تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة الممتحنة

( سورة الممتحنة مدنية ، وآياتها 13 آية ، نزلت بعد سورة الأحزاب )

ولها ثلاثة أسماء : سورة الممتحنة ، وسورة الامتحان ، كلاهما لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ . . . } ( الممتحنة : 10 ) .

والاسم الثالث : سورة المودة ، لقوله تعالى : تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . ( الممتحنة : 1 ) .

وقوله : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . } ( الممتحنة : 1 ) .

وقوله : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً . . . }( الممتحنة : 7 ) .

قصة نزول السورة

هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، واستطاع أن يؤلّف بين المهاجرين والأنصار ، وأن يضع أسس الدعوة الإسلامية ، وأن يصنع أمة تميزت بالأخلاق الكريمة ، والصفات الحميدة ، وقد وقف كفار مكة في وجه الدعوة الإسلامية ، وتمت عدة معارك بين المسلمين والمشركين منها غزوات بدر وأُحد والخندق والأحزاب والحديبية ، ثم توقفت هذه المعارك بعد صلح الحديبية ، وكان أهم نصوص الصلح : وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين ، وأن من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه ، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه .

وعلى إثر ذلك دخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول لله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت قبيلة بكر في حلف قريش .

ثم إن قريشا نقضت العهد بمساعدتها قبيلة بكر حليفتها على قتال خزاعة حليفة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتلوا منهم عشرين رجلا ، وقد لجأت خزاعة إلى الحرم لتحتمي به ، ولكن ذلك لم يمنع رجال بكر من متابعتها ، فاستنصرت خزاعة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذهب رجال منهم إلى المدينة فأخبروا رسول الله بما كان من غدر بكر بهم ومعاونة قريش عليهم ، وأنشد عمرو بن سالم بين يديه :

يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلداi

إن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيوتنا بالوتيرii هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا

فانصر هداك الله نصر أيداiii *** وادع عباد الله يأتوا مددا

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نُصرت يا عمرو بن سالم " .

وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة ، وطوى الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب ، والرسول الأمين لا يريد أن يقيم حربا بمكة ، بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بهم ، فدعا الله قائلا : " اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها " .

حاطب يُفشي السر

كان حاطب بن أبي بلتعة من كبار المسلمين ، وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر مخلصا في جهادها ، ولكن في النفس الإنسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها ، وتهوي بها من المنازل العالية إلى الحضيض . لقد كتب حاطب كتابا إلى قريش يخبرهم فيه بعزم المسلمين على فتح مكة ، واستأجر امرأة من مزينة تسمى سارة ، وجعل لها عشرة دنانير مكافأة ، وأمرها أن تتلطف وتحتال حتى توصل كتابه إلى قريش ، فأخذت المرأة الكتاب فأخفته ، وسلكت طريقها إلى مكة ، ثم أخبر الله رسوله بما صنع حاطب ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في إثر المرأة ، فأدركاها في الطريق ، واستخرجا منها الكتاب فأحضراه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فأطلعه على الكتاب ، ثم قال له : " ما حملك على هذا " ؟ . فقال حاطب : يا رسول الله ، لا تعجل عليّ ، فو الله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهمiv عليهم ، ولم أفعل ذلك ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإيمان .

ورأى النبي صدق لهجة حاطب وحسن نيته فيما أقدم عليه من ذلك الذنب ، فقال لمن حوله : " أما إنه قد صدقكم فيما أخبركم به " . ونظر النبي إلى ماضي الرجل في الجهاد ، وحسن بلائه في الذود عن حرمات الإسلام فرغب في العفو عنه .

أما عمر بن الخطاب فقد كبر عليه أمر هذه الخيانة ، فنظر إلى حاطب وقال له : قاتلك الله ، ترى رسول الله يُخفي الأمر وتكتب أنت إلى قريش ؟ يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق . فتبسم رسول الله من حماسة عمر وقال : " وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . v

وفي هذه الحادثة أنزل الله صدر سورة الممتحنة يحذر المؤمنين من أن يوالوا عدوهم ، أو يطلعوه على بعض أسرارهم مهما كان السبب الذي يدفع إلى ذلك ، فإن العدو عدو حيثما كان ، وموادة العدو خيانة ليس بعدها خيانة .

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . }( الممتحنة : 1 ) .

فكرة السورة :

تسير السورة مع النفس الإنسانية تحاول جاهدة أن تربي المسلمين تربية خاصة ، عمادها الولاء للدعوة وحدها ، والمودة لله ، والمحبة والتجمع على دعوة الله .

