فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ فُرُشِۭ بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقٖۚ وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَيۡنِ دَانٖ} (54)

{ متكئين } قال في القاموس ، توكأ عليه تحامل واعتمد ، واتكأ جعل له متكأ .

" وقوله صلى الله عليه وسلم : أما أنا فلا آكل متكأ " ، أي جالسا جلوس المتمكن المتربع ونحوه من الهيئات المستدعية لكثرة الأكل ، بل كان جلوسه للأكل مستوفزا مقعيا غير متربع ، ولا متمكن ، وليس المراد الميل على شق كما يظنه عوام الطلبة ، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب ، المتنعم البدن ، بخلاف المريض والمهموم ، وانتصابه على الحال من فاعل قوله : { ولمن خاف } ، وإنما جمع حملا على معنى من ، وقيل : منصوب على المدح ، وقيل : عاملها محذوف والتقدير يتنعمون متكئين أي مضطجعين أو متربعين .

{ على فرش بطائنها من استبرق } والفرش جمع فراش ، والبطائن هي التي تحت الظهائر ، وهي جمع بطانة ، قال الزجاج : هي ما يلي الأرض ، والإستبرق ما غلظ من الديباج ، وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر ؟ قيل لسعيد بن جبير البطائن من استبرق فما الظواهر ؟ قال : هذا مما قال الله فيه فلا تعلم النفس ما أخفى لهم من قرة أعين ، وبه قال ابن عباس قيل : إنما اقتصر على ذكر البطائن لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر ، وقال الحسن : بطائنها من استبرق ، وظواهرها من نور جامد وقال الحسن أيضا البطائن هي الظهائر ، وبه قال الفراء ؛ وقال : قد تكون البطانة الظهارة ، والظهارة البطانة ، لأن كل واحد منهما يكون وجها ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه ، وأنكر ابن قتيبة هذا وقال : لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه في الآية : أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر ؟ وقيل : ظهائرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهابة شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق ، ولا بد أن تكون الظهائر خيرا من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر .

{ وجنى الجنتين دان } مبتدأ وخبر و { دان } أصله دانوا ، مثل غاز فأعل إعلاله وجنى فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض ، والجني ما يجتني من الثمار ، قيل : إن الشجرة تدنو حتى يجتنيها من يريد جناها ، قال ابن عباس : جناها ثمرها ، والداني القريب منك أي يناله القائم والقاعد والمتكئ والنائم وهذا بخلاف ثمر الدنيا ، فإنها لا تنال إلا بكد وتعب ، وقيل : لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك ، قال الرازي : جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الثمرة على رؤوس الشجر في الدنيا بعيدة عن الإنسان المتكئ : وفي الجنة يتكئ والثمرة تتدلى إليه .

وثانيهما : أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها ، وفي الآخرة تدنو منه ؛ وتدور عليه .

وثالثها : أن الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها ، وثمار الجنة كلها تدنو إليه في وقت واحد ، ومكان واحد .