44-{ وخذ بيدك ضغتا فاضرب به ولا تخنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } .
كان أيوب في مرضه قد كلّف زوجته بأمر ، فأبطأت عليه ، فأقسم بالله لئن شفاه الله ليضربنها مائة ضربة ، ثم تمّ الشفاء ، ورغب في أن يبّر بقسمه ، وفي نفس الوقت كانت زوجته وفيّة له في محنته ، تعطف عليه ، وتتألم لألمه ، وتغمره بعطفها وحنانها وخدمتها ، بعد أن تفرق عنه الأهل والأصحاب ، فأمره الله أن يأخذ حِزْمة من حشيش أو ريحان ، يختلط فيها الرطب باليابس فيها مائة عود ، فيضرب زوجته ضربة واحدة ، فيبر في يمينه ولا يحنث ، وفي نفس الوقت ييسّر على زوجته الصابرة الوفية .
قال تعالى : { وخذ بيدك ضغتا فاضرب به ولا تحنث . . . }
حيث أمره الله أن يتحلل من قسَمِه بأهون شيء عليه وعليها ، والضغث في اللغة : القبضة من الحشيش ، اختلط فيها الرطب باليابس ، وقيل : هي قبضة من عيدان مختلفة ، يجمعها أصل واحد .
{ إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } .
يأتي هذا الثناء من العلي القدير ، تقديرا لصبر أيوب وثباته ، ورجوعه إلى ربه ، ولا يقال إنه اشتكى ، لأن الشكوى لله تعالى تضرع ودعاء ومناجاة ، فقد قال يعقوب : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله . . . }[ يوسف : 86 ] .
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن آذاه أهل الطائف : " اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا رب العالمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربّي ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني ، أو بعيد ملكته أمري ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن ينزل بي سخطك ، أو يحلّ عليّ غضبك ، لك العتبى حتى ترضى ، عافيتك هي أوسع لي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "
وتضرع يونس في بطن الحوت ، وظلام البحر ، وظلام النفس : { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } . [ الأنبياء : 87 ] .
لقد تعرض الأنبياء والمرسلون لكثير من الآلام في الدنيا ، فكانوا يرفعون أكفّهم إلى الله ، يشتكون البلاء ويسألون الله العافية ، لقد وضع في النار إبراهيم ، وأضجع للذبح إسماعيل ، واشتد البلاء بأيوب ، وبكى يعقوب : { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } . [ يوسف : 84 ] .
وخرج موسى من مصر خائفا يترقب قال : ربي نجني من القوم الظالمين ، واشتد الجوع والمعاناة بموسى ، فقال : { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمينّ } . [ القصص : 24-25 ] .
وتعرض المسيح لمحاولة قتله وصلبه ، قال تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم . . . } . [ النساء : 157 ] .
وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة ملحمة طويلة من العمل والأمل والأحزان ، والدعاء الذي حفلت به كتب السّنة ، فقد اشتكى إلى الله حين قُتل سبعون من القراء عند بئر معونة ، وألحف إلى ربه في الدعاء عند الهجرة ، وعند غزوة بدر ، وفي غزوة الأحزاب جثا صلى الله عليه وسلم على ركبتيه في ليلة باردة شاتية ، وقال : " اللهم رب الأرباب ومسبب الأسباب اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين ، يا جار المستجيرين ، ويا أمان الخائفين ، يا ملاذ المضطرين ، انصرنا عليهم يا رب العالمين ، فأرسل الله ريحا عاتية ، خلّعت خيام الكافرين ، وكفأت قدورهم ، وألقى الله الرعب في قلوبهم ، ففرّوا مذعورين .
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } . [ الأحزاب : 9 ] .
فاللجوء إلى الله والشكوى إليه ، والتضرع والدعاء ، عبادة وتذلل وإنابة .
وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " عجبت لمن ابتلي بثلاث كيف يغفل عن ثلاث : من ابتلي بالمرض كيف يغفل عن دعاء أيوب لربّه : { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } . [ الأنبياء : 83 ] .
ومن ابتلى بالغم كيف يغفل عن دعاء يونس : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } . [ الأنبياء : 87 ] .
فإن الله تعالى يقول : { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } . [ الأنبياء : 88 ] .
ومن ابتلي بالأعداء كيف يغفل عن قول المؤمنين : { حسبنا الله ونعم الوكيل } . [ آل عمران : 173 ] .
فإن الله يقول : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . [ آل عمران : 174 ] .
إن شكوى أيوب إلى ربّه ، دعاء وتضرع وإنابة ، وقد استجاب الله دعاءه ، وفرّج كربه ، وانعم عليه بالشفاء ، ويسر له التواصل مع زوجته الصابرة ، ثم أثنى عليه ثناء خالدا أبدا الآبدين ، فقال : { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } .
لقد وجدناه صابرا محتسبا ، نعم العبد الطيع لربه ، أنه أوّاب كثير الأوبة والرجوع والذكر والتسبيح لله رب العالمين .
روى أن أيوب كان يقول كلما أصابته مصيبة : الله أنت أخذت ، وأنت أعطيت ، وكان يقول في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يلهني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان .
وقوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } عطف على { اركض } أو على { وَهَبْنَا } [ ص : 43 ] بتقدير قلنا خذ بيدك الخ . والأول أقرب لفظاً وهذا أنسب معنى فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة واعتدال الوقت فإن امرأته رحمة بنت إفرائيم أو مشيا بن يوسف أولياً بنت يعقوب أو ما خير بنت ميشا بن يوسف على اختلاف الروايات .
