فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً } شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه ، وإقباله عليه . وانتصاب { حنيفاً } على الحال من فاعل أقم أو من مفعوله ، أي مائلاً إليه مستقيماً عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة .

{ فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } الفطرة في الأصل : الخلقة ، والمراد بها هنا : الملة ، وهي الإسلام والتوحيد . قال الواحدي : هذا قول المفسرين في فطرة الله ، والمراد بالناس هنا : الذين فطرهم الله على الإسلام ؛ لأن المشرك لم يفطر على الإسلام ، وهذا الخطاب وإن كان خاصاً برسول الله فأمته داخلة معه فيه . قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل : والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم ، وأنهم جميعاً مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة » . وفي رواية : «على هذه الملة ، ولكن أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ » ثم يقول أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } . وفي رواية " حتى تكونوا أنتم تجدعونها " وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضداً لحديث أبي هريرة هذا ، فكل فرد من أفراد الناس مفطور ، أي مخلوق على ملة الإسلام ، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين ، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان ، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم ، وقول جماعة من المفسرين وهو الحق . والقول بأن المراد بالفطرة هنا : الإسلام هو مذهب جمهور السلف . وقال آخرون : هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها ، فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة . والفاطر في كلام العرب هو المبتدىء ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة ، وإهمال معناها شرعاً . والمعنى الشرعيّ مقدّم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع ، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها المعنى اللغوي كقوله تعالى : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض } [ فاطر : 1 ] أي خالقهما ، ومبتديهما ، وكقوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } [ يس : 22 ] إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا ، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة ، وهو ما ذكره الأوّلون كما بيناه ، وانتصاب { فطرة } على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها . وقال الزجاج : فطرة منصوب بمعنى : اتبع فطرة الله ، قال : لأن معنى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ } اتبع الدين واتبع فطرة الله . وقال ابن جرير : هي مصدر من معنى { فأقم وجهك } لأن معنى ذلك : فطرة الله الناس على الدين .

وقيل : هي منصوبة على الإغراء ، أي الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله ، وردّ هذا الوجه أبو حيان وقال : إن كلمة الإغراء لا تضمر إذ هي عوض عن الفعل ، فلو حذفها لزم حذف العوض ، والمعوّض عنه وهو إجحاف . وأجيب بأن هذا رأي البصريين ، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك .

وجملة { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة ، أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه . وقيل : هو نفي معناه النهي ، أي لا تبدّلوا خلق الله . قال مجاهد وإبراهيم النخعي : معناه لا تبديل لدين الله . قال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد : هذا في المعتقدات . وقال عكرمة : إن المعنى لا تغيير لخلق في البهائم بأن تخصى فحولها { ذلك الدين القيم } أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له هو الدين القيم ، أو لزوم الفطرة هو الدين القيم { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به .

/خ37