على هذا المعنى قامت الدعوة الإسلامية ، وظهر الإيثار والأخوة بين المهاجرين والأنصار .

ومن شعائر هذا الدين بغض الفاسقين والملحدين في دين الله ، وقد انتهزت السورة فرصة ضعف حاطب ، فجعلت ذلك وسيلة عملية لتهذيب النفوس ، ورسم المثل الأعلى للمسلم .

وقد عالجت السورة مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ، ليخرج المسلم من الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .

" لقد كان القرآن بهذا الأسلوب في التربية ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .

وكان كأنما يجمع هذه النباتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ، ليعلمهم الله ، ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحِزْبه ، وأنه يريد بهم أمرا ويحقق بهم قدرا ، ومن ثم فهم يوسمون بسمته ، ويحملون شارته ، ويُعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا في الدنيا والآخرة ، وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة في عالم الشعور وعالم السلوك " vi

تسلسل أفكار السورة

سورة الممتحنة من أولها إلى آخرها تنظم علاقة المسلمين بالمشركين ، وتدعو إلى تقوية أواصر المودة بين المسلمين ، وحفظ هذه الوشائج قوية متينة بين المؤمنين ، وتبين أن عداوة الكافرين للمسلمين أصيلة قديمة ، فقد أخرجهم كفار مكة من ديارهم وأهلهم وأموالهم . ( الآية : 1 ) ، وإذا انتصر المشركون عليهم عاملوهم معاملة الأعداء ، رجاء أن يعودوا بهم من الإيمان إلى الكفر ، وحينئذ لا تنفعكم ، أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ . . . ( الممتحنة : 3 ) . ولا تنجيكم من عقاب الله . ( الآيتان : 1 ، 2 ) .

ثم ترسم السورة مثلا أعلى وقدوة حسنة بإبراهيم الخليل ومن معه من المؤمنين ، حين آمنوا بالله وأخلصوا له النية ، وتجردوا من كل عاطفة نحو قومهم المشركين ، وأعلنوا براءتهم من الشرك وأهله ، وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، فلما تأكد لإبراهيم إصرار أبيه على الشرك تبرأ منه .

ذلك ركب الإيمان ، وطريق المؤمنين في تاريخ البشرية يتسم بالتضحية والفداء ، والاستعلاء على رغبات النفس في صلة الأقارب من المشركين ، فالمودة لله وللمؤمنين . ( الآيات : 4-6 ) .

ولعل الله أن يهدي هؤلاء المشركين فيدخلوا في دين الله ، وبذلك تتحول العداوة إلى مودة ، وقد فتحت مكة بعد ذلك وعاد الجميع إخوة متحابين . ( الآية : 7 ) .

وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ، فهو نبي الهدى والسلام ، والإسلام في طبيعته دين سلام ، فاسمه مشتق من السلام ، والله اسمه السلام ، والإسلام لا يمنع من موالاة الكفار والبر بهم وتحري العدل في معاملتهم ، ما داموا لم يقاتلونا في الدين .

ولكن الإسلام ينهى أشد النهي عن موالاة الكفار المقاتلين أو الذين يستعدون لقتال المسلمين ، ويرى كشف خطط المسلمين لهم خيانة للعقيدة وللأمة الإسلامية .

" وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون ، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم ، ومن سالمهم فتكرهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه " vii . ( الآيتان : 8-9 ) .

وكان صلح الحديبية ينص على أن من جاء مسلما بدون إذن وليّه يرده المسلمون إلى أهل مكة ، ومن جاء إلى مكة مشركا لا يردونه .

ثم أسلمت نساء من أهل مكة جاء أزواجه يطلبونهن ، فنزلت هذه الآيات تؤيد أن المرأة لا يصح أن ترد إلى زوجها الكافر ؛ لأنها لا تحل له بعد أن آمنت بالله وبقي الزوج على الشرك ، وكانت المرأة تُمتحن ، أي : تحلف بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله ، فإذا حلفت كان لنا الظاهر واله أعلم بالسرائر ، عندئذ تعيش في المجتمع المسلم ، فإن تزوجت أعاد زوجها المسلم إلى الزوج المشرك ما أنفقه عليها ، وكذلك إذا ذهبت زوجة مسلمة إلى المشركين مرتدة ، فإذا تزوجت يرد المشركون للمسلم المهر الذي دفعه لها . ( الآيتان : 10-11 ) .