ولا يخفى لطف { رَحْمَةً مّنَّا } على الرواية الأولى ذهبت لحاجة فأبطأت أو بلغت أيوب عن الشيطان أن يقول كلمة محذورة فيبرأ وأشارت عليه بذلك فقالت له إلى متى هذا البلاء كلمة واحدة ثم استغفر ربك فيغفر لك أو جاءته بزيادة على ما كانت تأتي به من الخبز فظن أنها ارتكبت في ذلك محرماً فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان ، وقيل : القبضة الكبيرة من القضبان ، ومنه ضغث على إبالة والإبالة الحزمة من الحطب والضغث القبضة من الحطب أيضاً عليها ، ومنه قول الشاعر
: وأسفل مني نهدة قد ربطتها *** وألقيت ضغثاً من خلى متطيب
وقال ابن عباس هنا : الضغث عثكال النخل ، وقال مجاهد : الأثل وهو نبت له شوك ، وقال الضحاك : حزمة من الحشيش مختلفة ، وقال الأخفش : الشجر الرطب ، وعن سعيد بن المسيب أنه عليه السلام لما أمر أخذ ضغثاً من ثمام فيه مائة عود ، وقال قتادة : هو عود فيه تسعة وتسعون عوداً والأصل تمام المائة فإن كان هذا معتبراً في مفهوم الضغث ولا أظن فذاك وإلا فالكلام على إرادة المائة فكأنه قيل : خذ بيدك ضغثاً فيه مائة عود { فاضرب بّهِ } أي بذلك الضغث { وَلاَ تَحْنَثْ } بيمينك فإن البر يتحقق به ولقد شرع الله تعالى ذلك رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها وهي رخصة باقية في الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضاً لكن غير الحدود يعلم منها بالطريق الأولى فقد أخرج عبد الرزاق . وسعيد بن منصور . وابن جرير . وابن المنذر عن أبي إمامة بن سهل بن حنيف قال : حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها : ممن حملك ؟ قالت : من فلان المقعد فسئل المقعد فقال : صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة ففعلوا ، وأخرج عبد الرزاق . وعبد بن حميد عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان أن رجلاً أصاب فاحشة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض على شفا موت فأخبر أهله بما صنع فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقنو فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة ، وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بشيخ قد ظهرت عروقه قد زنى بامرأة فضربه بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ، ولا دلالة في هذه الأخبار على عموم الحكم من يطيق الجلد المتعارف لكن القائل ببقاء حكم الآية قائل بالعموم لكن شرطوا في ذلك أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب .
وقال الخفاجي : إنهم شرطوا فيه الايلام أما مع عدمه بالكلية فلا فلو ضرب بسوط واحد له شعبتان خمسين مرة من حلف على ضربه مائة بر إذا تألم فإن لم يتألم لا يبر ولو ضربه مائة لأن الضرب وضع لفعل مئلم بالبدن بآلة التأديب ، وقيل : يحنث بكل حال كما فصل في «شروح الهداية » وغيرها انتهى .
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يجوز ذلك لأحد بعد أيوب إلا الأنبياء عليهم السلام ، وفي أحكام القرآن العظيم للجلال السيوطي عن مجاهد قال : كانت هذه لأيوب خاصة ، وقال الكيا : ذهب الشافعي . وأبو حنيفة . وزفر إلى أن من فعل ذلك فقد بر في يمينه ، وخالف مالك ورآه خاصاً بأيوب عليه السلام ، وقال بعضهم : إن الحكم كان عاماً ثم نسخ والصحيح بقاء الحكم ، واستدل بالآية على أن للزوج ضرب زوجته وأن يحلف ولا يستثنى وعلى أن الاستثناء شرطه الاتصال إذ لو لم يشترط لأمره سبحانه وتعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث .
واستدل عطاء بها على مسألة أخرى فأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عنه أن رجلاً قال له : إني حلفت أن لا أكسو امرأتي درعاً حتى تقف بعرفة فقال : احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة فقال : إنما عنيت يوم عرفة فقال عطاء : أيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة أنوي أن يضربها بالضغث إنما أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيضربها به ثم قال : إنما القرآن عبر إنما القرآن عبر ، وللبحث في ذلك مجال ، وكثير من الناس استدل بها على جواز الحيل وجعلها أصلاً لصحته ، وعندي أن كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة سقوط الزكاة وحيلة سقوط الاستبراء وهذا كالتوسط في المسألة فإن من العلماء من يجوز الحيلة مطلقاً ومنهم من لا يجوزها مطلقاً ، وقد أطال الكلام في ذلك العلامة ابن تيمية { إِنَّا وجدناه صَابِراً } فيما أصابه في النفس والأهل والمال .
وقد كان عليه السلام يقول كلما أصابته مصيبة : اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت ويحمد الله عز وجل ، ولا يخل بذلك شكواه إلى الله تعالى من الشيطان لأن الصبر عدم الجزع ولا جزع فيما ذكر كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك على ما قيل خيفة الفتنة في الدين كما سمعت فيما تقدم ، ويروى أنه قال في مناجاته : الهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم يلهني ما ملكت يميني ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه { نِعْمَ العبد } أي أيوب { إِنَّهُ أَوَّابٌ } تعليل لمدحه وتقدم مهنى الأواب .