تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ 2 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }

يقول تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ } أي : محرماته التي أمركم بتعظيمها ، وعدم فعلها ، والنهي يشمل النهي عن فعلها ، والنهي عن اعتقاد حلها ؛ فهو يشمل النهي ، عن فعل القبيح ، وعن اعتقاده .

ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام ، ومحرمات الحرم . ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله : { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ } أي : لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ }

والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا ، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا .

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم .

وقال آخرون : إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها ، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه ، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك ، وقالوا : المطلق يحمل على المقيد .

وفصل بعضهم فقال : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها ، فإنه يجوز .

وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك ، لأن أول قتالهم في " حنين " في " شوال " . وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع .

فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال ، فإنه يجوز للمسلمين القتال ، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء .

وقوله : { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } أي : ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة ، أو غيرهما ، من نعم وغيرها ، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله ، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها ، ولا تقصروا به ، أو تحملوه ما لا يطيق ، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله ، بل عظموه وعظموا من جاء به . { وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } هذا نوع خاص من أنواع الهدي ، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى ، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله ، وحملا للناس على الاقتداء ، وتعليما لهم للسنة ، وليعرف أنه هدي فيحترم ، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة .

{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ } أي : قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ } أي : من قصد هذا البيت الحرام ، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة ، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به ، والصلاة ، وغيرها من أنواع العبادات ، فلا تتعرضوا له بسوء ، ولا تهينوه ، بل أكرموه ، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم .

ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين ، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه ، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك .

وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ } فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم .

والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي ، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله ، كما قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ }

ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ } أي : إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة ، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد ، وزال ذلك التحريم . والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل .

{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ } أي : لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم ، حيث صدوكم عن المسجد ، على الاعتداء عليهم ، طلبا للاشتفاء منهم ، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله ، ويسلك طريق العدل ، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه ، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه ، أو يخون من خانه .

{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ } أي : ليعن بعضكم بعضا على البر . وهو : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله وحقوق الآدميين .

والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها ، بكل قول يبعث عليها وينشط لها ، وبكل فعل كذلك .

{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ } وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها ، ويحرج . { وَالْعُدْوَانِ ْ } وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ } على من عصاه وتجرأ على محارمه ، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

وبعد أن أشار - سبحانه - إلى ما أحل لعباده من طيبات ، وما حظره عليهم من أفعال ، أتبع ذلك بنداء آخر إليهم نهاهم فيه عن استحلال أشياء معينة فقال - تعالى - :

{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ . . . }

قوله : { لاَ تُحِلُّواْ } من الإِحلال الذي هو ضد التحريم . ومعننى عدم إحلالهم لشعائر الله : تقرير حرمتها عملا واعتقادا ، والالتزام بها بالطريقة التي قررتها شريعة الله .

والشعائر : جمع شعيرة - على وزن فعلية - وهي في الأصل ما علت شعاراً على الشيء وعلامة عليه من الإِشعار بمعنى الإعلام . وكل شيء اشتهر فقد علم . يقال : شعرت بكذا .

أي علمته .

والمراد بشعائر الله هنا : حدوده التي حدها ، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التي أوجبها على عباده .

ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا : مناسك الحج وما حرمه الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب في أثناء الإحرام . ومن غير ذلك من الأفعال التي نهى الله عن فعلها في ذلك الوقت فيكون المعنى .

لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم .

والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التي كلف الله بها عباده . وقد رجحه ابن جرير بقوله : وأولى التأويلات بقوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } قول من قال : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تضيعوا فرائضه . فيدخل في ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه .

وإنما قلنا ذلك القول أولى ، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها ، نهيا عاماً من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء . فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك .

وأضاف - سبحانه - الشعائر إليه . تشريفا لها ، وتهويلا للعقوبة التي تترتب على التهاون بحرمتها . وعلى مخالفة ما أمر الله به في شأنها .

وقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } معطوف على شعائر الله . والمراد به الجنس . فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم . وهي أربعة : ذو العقدة ، وذو الحجة والمحرم ، ورجب .

وسمي الشهر حراماً : باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام .

أي : لا تحلوا - أيها المؤمنون - القتال في الشهر الحرام ، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال .

قال ابن كثير : يعني بقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } تحريمه ، والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال كما قال - تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وقال - تعالى - : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهراً . منها أربعة حرم " وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت . كما هو مذهب طائفة من السلف .

وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ . وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم .

واحتجوا بقوله - { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والمراد أشهر التسيير الأربعة . قالوا : فلم يستثن شهراً حراما من غيره .

والمقصود بالهدى في قوله { وَلاَ الهدي } ما يتقرب به الإِنسان إلى الله من النعم ليذبح في الحرم ، وهو جمع هدية - بتسكين الدال - ، أي : ولا تحلوا حرمة ما يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله - تعالى - بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله .

وخص ذلك بالذكر مع دخوله في الشعائر ، لأن فيه نفعا للناس ، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره ، ولأن في ذكره تعظيما لشأنه .

