اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّتِي لَمۡ يُخۡلَقۡ مِثۡلُهَا فِي ٱلۡبِلَٰدِ} (8)

قوله : { التي لَمْ يُخْلَقْ } : يجوز أن يكون : تابعاً ، وأن يكون : مقطوعاً ، رفعاً ونصباً .

والعامة على : «يُخْلَق » مبنياً للمفعول ، «مِثْلُهَا » مرفوع على ما لم يسم فاعله .

وعن ابن الزُّبيرِ{[60096]} : «يَخْلقُ » مبنياً للفاعل ، «مِثْلها » منصوب به ، وعنه أيضاً : «نَخْلقُ »{[60097]} بنون العظمة .

فصل في الكلام على إرم وعاد

قال القرطبيُّ{[60098]} : من لم يضف جعل «إرم » : اسم «عاد » ، ولم يصرفه ؛ لأنه جعل «عاداً » اسم أبيهم ، و«إرم » : اسم القبيلة ، وجعله بدلاً منه ، أو عطف بيان .

ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم ، أو اسم بلدتهم ، وتقديره : بعادٍ أهل إرمَ ، كقوله : { وَسْأَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] ، ولم تنصرف - قبيلة كانت ، أو أرضاً - للتعريف والتأنيث .

والإرم : العلم ، أي : بعاد أهل ذات العلم ، والخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد عام ، وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهوراً ، إذا كانوا في بلاد العرب ، وحجر ثمود موجود اليوم ، وأمر فرعون يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب ، واستفاضت به الأخبار ، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب .

قوله : «بعَادٍ » ، أي : بقوم عاد .

قال أبو هريرة : كان الرجل من قوم عادٍ ، يتخذ المصراع من حجارة ، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة ، لم يستطيعوا أن يقلوه{[60099]} .

[ وإرم قال ابن إسحاق : هو سام بن نوح عليه السلام .

وعن ابن عباس وابن إسحاق أيضاً قال : عاد بن إرم بن عاص بن سام بن نوح عليه السلام{[60100]} .

قال ابن إسحاق : كان سام بن نوح له أولاد منهم إرم بن سام ، وأرفخشذ بن سام ؛ فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك والطغاة والعصاة ]{[60101]} .

وإرم : قال مجاهد : «إرم » هي أمة من الأمم ، وعنه أيضاً : ان معنى «إرم » : القديمة ، وعنه أيضاً : القوية{[60102]} .

وقال قتادةُ : هي قبيلة من عاد{[60103]} .

وقيل : هما عادان ، فالأولى : هي «إرم » ، قال تعالى : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ، فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح : عاد كما يقال لبني هاشم : هاشم ، ثم يقال للأولين منهم : عاداً الأولى ، وإرم : تسمية لهم باسم جدهم ، ولمن بعدهم : عاد الأخيرة ؛ قال ابن الرقيَّات : [ المنسرح ]

5195- مَجْداً تَلِيداً بَناهُ أوَّلهُ *** أدْركَ عاداً وقَبْلهَا إرَمَا{[60104]}

وقال معمر : «إرم » : إليه مجمع عاد وثمود ، وكان يقال : عاد وإرم ، وعاد وثمود ، وكانت القبائل تنسب إلى إرم ، «ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد » .

قال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء : كان الرَّجل منهم ، طوله خمسمائة ذراع ، والقصير منهم ، طوله ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه{[60105]} .

وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً : أن طول الرجل منهم ، كان سبعين ذراعاً{[60106]} .

قال ابن العربي : وهو باطل ؛ لأن في الصحيح : «أنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِراعاً في الهواءِ ، فَلم يزل الخَلْقُ يَنْقصُ إلى الآنَ » .

وزعم قتادةُ : أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً{[60107]} .

قال أبو عبيدة : «ذَاتِ العمادِ » : أي : ذات الطول ، يقال : رجل معمد إذا كان طويلاً ونحوه عن ابن عباس ، ومجاهد .

وعن قتادة : كانوا عماداً لقومهم ، يقال : فلان عميد القوم وعمودهم : أي : سيدهم ، وعنه أيضاً : كانوا أهل خيام وأعمدة ينتجعون الغيوث ، ويطلبون الكلأ ، ثم يرجعون إلى منازلهم .

وقيل : المعنى : ذات الأبنية المرفوعة على العمد ، وكانوا ينصبون الأعمدة ، فيبنون عليها القصور .

وقال ابن زيد : ذَاتِ العِمادَ «يعني : إحكام البنيان بالعمد{[60108]} .

قال الجوهري{[60109]} : «والعماد : الأبنية الرفيعة ، تذكر وتؤنث ، والواحدة : عمادة » .

وقال الضحاك : «ذات العماد » أي ذات الشدة والقوة مأخوذة من قوة الأعمدة بدليل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً }{[60110]} [ فصلت : 15 ] .

فصل في الضمير في «مثلها »

والضمير في : «مِثلُهَا » يرجع إلى القبيلة ، أي : لم يخلق مثل القبيلة في البلاد قوة وشدة ، وعظم أجساد .

وعن الحسن وغيره : وفي حرف عبد الله{[60111]} : «التي لم يخلق مثلهم في البلاد » .

وقيل : يرجع إلى المدينة ، والأول أظهر وعليه الأكثر .

فصل

قال القرطبيُّ{[60112]} : «رُويَ عن مالك رضي الله عنه أن كتاباً وجد «بالاسكندرية » فلم يدر ما فيه ، فإذا فيه «أنَا شدَّادُ بنُ عادٍ ، الذي رفَعَ العِمَادَ ، بنيتها حين لا شَيْبَ ولا مَوْتَ » قال مالك : إن كان لتمرُّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة » .

وروي : أنه كان لعاد ابنان : شدَّاد ، وشديد ، ثم مات شديد ، وخلص الأمر لشداد ، فملك الدنيا ، ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة ، فقال : أبني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحارى عدن ، في ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدينة عظيمة ، قصورها من الذهب ، والفضة ، وأساطينها من الزَّبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار ، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة ، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا .

وعن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له ، فوقع عليها ، فحمل مما قدر عليه مما هنا ، وبلغ خبره معاوية ، فاستحضره ، فقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله ، فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك ، أحمر أشقر ، قصير ، على حاجبه خال ، وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت ، فأبصر ابن قلابة ، وقال : هذا والله ذلك الرجل .

فصل في إجمال القول في الكفار هاهنا

ذكر الله - تعالى - هاهنا - قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين ، وهم : عاد ، وثمود ، وقوم فرعون ، على سبيل الإجمال حيث قالوا : «فَصَبَّ عَليْهَم ربُّكَ سوْطَ عذابٍ » ، ولم يبين كيفية ذلك العذاب ، وبين في سورة : «الحاقَّة » ، ما أبهم{[60113]} في هذه السورة ، فقال تعالى : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 5 ، 6 ] إلى قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ } [ الحاقة : 9 ] .


[60096]:ينظر: المحرر الوجيز 5/478، والبحر المحيط 8/464، والدر المصون 6/519.
[60097]:ينظر السابق.
[60098]:الجامع لأحكام القرآن 20/30.
[60099]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/31).
[60100]:ينظر المصدر السابق.
[60101]:سقط من: ب.
[60102]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/566) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (583) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
[60103]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/566).
[60104]:تقدم.
[60105]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/31).
[60106]:ينظر المصدر السابق.
[60107]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/529) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/583) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[60108]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (20/31) عن الضحاك.
[60109]:ينظر الصحاح (2/511).
[60110]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/31) عن الضحاك.
[60111]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 20/32.
[60112]:ينظر السابق.
[60113]:في ب: أصابهم.