ثم بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كيف يبايع النساء على الإيمان وقواعده الأساسية ، وهي التوحيد ، وعدم الشرك بالله إطلاقا ، وعدم اقتراف المحرمات وهي السرقة والزنا . . . ثم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به ، أي امتثال المأمورات واجتناب المحرمات . ( الآية : 12 ) .

وفي ختام السورة نجد آية تجمع الهدف الكبير ، فتنهى عن موالاة من غضب الله عليهم من اليهود والمشركين . ( الآية : 13 ) .

مقصود السورة إجمالا

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود السورة هو : النهي عن موالاة الخارجين عن ملة الإسلام ، والافتداء بالسلف الصالح في طريق الطاعة والعبادة ، وانتظار المودة بعد العداوة ، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكيفية لبيعة مع أهل الستر والعفة ، والتجنب مع أهل الزيغ والضلالة ، في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } . ( الممتحنة : 13 ) .

النهي عن موالاة الكفار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 ) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 ) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 ) }

1

المفردات :

عدوّ الله : من كفر به أو أشرك به ، ولم يؤمن بما أنزل في كتبه .

عدو المؤمنين : من خانهم ، أو أضرّ بمصالحهم ، أو قاتلهم ، أو أعان على قتالهم .

أولياء : جمع وليّ ، أي : صديق توليه بالسرّ .

المودة : المحبة والإخلاص ، والمراد هنا ، النصيحة وإرسال أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم .

الحق : دين الإسلام ، والقرآن .

بما أخفيتم : بالذي أخفيتموه ، أنا أعلم به منكم .

ضلّ : أخطأ طريق الهدى .

سواء السبيل : السواء في الأصل : الوسط ، والمراد هنا : الطريق المستوي ، وهو طريق الحق .

التفسير :

1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } .

نداء علوي إلهي لجماعة المؤمنين ، بألا يتخذوا أعداء ربهم ودينهم ، وهم أعداء لهم في نفس الوقت ، ألا يتخذوهم أولياء وأحبابا ، يلقون إليهم بالمحبة والمودة ، وأسرار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .

والحال أن هؤلاء الكفار قد كفروا بالإسلام والقرآن ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو حبسه أو نفيه ، فأذن الله له بالهجرة .

قال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } . ( الأنفال : 30 ) .

كما أحكموا الحصار على المسلمين حتى هاجرا فرارا بدينهم من مكة إلى المدينة ، وكل جريمة النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين أنهم آمنوا بالله تعالى ربا واحد صمدا .

كما قال سبحانه وتعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } . ( البروج : 8 ) .

إن كان خروجكم من مكة جهادا في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، فلا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء ، تفضون إليهم بالمحبة ، وتهمسون لهم بأسراركم ، وخطط النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر ، والأعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون ، ومن يوال الأعداء ويلق إليهم الأسرار ، فقد حاد عن طريق الحق والصواب ، وحاد عن قصد السبيل التي توصّل إلى الجنة والرضوان الإلهي .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة مدنية وآياتها 13 نزلت بعد الأحزاب .

{ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } العدو يطلق على الواحد والجماعة ، والمراد به هنا كفار قريش وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فروى عن ذلك بخيبر فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده إلى مكة منهم حاطب فكتب بذلك حاطب إلى قومه من أهل مكة ، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء ، فبعث علي بن أبي طالب والزبير والمقداد وقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين " فانطلقوا حتى وجدوا المرأة فقالوا لها أخرجي الكتاب فقالت : ما معي كتاب ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئا فقال بعضهم : ما معها كتاب فقال علي بن أبي طالب : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذب الله ، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك قالت : أعرضوا عني فأخرجته من قرون رأسها ، وقيل : أخرجته من حجزتها فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب : " من كتب هذا " قال : أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ولا رغبة في الكفر ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق حاطب إنه من أهل بدر ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر " فقال : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم لا تقولوا لحاطب إلا خيرا " فنزلت الآية عتابا لحاطب وزجرا عن أن يفعل أحد مثل فعله ، وفيها مع ذلك تشريف له ، لأن الله شهد له بالإيمان في قوله :{ يا أيها الذين آمنوا } .

{ تلقون إليهم بالمودة } عبارة عن إيصال المودة إليهم وألقى يتعدى بحرف جر وبغير حرف جر كقوله : { وألقيت عليك محبة مني }[ طه : 39 ] وهذه الجملة في موضع الحال من الضمير في قوله : { لا تتخذوا } أو في موضع الصفة لأولياء أو استئناف .

{ وقد كفروا } حال من الضمير في لا تتخذوا أو في تلقون .

