ، وما كان من قوله لها : أنتِ عليّ كظهر أمي . ومحاورتها إياه في ذلك ، وبذلك قال أهل التأويل ، وتظاهرت به الرواية . ذكر من قال ذلك ، والاَثار الواردة به :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : سمعت أبا العالية يقول : إن خويلة ابنة الدليج أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه ، فقالت : يا رسول الله ، طالت صحبتي مع زوجي ، ونفضت له بطني ، وظاهَرَ مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَرُمْتِ عَلَيْهِ » فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ، ثم قالت : يا رسول الله طالت صحبتي ، ونفضت له بطني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَرُمْتِ عَلَيْهِ » فجعل إذا قال لها : «حرمت عليه » ، هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي ، قال : فنزل الوحي ، وقد قامت عائشة تغسل شقّ رأسه الاَخر ، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات ، فلما قضي الوحي ، قال : «ادْعي زَوْجَكِ » ، فَتَلاها عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ واللّهُ يَسْمَع تَحاوُرَكُما . . . إلى قوله : والّذِين يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا : أي يرجع فيه فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَتَماسّا أتَسْتَطَيعُ رَقَبَةً ؟ قال : لا ، قال : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ قال : يا رسول الله ، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرّات خشيت أن يعشو بصري قال : فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينا قال : «أتَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ » قال : لا يا رسول الله إلا أن تعينني ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، . قال : ذُكر لنا أن خويلة ابنة ثعلبة ، وكان زوجها أوس بن الصامت قد ظاهر منها ، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ظاهر مني زوجي حين كبر سني ، ورقّ عظمي فأنزل الله فيها ما تسمعون : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ فقرأ حتى بلغ لَعَفُوّ غَفُورٌ وَالّذِينَ يُظاهرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا يريد أن يغشى بعد قوله ذلك ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : «أتَسْتَطِيعُ أنْ تحَرّرَ مُحَرّرا ؟ قال : مالي بذلك يدان ، أو قال : لا أجد ، قال : «أتَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ ؟ » قال : لا والله إنه إذا أخطأه المأكل كل يوم مرارا يكلّ بصره ، قال : «أتَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ » قال : لا والله ، إلا أن تعينني منك بعون وصلاة . قال بشر ، قال يزيد : يعني دعاء فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا ، فجمع الله له ، والله غفور رحيم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ واللّهُ يَسْمَع تَحاوُرَكُما قال : ذاك أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة ابنة ثعلبة قالت : يا رسول الله كبر سني ، ورق عظمي ، وظاهر مني زوجي ، قال : فأنزل الله : الّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهمْ . . . إلى قوله ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا يريد أن يغشى بعد قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسّا فدعاه إليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال : هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً ؟ قال : لا قال : أفَتَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْن مْتَتابِعينَ ؟ قال : إنه إذا أخطأه أن يأكل كلّ يوم ثلاث مرّات يكلّ بصره قال : أتَسْتَطَيعُ أنْ تطعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ قال : لا ، إلا أن يعينني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعون وصلاة ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا ، وجمع الله له أمره ، والله غفور رحيم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليّ كظهر أمي حَرُمت في الإسلام ، فكان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت ، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها خويلة بنت خُوَيلد وظاهر منها ، فأُسْقِطَ في يديه وقال : ما أراكِ إلا قد حَرُمْتِ عليّ ، وقالت له مثلَ ذلك ، قال : فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدتْ عنده ماشطة تمشطُ رأسه ، فأخبرته ، فقال : «يا خُوَيْلَة ما أمرْنا فِي أمْرِكِ بِشَيْءٍ » ، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا خُوَيْلَةُ أبْشِرِي » ، قالت : خيرا ، قال : فقرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ . . . إلى قوله : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنُ يَتَماسّا قالت : وأيّ رقبة لنا ، والله ما يجد رقبة غيري ، قال : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَين قالت : والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرّات لذهب بصره ، قال : فَمَنْ لم يَستَطِعْ فإطعامُ سِتّينَ مِسْكِينا قالت : من أين ؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها ، قال : فرعاه بشطر وَسْق ثلاثين صاعا والوَسْق ستون صاعا فقال : «لِيُطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِينا وَلِيُرَاجِعْكِ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ . . . إلى قوله : فإطْعامُ سِتّينَ مِسْكِينا ، وذلك أن خولة بنت الصامت امرأة من الأنصار ظاهر منها زوجها ، فقال : أنت عليّ مثل ظهر أمي ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي كان تزوّجني ، وأنا أحَبّ ، حتى إذا كبرت ودخلت في السنّ قال : أنت عليّ مثل ظهر أمي ، فتركني إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لي رُخصة يا رسول الله تَنْعَشني وإياه بها فحدّثني بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أُمِرْتُ فِي شأنِكِ بِشَيْءٍ حتى الاَنَ ، وَلَكِنْ ارْجِعي إلى بَيْتِكِ ، فإنْ أُومَرْ بِشَيْءٍ لا أغْمِمْهُ عَلَيْكِ إنْ شاءَ اللّهُ » فرجعت إلى بيتها ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب رخصتها ورخصة زوجها : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها . . . إلى قوله : وَللكافِرِينَ عَذَابٌ إليمٌ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها فلما أتاه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أرَدْتَ إلى يَمِينِكَ الّتِي أقْسَمْتَ عَلَيْها ؟ » فقال : وهل لها كفّارة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً ؟ » قال : إذا يذهب مالي كله ، الرقبة غالية وأنا قليل المال ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَهَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَين ؟ » قال : لا والله لولا أني آكل في اليوم ثلاث مرّات لكلّ بصري ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ قال : لا والله إلا أن تعينني على ذلك بعون وصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي مُعِينُكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعا ، وأنا دَاعٍ لَكَ بالبَرَكَةِ » فأصلح ذلك بينهما .
قال : وجعل فيه تحرير رقبة لمن كان مُوسرا لا يكفر عنه إلا تحرير رقبة إذا كان موسرا من قبل أن يتماسا ، فإن لم يكن موسرا فصيام شهرين متتابعين ، لا يصلح له إلا الصوم إذا كان معسرا ، إلا أن لا يستطيع ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، وذلك كله قبل الجماع .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي معشر المدني ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : كانت خولة ابنة ثعلبة تحت أوس بن الصامت ، وكان رجلاً به لمم ، فقال في بعض هجراته : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال ، فقال لها : ما أظنك إلا قد حرمتِ عليّ قالت : لا تقل ذلك ، فوالله ما أحبّ الله طلاقا . قالت : أئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ، فقال : إني أجدني أستحي منه أن أسأله عن هذا ، فقالت : فدعني أن أسأله ، فقال لها : سليه فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا نبيّ الله إن أوس بن الصامت أبو ولدي ، وأحبّ الناس إليّ ، قد قال كلمة ، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا ، قال : أنت عليّ كظهر أمي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أرَاكِ إلاّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ » ، قالت : لا تقل ذلك با نبيّ الله ، والله ما ذكر طلاقا فرادت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ، ثم قالت : اللهم إنّي أشكو اليوم شدّة حالي ووحدتي ، وما يشقّ عليّ من فراقه ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، فلم تَرِمْ مكانها حتى أنزل الله قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ إلى أن ذكر الكفارات ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أعْتِقْ رَقَبةً » ، فقال لا أجد ، فقال : «صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَين » قال : لا أستطيع ، إني لأصوم اليوم الواحد فيشقّ عليّ قال : «أطعمْ سِتّينَ مِسْكْينا ؟ » قال : أما هذا فَنَعَمْ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر عن أبي إسحاق قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال نزلت في امرأة اسمها خولة ، وقال عكرمة اسمها خويلة ، ابنة ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت جاءت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أرَاكِ إلاّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ » ، وهو حينئذ يغسل رأسه ، فقالت : انظر جُعلت فداك يا نبيّ الله ، فقال : «ما أرَاكِ إلاّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ » ، فقالت : انظر في شأني يا رسول الله ، فجعلت تجادله ، ثم حوّل رأسه ليغسله ، فتحوّلت من الجانب الاَخر ، فقالت : انظر جعلني الله فداك يا نبيّ الله ، فقالت الغاسلة : أقصري حديثك ومخاطبتك يا خويلة ، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم متربدا ليوحى إليه ؟ فأنزل الله : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها . . . حتى بلغ ثُمّ يَعُودونَ لِمَا قالُوا قال قتادة : فحرمها ، ثم يريد أن يعود لها فيطأها فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . . . حتى بلغ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال أيوب : أحسبه ذكره عن عكرمة ، أن الرجل قال : يا نبيّ الله ما أجد رقبة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بِزَائِدِك » ، فأنزل الله عليه : صِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسّا فقال : والله يا نبيّ الله ما أطيق الصوم ، إني إذا لم آكل في اليوم كذا وكذا أكلة لقيت ولقيت ، فجعل يشكو إليه ، فقال : «ما أنا بِزَائِدِكَ » ، فنزلت : فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعامُ سِتينَ مِسْكِينا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله عزّ وجلّ : الّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال : تجادل محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهي تشتكي إلى الله عند كبره وكبرها حتى انتفض وانتفض رحمها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله الّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال : محمدا في زوجها قد ظاهر منها ، وهي تشتكي إلى الله ، ثم ذكر سائر الحديث نحوه .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : كتبت إليّ تسألني عن خويلة ابنة أوس بن الصامت ، وإنها ليست بابنة أوس بن الصامت ، ولكنها امرأة أوس ، وكان أوس امرأ به لمم ، وكان إذا اشتدّ به لممه تظاهر منها ، وإذا ذهب عنه لممه لم يقل من ذلك شيئا ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله ما سمعت ، وذلك شأنهما .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت محمد بن إسحاق ، يحدّث عن معمر بن عبد الله ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، قال : حدثتني خويلة امرأة أوس بن الصامت قالت : كان بيني وبينه شيء ، تعنى زوجها ، فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم خرج إلى نادي قومه ، ثم رجع فراودني عن نفسي ، فقالت : كلا والذي نفسي بيده حتى ينتهي أمري وأمرك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقضي فيّ وفيك أمره ، وكان شيخا كبيرا رقيقا ، فغلبته بما تغلب به المرأة القوية الرجل الضعيف ، ثم خرجت إلى جارة لها ، فاستعارت ثيابها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلست بين يديه ، فذكرت له أمره ، فما برحت حتى أنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قالت : لا يقدر على ذلك ، قال : «إنا سنعينه على ذلك بفرق من تمر » قلت : وأنا أعينه بفرق آخر ، فأطعم ستين مسكينا .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن تميم ، عن عروة ، عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في ناحية البيت تشكو زوجها ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عزّ وجل : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ . . . إلى آخر الآية .
حدثني عيسى بن عثمان الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، إن المرأة لتناجي النبيّ صلى الله عليه وسلم أسمع بعض كلامها ، ويخفى عليّ بعض كلامها ، إذ أنزل الله قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة بن الزبير ، قال : قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء ، إني لأسمع كلام خولة ابنة ثعلبة ، ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني ، اللهمّ إني أشكو إليك ، قال : فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الاَيات قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال : زوجها أوس بن الصامت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : الحمد الله الذي وسع سمعه الأصوات ، إن خولة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيخفى عليّ أحيانا بعض ما تقول ، قالت : فأنزل الله عزّ وجلّ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن جميلة كانت امرأة أوس بن الصامت ، وكان أمرأ به لمم ، وكان إذا اشتد به لممه ظاهر من امرأته ، فأنزل الله عزّ وجلّ آية الظهار .
حدثني يحيى بن بشر القرقساني ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن الأموي ، قال : حدثنا خَصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان ظهار الجاهلية طلاقا ، فأول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت من امرأته الخزرجية ، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها حسبت أن يكون ذلك طلاقا ، فأتت به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن أوسا ظاهر مني ، وإنّا إن افترقنا هلكنا ، وقد نثرت بطني منه ، وقدمت صحبته فهي تشكو ذلك وتبكي ، ولم يكن جاء في ذلك شيء ، فأنزل الله عزّ وجلّ : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها . . . إلى قوله : وَللْكافِرينَ عَذَابٌ ألِيمٌ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أتَقْدِرُ عَلى رَقَبَةٍ تُعْتقُها ؟ » فقال : لا والله يا رسول الله ، ما أقدر عليها ، فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعتق عنه ، ثم راجع أهله .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : «قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ التِي تُحاوِلُكَ فِي زَوْجِها » .