وقوله : { وَلاَ القلائد } جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء . وقد كانوا يضعون في أعناق الهدى ضفائر من صوف ، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه .

والمراد : ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء .

وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفاً لها واعناءً بشأنها . لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج بها أظهر . فكأنه قيل : لا تحلوا الهدى وخصوصاً ذوات القلائد منه .

ويجوز أن يراد النهي عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها أي : لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله : وأما القلائد ففيها وجهان :

أحدهما : أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن . وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } كأنه قيل : والقلائد منها خصوصا .

والثاني : أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهي عن التعرض للهدى ، على معنى : ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها . كما قال { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها .

وقوله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } معطوف على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } .

وقوله : { آمِّينَ } جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم . يقال : أممت كذا أي : قصدته أي : ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثواباً . ورضواناً لتعبدهم في بيته المحرم .

ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضواناً ؟

قال بعضهم : المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة . فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله - تعالى - مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضميرهم في قوله { مِّن رَّبِّهِمْ } للتشريف والتكريم .

وجملة { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من الضمير المستكن في قوله { آمِّينَ } وقد جيء بها لبيان مقصدهم الشريف ، ومسعاهم الجليل .

أي : قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثواباً من ربهم ، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه - سبحانه - عنهم .

وعلى هذا الاقول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها ، وتكون توجيهاً عاماً من الله - تعالى - لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين ، مهما حدث بينهم من نزاع أو خلاف .

وقال آخرون : المراد بهم المشركون . واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدي من أن الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحطين بن هند ، وذلك نه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله إلام تدعو ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فقال له : حسن ما تدعو إليه إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم . فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به .

ثم أقبل من العام القادم جارحاً ومعه تجارة عظيمة . فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التعرض له . فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزلت الآية .

وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة . وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم من الله ، فوصفهم - سبحانه - على حسب ظنهم وزعمهم . ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى - { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوي والأخروي ولو في زعم المشركين .

والذي نراه أولى هو القول الأول ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التي هي حدوده وفرائضه ومعالم دينه ، ولأن قوله - تعالى - : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } هذا الوصف إنما يليق بالمسلم دون الكافر ، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه - سبحانه - .

قال الفخر الرازي : " أمرنا الله في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين ، وحرم علينا أخذا الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين . والدليل عليه أول الآية وآخرها .

أما أول الآية فهو : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار .

وأما آخر الآية فهو قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال أي شيء من الشعائر التي حرم الله - تعالى - استحلالها ، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التي عطفت عليها اهتماماً بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها ، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافع شهوة الانتقام ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبي ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك .

ثم أتبع - سبحانه - هذا النهي ببيان جانب من مظاهر فضله . حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .

أي : وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد ، وأبيح لكم أيضاً كل ما كان مباحاً لكم قبل الإحرام .

وإنما خص الصيد بالذكر ، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيراً . كبيرهم وصغيرهم ، وغنيهم وفقيرهم . والإِشارة إلى أن الذي ينبغي الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا يكون إرضاء للشهوات .

والأمر في قوله : { فاصطادوا } للإِباحة ، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامزه أن يصطاد . بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإِحرام ومثله قوله - تعالى - { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } أي : أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة .

ثم نهى - سبحانه - المؤمنين على أن يحملهم البعض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال - تعالى - : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .

والجلمة الكريمة معطوفة على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } لزيادة تقرير مضمونه .

ومعنى { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه ، أو معناه : ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب ، غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة .

وأصل الجرم : قطع الثمرة من الشجرة ، أطلق على الكسب ، لأن الكاسب ينقطع لكسبه .

قال صاحب الكشاف : جرم يجري مجرى " كسب " في تعديه إلى مفعول واحد واثنين .

تقول : جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا ، نحو كستبه إياه . ويقال : أجرمته ذنبا ، على نقل المتعدي إلى معفول بالهمزة إلى مفعولين . كقولهم : أكسبته ذنبا " .

والشنآن : البغض الشديد . يقال : شئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديداً .

والمعنى : ولا يحملنكم - أيها المؤمنون - بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام ، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم ، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل ، فإن الإِسلام - وهو دين العدل والتسامح - لا يبرره ولا يقبله ، ولكن الذي يقبله الإِسلام هو احترام المسجد الحرام ، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيماناً ، ويفئ العاصي إلى رشده وصوابه .

قال ابن كثير : وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : ولا يحملنكم بغض قوم ، " قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام - وذلك عام الحديبية - ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد .

. فإن العدل واجب على كل أحد . في كل أحد ، وفي كل حال . والعدل ، به قامت السموات والأرض .

وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .

وعن زيد بن أسلم ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية ، حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركني من أهل المشرق يريدون العمرة . فقال الصحابة . نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية " .

وقوله : { شَنَآنُ قَوْمٍ } مصدر مضاف لمفعوله . أي : لا يحملنكم بغضكم قوماً .

وقوله : { أَن صَدُّوكُمْ } - بفتح همزة أن - مفعول لأجله بتقدير اللام . أي : لأن صدوكم فهو متعلق بالشنآن .

وقوله { أَن تَعْتَدُواْ } في موضع نصب على أنه مفعول به .

أي : لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم .

وقراءة { أَن صَدُّوكُمْ } بفتح الهمزة - هي قراءة الجمهور ، وهي تشير إلى أن الصد كان في الماضي ، وهي واضحة ولا إشكال عليها .

قال الجمل : وفي قراءة لأبي عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله . وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضي أن الأمر المشروط لم يقع . مع أن الصد كان قد وقع . لأنه كان في عام الحديبية وهي سنة ست . والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكانت مكة عام الفتح في أيدي المسلمين فيكف يصدون عنه ؟ وأجيب بوجهين :

أولهما : لا نسلم أن الصد كان قيل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه .

والثاني : أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى : إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية - فلا تعتدوا -

قال بعضهم : وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل ، لأن النهي عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام ، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق ، وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل .

ثم أمر الله - تعالى - عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } .

والبر معناه : التوسع في فعل الخير ، وإسداء المعروف إلى الناس .

والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه .

قال القرطبي : قال الماوردي : ندب الله - تعالى - إلى التعاون بالبر ، وقرنه بالتقوى له ، لأن في التقوى رضا الله ، وفي البر رضا الناس .

ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته .

والإِثم - كما يقول الراغب - اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام ، والآثم هو المتحمل للإِثم . ثم أطلق على كل ذنب ومعصية .

والعدوان : تجاود الحدود التي أمر الشارع الناس بالوقوف عندها .

أي : وتعاونوا - أيها المؤمنون - على كل ما هو خير وبر وطاعة لله - تعالى - ، ولا تتعاونوا على ارتكابا الآثام ولا على الاعتداء على حدوده ، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدي إلى السعادة ، أما التعاون على ما يغضب الله - تعالى - فيدؤي إلى الشقاء .

قال الآلوسي : والجملة عطف على قوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } من حيث المعنى ، فكأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه ، وتعاونوا على العفو والإِغضاء .

وقال بعضهم : هو استئناف ، والوقف على { أَن تَعْتَدُواْ } لازم .

هذا ، وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن أبي مسعود الانصاري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أبدع بي - أي : هلكت دابتي التي أركبها - فاحملني فقال : " ما عندي " فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " وروى الإِمام مسلم - أيضاً - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه . لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " .

وقوله - تعالى - { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإِثم والعدوان . أي : اتقوا الله - أيها الناس - واخشوه فيما مركم ونهاكم ، فإنه - سبحنه شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانحرف عن طريقه القويم .

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم ، وعن الإِخلال بشيء من أحكامها كما نهتهم عن أن بحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذي ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته - سبحانه - وحسن مثوبته ، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها ، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم . ثم حذرتهم في نهايتها من العقاب الشديد الذي ينزله سبحانه - بكل من عصاه ، وانحرف عن هداه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله :

( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا )

وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى ( شعائر الله ) في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السي القرآني إلى الله تعظيما لها ، وتحذيرا من استحلالها .

والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ؛ وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ؛ فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان ، أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها ، وأقام هذه الحرمة على أمر الله ، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . . ) وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين ، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ، ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .

والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة ، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي نافة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ؛ بل يجعلها كلها للفقراء .

والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر : أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل : إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به ، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا : إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . . وقوله : ( فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) . . والأظهر القول الأول ؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة ، للمناسبة بين هذا وذاك .

كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .

ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام ، في غير البيت الحرام ، فلا صيد في البيت الحرام : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) . .

إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ؛ استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ؛ ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام ، وفي كل مكان . .

وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان ، يدعو الله الذين آمنوا به ، وتعاقدوا معه ، أن يفوا بعقدهم ؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية ، والعواطفالذاتية ، والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ؛ وقبله كذلك ؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض ، فهذا كله شيء ؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم :

( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .

إنها قمة في ضبط النفس ؛ وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .

إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام ، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .

وهو تكليف ضخم ؛ ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية ، ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ، ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ؛ لا في الإثم والعدوان ؛ ويخوفها عقاب الله ، ويأمرها بتقواه ، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط ، وعلى التسامي والتسامح ، تقوى لله ، وطلبا لرضاه .

ولقد استطاعت التربية الإسلامية ، بالمنهج الرباني ، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية ، والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور : " أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . كانت حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ؛ وكان الحلف على النصرة ، في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى ، وهو يقول :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد !

ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا :

( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .

جاء ليربط القلوب بالله ؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله . جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية ، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء . .

وولد " الإنسان " من جديد في الجزيرة العربية . . ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله . . وكان هذا هو المولد الجديد للعرب ؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض . . ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء : " انصر أخاك ظالما أو مظومًا " . كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء !

والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية ، وأفق الإسلام ؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . وقول الله العظيم : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .

وشتان شتان !