يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والإضلال ، فمن يهده ، فييسره لليسرى ويجنبه العسرى ، فهو المهتدي على الحقيقة ، ومن يضلله ، فيخذله ، ويكله إلى نفسه ، فلا هادي له من دون الله ، وليس له ولي ينصره من عذاب الله ، حين يحشرهم الله على وجوههم خزيًا عميًا وبكمًا ، لا يبصرون ولا ينطقون .
{ مَأْوَاهُمْ } أي : مقرهم ودارهم { جَهَنَّمُ } التي جمعت كل هم وغم وعذاب .
{ كُلَّمَا خَبَتْ } أي : تهيأت للانطفاء { زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } أي : سعرناها بهم لا يفتر عنهم العذاب ، ولا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، ولم يظلمهم الله تعالى ، بل جازاهم بما كفروا بآياته وأنكروا البعث الذي أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب وعجزوا ربهم وأنكروا تمام قدرته .
وقوله - سبحانه - : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } كلام مستأنف منه - تعالى - لبيان نفاذ قدرته ومشيئته .
أى : ومن يهده الله - تعالى - إلى طريق الحق ، فهو الفائز بالسعادة ، المهدى إلى كل مطلوب حسن ، { ومن يضلل } أى : ومن يرد الله - تعالى - إضلاله { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } أيها الرسول الكريم { أولياء } أى : نصراء ينصرونهم ويهدونهم إلى طريق الحق { من دونه } عز وجل ، إذ أن الله - تعالى - وحده هو الخالق للهداية والضلالة ، على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .
وجاء قوله - تعالى - { فهو المهتد } بصيغة الإِفراد حملا على لفظ { من } فى قوله { وَمَن يَهْدِ الله } وجاء قوله : { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } بصيغة الجمع حملا على معناها فى قوله : { ومن يضلل } .
قالوا : ووجه المناسبة فى ذلك - والله أعلم - أنه لما كان الهدى شيئًا واحدًا غير متشعب السبل ، ناسبه الإِفراد ، ولما كان الضلال له طرق متشعبة ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } ناسبه الجمع .
ثم بين - سبحانه - الصورة الشنيعة التى يحشر عليها الضالون يوم القيامة فقال : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً . . } .
والحشر : الجمع . يقال : حشرت الجند حشرًا . أى جمعتهم . وقوله : { على وجوههم } حال من الضمير المنصوب فى نحشرهم . وقوله : { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } أحوال من الضمير المستكن فى قوله { على وجوههم } . أى : نجمع هؤلاء الضالين يوم القيامة ، حين يقومون من قبورهم ، ونجعلهم - بقدرتنا - يمشون على وجوههم ، أو يسحبون عليها ، إهانة لهم وتعذيبًا ، ويكونون فى هذه الحالة عميا لا يبصرون ، وبكما لا ينطقون ، وصما لا يسمعون .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } إما مشيا ، بأن يزحفوا منكبين عليها . ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال : " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال : " الذى أمشاهم على أرجلهم ، قادر على أن يمشيهم على وجوههم " " .
وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها ، كقوله - تعالى - : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } ويشهد له ما أخرجه أحمد والنسائى والحاكم - وصححه - " عن أبى ذر ، أنه تلا هذه الآية . { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } فقال : حدثنى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم " .
وجائز أن يكون الأمران فى حالين : الأول : عند جمعهم وقبل دخولهم النار ، والثانى عند دخولهم فيها .
ثم قال : وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز ، وذلك كما يقال للمنصرف عن أمر وهو خائب مهموم : انصرف على وجهه . . وإياك أن تلتفت إلى - هذا الزعم - أو إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ، ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك .
فإن قيل : كيف نوفق بين هذه الآية التى تثبت لهؤلاء الضالين يوم حشرهم العمى والبكم والصمم ، وبين آيات أخرى تثبت لهم فى هذا اليوم الرؤية والكلام والسمع ، كما فى قوله - تعالى - : { وَرَأَى المجرمون النار . . } وكما فى قوله - سبحانه - : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } وكما فى قوله - عز وجل - : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } فالجواب : أن المراد فى الآية هنا أنهم يحشرون عميا لا يرون ما يسرهم ، وبكما لا ينطقون بحجة تنفعهم ، وصمًا لا يسمعون ما يرضيهم . .
أو أنهم يحشرون كذلك ، ثم تعاد لهم حواسهم بعد ذلك عند الحساب وعند دخولهم النار .
أو أنهم عندما يحشرون يوم القيامة ، ويرون ما يرون من أهوال ، تكون أحوالهم كأحوال العمى الصم البكم ، لعظم حيرتهم ، وشدة خوفهم ، وفرط ذهولهم .
ثم بين - سبحانه - مآلهم بعد الحشر والحساب فقال : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } .
ومعنى : { خبت } هدأت وسكن لهيبها . يقال : خبت النار تخبو إذا هدأ لهيبها .
أى : أن هؤلاء المجرمين مأواهم ومسكنهم ومقرهم جهنم ، كلما سكن لهيب جهنم وهدأ ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم ، زدناهم توقدا ، بأن تبدل جلودهم ولحومهم بجلود ولحوم أخرى ، فتعود النار كحالتها الأولى ملتهبة مستعرة .
وخبو النار وسكونها لا ينقص شيئًا من عذابهم ، وعلى ذلك فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله - عز وجل - { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } وفى هذه الآية ما فيها من عذاب للكافرين تقشعر من هوله الأبدان ، وترتجف من تصويره النفوس والقلوب ، نسأل الله - تعالى - بفضله ورحمته أن يجنبنا هذا المصير المؤلم .
أما عاقبته فيرسمها في مشهد من مشاهد القيامة مخيف :
( ومن يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ، ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ، مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا . ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا ، وقالوا : أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ? أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم ? وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ، فأبى الظالمون إلا كفورا ) . .
ولقد جعل الله للهدى وللضلال سننا ، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها ، ويتعرضون لعواقبها . ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى وللضلال ، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال . فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله ؛ وهذا هو المهتدي حقا ، لأنه اتبع هدى الله . والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله : ( فلن تجد لهم أولياء من دونه ) ويحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة مزعجة : على وجوههم يتكفأون ( عميا وبكما وصما ) مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام . جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى . و ( مأواهم جهنم ) في النهاية ، لا تبرد ولا تفتر ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) .
القول في تأويل قوله تعالى { وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مّأْوَاهُمْ جَهَنّمُ كُلّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } .
يقول تعالى ذكره : ومن يهد الله يا محمد للإيمان به ، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك ، فوفّقه لذلك ، فهو المهتد الرشيد المصيب الحقّ ، لا من هداه غيره ، فإن الهداية بيده . ومن يضلل يقول : ومن يضلله الله عن الحقّ ، فيخذله عن إصابته ، ولم يوفّقه للإيمان بالله وتصديق رسوله ، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله ، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم . ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ يقول : ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرّقهم في القبور عند قيام الساعة على وجوههم عُمْيا وَبُكْما وهو جمع أبكم ، ويعني بالبُكْم : الخُرْس ، كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَبُكْما قال : الخرس وَصُمّا وهو جمع أصمّ .
فإن قال قائل : وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وصما ، وقد قال ورأى المُجْرِمون النّارَ فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقِعُوها فأخبر أنهم يرون ، وقال : إذَا رأتْهُمْ مِنْ مكانٍ بَعيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وزَفِيرا وإذَا أُلْقُوا مِنْها مَكانا ضَيّقا مُقَرّنِينَ دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا فأخبر أنهم يسمعون وينطقون ؟ قيل : جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمي والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة ، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أُخر غير حال الحشر ، ويجوز أن يكون ذلك ، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي :
حدثنيه عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عمْيا وَبْكْما وصُمّا ثم قال : ورأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوا وقال : سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وَزَفِيرا وقال دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا . أما قوله : عُمْيا فلا يرون شيئا يسرّهم . وقوله : بُكْما لا ينطقون بحجة . وقوله : صُمّا لا يسمعون شيئا يسرّهم . وقوله : مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ يقول جلّ ثناؤه : ومصيرهم إلى جهنم ، وفيها مساكنهم ، وهم وَقُودها ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَأءْوَاهُمْ جَهَنّمُ يعني إنهم وقودها .
وقوله : كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا يعني بقوله خبت : لانت وسكنت ، كما قال عديّ بن زيد العبادي في وصف مزنة :
وَسْطُهُ كالْيَرَاعِ أوْ سُرُجِ المِجْدَلِ *** حِينا يَخْبُو وحِينا يُنِيرُ
يعني بقوله : يخبو السرج : أنها تلين وتضعف أحيانا ، وتقوى وتنير أخرى ، ومنه قول القطامي :
*** فَيَخْبو ساعَةً ويَهُبّ ساعا ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن تأويله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : كُلّما خَبَتْ قال : سكنت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا يقول : كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئا صارت جمرا تتوهّج ، فذلك خُبُوّها ، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس كُلّما خَبَتْ قال : خبوّها أنها تَسَعّر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم ، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهج ، فإذا بُدّلوا خلقا جديدا عاودتهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا يقول : كلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها ، ليذوقوا العذاب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا قال : كلما لان منها شيء .
حُدثت عن مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك كُلّما خَبَتْ قال : سكنت . وقوله : زِدْناهُمْ سَعيرا يقول : زدنا هؤلاء الكفار سعيرا ، وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها ، في أجسامهم .