{ التي لم يخلق مثلها في البلاد } هذه صفة لعاد أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة وهم الذين قالوا { من أشد من قوة } أو صفة للقرية على قول من قال إرم اسم لقريتهم أو للأرض التي كانوا فيها ، والأول أولى ويدل عليه قراءة أبي بن كعب { التي لم يخلق مثلهم في البلاد } وقيل الإرم الهلاك قال الضحاك إرم ذات العماد أي أهلكهم فجعلهم رميما ، وبه قال شهر بن حوشب .
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها وأن حصباءها جواهر ، وترابها مسك ، وليس بها أنيس ولا فيها ساكن من بني آدم وأنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع تارة تكون باليمن وتارة تكون بالشام وتارة تكون بالعراق وتارة تكون بسائر البلاد . وهذا كذب بحت لا ينفق{[1712]} على من له أدنى تمييز .
وزاد الثعلبي في تفسيره فقال أن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة ، وهذا كذب على كذب ، وافتراء على افتراء .
وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء وفاقرة عظمى . ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترئون على الكذب تارة على بني إسرائيل وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين ، وتارة على رب العالمين ، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها بل موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة ، والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه ، فحرفوا وغيروا وبدلوا ، ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني .
قال الحافظ ابن كثير لا تغتر بما ذكر جماعة من المفسرين من ذكر مدينة يقال لها إرم ذات العماد فإن ذلك كله من خرافات الإسرائيليين من وضع الزنادقة منهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس ، فهذا وأمثاله مختلق لا حقيقة له .
وأما قوله تعالى فالمراد من الآية إنما هو الإخبار عن هلاك القبيلة المسماة بعاد الذين أرسل الله فيهم هودا فكذبوه فأهلكهم الله ، وإرم عطف بيان لعاد أو بدل منه للإعلام بأنهم عاد الأولى فسموا باسم جدهم إرم كما يقال لبني هاشم " هاشم " لأن عاد هو ابن عوض بن إرم سام بن نوح ، وقيل إرم اسم بلدتهم وأرضهم بالتقدير بعاد أهل إرم كقوله تعالى { واسأل القرية } أي أهلها وذات العماد إن كان صفة للقبيلة فمعناها أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها ، أو هو كناية عن طول أجسامهم وتشبيهها بالأعمدة ، وإن كان صفة للبلدة فمعناه أنها ذات عمد من الحجارة .
وتعقب هذا القول بأنه لو كان ذلك مرادا لقال التي لم يعمل مثلها في البلاد وإنما قال { لم يخلق } فالقول الأول هو الصواب انتهى ، وبه قال شيخ الإسلام نجم الدين محمد الغيظي رحمه الله تعالى .
قال عبد الرحمان بن خلدون في كتاب العبر بعد ذكر أغلاط المؤرخين :
وأبعد من ذلك وأغرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة والفجر في قوله تعالى { إرم ذات العماد } فيجعلون لفظة إرم اسما لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين وهي كذا وكذا ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين ، وينقلون عن عبد الله ابن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها إلخ وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض ، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا والأدلاء تقص طرقه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر . ولا ذكرها أحد من الاخباريين ، ولا من الأمم ، ولو قالوا أنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة ، وبعضهم يقول أنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها ، وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة ، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر ، مزاعم كلها أشبه بالخرافات .
والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الأعراب في لفظة ذات العماد أنها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء ، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات ، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع وصفهم بأنه أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم لا أنه بناء خاص في مدينة معينة كما تقول قريش كنانة والياس مضر ، وربيعة نزار ، وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحل لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله تعالى عن مثلها لبعدها عن الصحة انتهى كلامه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.