{ يخرجون الرسول وإياكم } أي : يخرجون الرسول ويخرجونكم يعني : إخراجهم من مكة ، فإنهم ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إلى المدينة ، ومنهم من خرج إلى أرض الحبشة .

{ أن تؤمنوا } مفعول من أجله أي : يخرجونكم من أجل إيمانكم .

{ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي } جواب هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو لا تتخذوا ، والتقدير إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وجهادا مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله وكذلك ابتغاء .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة :

هذه السورة مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية . وسميت بالممتحنة بفتح الحاء - نسبة إلى النساء المؤمنات اللواتي يفارقن أزواجهن الكفرة فرارا بدينهم إلى دار الإسلام وقد أمر الله بامتحانهن للوقوف على حقيقة إيمانهم ، فإن علم أنهن مؤمنات فلا مساغ بعد ذلك لإرجاعهن إلى الكفار .

والسورة مبدوءة بسبب نزولها وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي حاول مصانعة قريش وملاطفتهم ليحفظوا له ماله وولده في مكة . فما ينبغي لمؤمن أن يصانع الكافرين أو يمالئهم من وراء إخوانه المؤمنين خوفا على خاصة نفسه ، وحرصا على مصالحه . والله جل وعلا يحذر المؤمنين في كل زمان أن يلينوا للكافرين على حساب دينهم وعقيدتهم ، ولئن كان ثمة مهادنات أو مصالحات مع الكافرين فإنما يكون ذلك على سبيل الإيقاف للقتال لمصلحة يجدها المسلمون في ذلك شريطة ألا يكون في ذلك أيّما مساس بعقيدتهم ودينهم ، وفي السورة يوجب الله على المسلمين أن يبرّوا بالكافرين الموادعين الذين لا يؤذون المسلمين ، أولئك لهم من المسلمين البر والإحسان والتكريم .

بسم الله الرحمان الرحيم :

{ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل 1 إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون 2 لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير } .

وسبب نزول هذه الآيات هي قصة حاطب بن أبي بلتعة ، فقد كان حاطب رجلا من المهاجرين ، وكان من أهل بدر ، وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان . ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة بعد أن نقض أهلها العهد مع المسلمين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا لغزوهم وقال : " اللهم عمّ عليهم خبرنا " فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم وليتخذ بذلك عندهم يدا فأطلع الله تعالى على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه فبعث في إثر المرأة فأخذ الكتاب منها .

وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي رافع أنه سمع عليا ( رضي الله عنه ) يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة . قلنا : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب ، قلنا : لتخرجن : الكتاب أو لتلقين الثياب . فأخرجت الكتاب من عقاصها فأخذنا الكتاب ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا حاطب ما هذا ؟ " قال : لا تعجل عليّ . إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت ، إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه صدقكم " فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " {[4511]} .

قوله : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } ذلك نهي من الله للمؤمنين عن اتخاذهم أعداء الله من الكافرين { أولياء } يعني أصدقاء وأخلاء { تلقون إليهم بالمودة } الجملة الفعلية في موضع نصب على الحال والباء زائدة {[4512]} . أي توصلون إليهم المودة . أو سببية . فيكون المعنى : توصلون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرار المسلمين بسبب المودة التي بينكم وبينهم .

قوله : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } الجملة في موضع نصب على الحال . أي تصانعونهم بالمودة وهم كافرون بدينكم ونبيكم وبما جاءكم من عند الله من الحق وفي ذلك من التوبيخ ما لا يخفى . وهم كذلك { يخرجون الرسول وإياكم } وذلك بيان لكفر قريش وعداوتهم لله ولرسوله وللمسلمين { أن تؤمنوا بالله ربكم } وذلك بيان لسبب إخراجهم ، وهو إيمانهم بالله وحده لا شريك له .

قوله : { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله ، وتبتغون مرضاة ربكم فلا تصانعوا المشركين أو توالوهم أو تلقوا إليهم بالمودة .

قوله : { تسرّون إليهم بالمودة } جملة استئنافية . أي توادونهم وتصانعونهم وتخبرونهم بأسرار المسلمين { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } يعني أنا عالم بأسراركم وضمائركم ، مطلع على ما تكنّه صدوركم ، خبير بظواهركم وما تفعلون .

قوله : { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } يعني من يتخذ أعداء الله أولياء وأخلاء ثم يصانعهم ويسارّهم من وراء المسلمين وفي غيابهم فقد ضل سبيل الحق وأخطأ الطريق المستقيم .


[4511]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 345 وأسباب النزول للنيسابوري ص 282.
[4512]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 432.