وقوله : وَتَشْتَكي إلى اللّهِ يقول : وتشتكي المجادلة ما لديها من الهمّ بظهار زوجها منها إلى الله وتسأله الفرج وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما يعني تحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمجادلة خولة ابنة ثعلبة إنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يقول تعالى ذكره : إن الله سميع لما يتجاوبانه ويتحاورانه ، وغير ذلك من كلام خلقه ، بصير بما يعلمون ، ويعمل جميع عباده .
( 58 ) سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون ، وهي مدنية بإجماع ، إلا أن النقاش حكى أن قوله تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة } [ المجادلة : 7 ] الآية مكي{[1]} ، وروى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله ){[2]} .
{ سمع الله } عبارة عن إدراكه المسموعات على ما هي عليه بأكمل وجوه ذلك دون جارحة ولا محاداة ولا تكييف ولا تحديد تعالى الله عن ذلك .
وقرأ الجمهور : { قد سمع } بالبيان : وقرأ ابن محيصن : { قد سمع } بالإدغام ، وفي قراءة ابن مسعود : «قد يسمع الله قول التي » ، وفيها : «والله قد يسمع تحاوركما » .
واختلف الناس في اسم التي تجادل ، فقال قتادة هي خويلة بنت ثعلبة ، وقيل عن عمر بن الخطاب أنه قال : هي خولة بنت حكيم . وقال بعض الرواة وأبو العالية هي خويلة بنت دليج ، وقال المهدوي ، وقيل : خولة بنت دليج ، وقالت عائشة : هي خميلة . وقال ابن إسحاق : هي خولة بنت الصامت . وقال ابن عباس فيها : خولة بنت خويلد ، وقال محمد بن كعب القرظي ومنذر بن سعيد : هي خولة بنت ثعلبة ، قال ابن سلام : «تجادل » معناه تقاتل في القول ، وأصل الجدل القتل ، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة : أوس بن الصامت الأنصاري{[10997]} أخو عبادة بن الصامت . وحكى النقاش وهو في المصنفات حديثاً عن سلمة بن صخر البياضي{[10998]} أنه ظاهر من امرأته أن واقعها مدة شهر رمضان فواقعها ليلة فسأل قومه أن يسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا وهابوا ذلك وعظموا عليه ، فذهب هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسأله واسترشدوه فنزلت الآية . وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتعتق رقبة ؟ فقال له والله ما أملك رقبة غير رقبتي ، فقال : أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال يا رسول الله وهل أتيت إلا في الصوم ، فقال : تطعم ستين مسكيناً ؟ » فقال : لا أجد ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه فكفر بها فرجع سلمة إلى قومه فقال : إني وجدت عندكم الشدة والغلظة ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة والرفق وقد أعطاني صدقاتكم{[10999]} .
وأما ما رواه الجمهور في شأن أوس بن الصامت ، فاختصاره : أن أوساً ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد ، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة ، قاله أبو قلابة وغيره ، فلما فعل ذلك أوس ، جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوساً أكل شبابي ، ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ، ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أراك إلا قد حرمت عليه » ، فقالت يا رسول الله : لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته ، فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال جدالها تقول : اللهم إليك أشكو حالي وفقري وانفرادي إليه ، وروي أنها كانت تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات .
وكانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول : سبحان من وسع سمعه الأصوات ، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له : «أتعتق رقبة ؟ فقال والله ما أملكها ، فقال أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم ، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له : أتطعم ؟ » فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء ، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، وقيل بثلاثين صاعاً ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله .
وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «تحاورك في زوجها » ، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته .
سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة { سورة المجادلة } بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي . وتسمى { سورة قد سمع } وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس ، وسميت في مصحف أبي بن كعب { سورة الظهار } .
ووجه تسميتها { سورة المجادلة } لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مظاهرة زوجها .
ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها . وذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي عن الكشف أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا ، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك ، ولا في تفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي . فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف ، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال ، وهي التي ذكرها الله بقوله { التي تجادلك في زوجها } . ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات ، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة . وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل { تجادلك } كما عبر عنها بالتحاور في قوله تعالى { والله يسمع تحاوركما } .
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع . وفي تفسير القرطبي عن عطاء : أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي . وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى { وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } الآية نزلت بمكة .
وهي السورة المائة وثلاث من عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم .
والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب لأن الله تعالى قال في سورة الأحزاب { وما جعل أزواجكم اللاء تظهرون منهن أمهاتكم } ، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة لأن قوله { ما جعل } يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة . وإنما أبطل بآية سورة المجادلة . وقال السخاوي : نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات .
وآيها في عد أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون ، وفي عد أهل الشام والبصرة والكوفة إثنتان وعشرون .
الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة .
وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها . وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم .
ومنها موالاتهم اليهود . وحلفهم على الكذب .
وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم .
وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها . ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية ، وتعليماً لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها .
تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دُلَيْج ( مصغراً ) العَوْفية . وربما قالوا : الخزرجية ، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج ، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عُبادة بن الصامت .
قيل : إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي .
قال ابن عباس : وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً ( أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقرّ مشروعاً ) فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك ، فقال لها : حَرُمتتِ عليه ، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، فقال : « ما عندي في أمركِ شيء » ، فقالت : يا رسول الله ما ذكَر طلاقاً . وإنما هو أبو وَلَدِي وأحب الناس إليّ فقال : « حَرُمتِ عليه » . فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي . كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « حَرُمتِ عليه » هتفت وشكت إلى الله ، فأنزل الله هذه الآيات .
وهذا الحديث رواه أبو داود في كتاب الظهار مجملاً بسند صحيح . وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض ، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادِلة خولة أو خويلة أو جميلة ، وعلى أن زوجها أَوس بن الصامت .
وروى الترمذي وأبو داود حديثاً في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سَلمة بن صخر البَيَاضي تشبه قصة خولة أنه ظاهرَ من امرأته ظهاراً موقناً برمضان ثم غلبته نفسهُ فَوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة ، إلاّ أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك .
وإنما نسب ابنُ عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره . وَأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل .
و { قد } أصله حرف تحقيق للخبر ، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها .
فتعيّن أن حرف { قد } هنا مستعمل في التوقع ، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع . قال في « الكشاف » : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادِلة كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها اهـ .
ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف { قد } في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يَتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلةَ المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب ( إنَّ ) في قوله تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [ المؤمنون : 27 ] إنه جُعل غير السائل كالسائل حيث قُدم إليه ما يلوِّح إليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد . ولهذا جزم الرضيّ في « شرح الكافية » بأن { قَد } لا بدّ فيها من معنى التحقيق . ثم يضاف إليه في بعض المواضع معان أخرى .
والسماع في قوله : { سمع } معناه الاستجابة للمطلوب وقبُوله بقرينة دخول { قد } التوقعية عليه فإن المتوقَّع هو استجابة شكواها .
وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويهاً بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها .
والمجادلة : الاحتجاج والاستدلال ، وتقدمت في قوله : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في سورة [ الأنفال : 6 ] .
والاشتكاء : مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه ، يقال : شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة . اشتكى ، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلةِ خلاص .
وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا بكثرة : أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] ، وقوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } [ المؤمنون : 27 ] وهو من المسألة الملقبة في « أصول الفقه » بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعْيان في نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] .
والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب . فالتحاور حصول الجواب من جانبين ، فاقتضت مراجعةً بين شخصين .
والسماع في قوله : { والله يسمع تحاوركما } مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة . وكون الله تعالى عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم ، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه من وحي ، وترقب المرأة الرحمةَ ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما .
وجملة { والله يسمع تحاوركما } في موضع الحال من ضمير { تجادلك } . وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور .
وجملة { الله سميع بصير } تذييل لجملة { والله يسمع تحاوركما } أي : أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئيّ . ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره .