فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفرقان

هي سبع وسبعون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور ، وكذا أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه من طرق عن ابن عباس . وأخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير . قال القرطبي : وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ، وهي { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } الآيات . وأخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حبان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال : " سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستمتعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أرسله ، أقرئنا هشام » ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كذلك أنزلت ، ثم قال : أقرئنا عمر » ، فقرأت القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كذلك أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه » . تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهمّ ، ثم في النبوّة لأنها الواسطة ، ثم في المعاد لأنه الخاتمة .

وأصل تبارك مأخوذ من البركة ، وهي : النماء والزيادة ، حسية كانت أو عقلية . قال الزجاج : تبارك تفاعل ، من البركة . قال : ومعنى البركة : الكثرة من كل ذي خير ، وقال الفراء : إن تبارك وتقدّس في العربية واحد ، ومعناهما العظمة . وقيل : المعنى : تبارك عطاؤه : أي زاد وكثر . وقيل المعنى : دام وثبت . قال النحاس : وهذا أولاها في اللغة ، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت ، ومنه برك الجمل : أي دام وثبت . واعترض ما قاله الفراء بأن التقديس إنما هو من الطهارة ، وليس من ذا في شيء . قال العلماء : هذه اللفظة لا تستعمل إلاّ لله سبحانه ، ولا تستعمل إلاّ بلفظ الماضي ، والفرقان القرآن ، وسمي فرقاناً : لأنه يفرق بين الحقّ والباطل بأحكامه ، أو بين المحق والمبطل ، والمراد بعبده نبينا صلى الله عليه وسلم . ثم علل التنزيل : { لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً } فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال ، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم أو الفرقان ، والمراد بالعالمين هنا الإنس والجنّ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهما ، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلاً إلى الثقلين ، والنذير : المنذر : أي ليكون محمد صلى الله عليه وسلم منذراً ، أو ليكون إنزال القرآن منذراً ، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة : أي ليكون إنزاله إنذاراً ، أو ليكون محمد إنذاراً ، وجعل الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم أولى ، لأن صدور الإنذار منه حقيقة ، ومن القرآن مجاز ، والحمل على الحقيقة أولى ولكونه أقرب مذكور . وقيل إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ،

/خ6