( سورة المسد مكية ، وآياتها 5 آيات ، نزلت بعد الفاتحة )
وتسمى سورة تبت ، وسورة اللهب ، وسورة المسد لذكرها فيها .
مقصود السورة : تهديد أبي لهب على الجفاء والإعراض ، وضياع كسبه وأمره ، وبيان ابتلائه يوم القيامة ، وذم زوجه في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان ما هو مدخر لها من سوء العاقبة .
سورة المسد ، وتسمى أيضا سورة أبي لهب ، وأبو لهب –واسمه عبد العزى بن عبد المطلب- هو عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما سمي بأبي لهب لإشراق وجهه ، وكان هو وامرأته أمّ جميل من أشد الناس إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به .
أخرج البخاري بإسناده ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : ( يا صباحاه ) ، فاجتمعت إليه قريش ، فقال : ( أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ، أكنتم مصدقيّ ) ؟ قالوا : نعم ، قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا . فأنزل الله السورة : تبّت يدا أبي لهب وتبّ . والتباب : الهلاك والبوار والقطع ، وتبت الأولى دعاء ، وتبت الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء : هلكت نفس أبي لهب ، وقد هلك ، ما نفعه ماله وما كسبه بماله من الربح والجاه ، سيدخل نارا ذات لهب ، ونجد هنا تناسقا في اللفظ ، فجهنم هنا ذات لهب يصلاها أبو لهب .
ومضمون السورة : خسر أبو لهب ، وضل عمله ، وبطل سعيه الذي كان يسعاه للصد عن دين الله ، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به ، ولا جده واجتهاده في ذلك ، فإن الله أعلى كلمة رسوله ، ونشر دعوته ، وأذاع ذكره . وسيعذب أبو لهب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهيب وإحراق شديد ، أعدها الله لمثله من الكفار المعاندين ، فوق تعذيبه في الدنيا بإبطال سعيه ودحض عمله ، وستعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده ، وكانت عضده في مشاكسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه ، وكانت تمشي بالنميمة للإفساد ، وإيقاد نار الفتنة والعداوة .
وامرأته حمّالة الحطب . أي : وستعذّب أيضا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب ، أخت أبي سفيان بن حرب ، جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعي بالنميمة ، إطفاء لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والعرب تقول لمن يسعى في الفتنة ويفسد بين الناس : هو يحمل الحطب بينهم ، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلات ، وقيل : إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسعدان وتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائه .
في جيدها حبل من مسد . في عنقها حبل مما مسد من الحبال ، أي أحكم فتله ، وقد صورها الله بصورة من تحمل تلك الحزمة ، من الشوك ، وتربطها في جيدها كبعض الحطّابات الممتهنات ، احتقارا لها ، واحتقارا لبعلها ، حين اختارت ذلك لنفسها .
وقصارى أمرها أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة للإفساد بين الناس ، وإيقاد نيران العداوة بينهم ، بمنزلة حاملة الحطب التي في جيدها حبل خشن تشد به ما تحمله إلى عنقها ، حين تستقل به ، وهذه أبشع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب وهي على تلك الحال .
( ويرى بعض العلماء أن المراد بيان حالها وهي في نار جهنم ، إذ تكون على الصورة التي كانت عليها في الدنيا ، حين كانت تحمل الشوك إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي لا تزال تحمل حزمة من حطب النار ، ولا يزال في جيدها حبل من سلاسلها ، ليكون جزاؤها من جنس عملها ، فقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال : كانت لأم جميل قلادة فاخرة : فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد ، فأعقبها الله في جيدها حبلا من مسد النار )i .
( وكل امرأة تمشي بالفتنة والفساد بين الناس لتفرق كلمتهم ، وتذهب مذاهب السوء ، فلها نصيب من هذا العذاب ، وجزء من هذا النكال )ii .
2- لن ينفعه ماله وجاهه ، ولا سلطانه وأولاده .
3- سيصطلى بنار جهنم ويحترق بلهيبها .
4- ويكون معه زوجه في صورة مهينة مزرية ، إذ تحمل الحطب وفي عنقها حبل من ليف ، أشبه بالمرأة المهينة ، أو الحمارة الكادحة .
{ تبّت يدا أبي لهب وتبّ 1 ما أغنى عنه ماله وما كسب 2 سيصلى نارا ذات لهب 3 وامرأته حمّالة الحطب 4 في جيدها حبل من مسد 5 }
تبت : التب : الهلاك والبوار ، وهو دعاء عليه .
أبي لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب ، عم النبي صلى الله عليه وسلم ومن أشد الناس إيذاء له وللمسلمين .
أي : خسرت يداه ، وخسر هو ، ومعنى خسرت يداه : بطل كل كيد عمله .
روى أنه لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين } {[1]} رقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ، وجمع أقاربه ، فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وسلم : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقي ؟ " . قالوا : نعم ! ما جربنا عليك إلا صدقا . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك ! ألهذا دعوتنا ! وأخذ بيديه حجرا ليرميه عليه السلام به ؛ فنزلت السورة . وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب ، وذكر بكنيته لاشتهاره بها . أو لكراهة ذكر اسمه القبيح في التنزيل . وكان شديد المعاداة والمناصبة له صلى الله عليه وسلم .
{ تبت } هلكت أو خسرت . { يدا أبي لهب } من التباب بمعنى القطع المفضي إلى الهلاك . وهو دعاء عليه بهلاكه كله . واليدان : كناية عن الذات والنفس ؛ كما في قوله تعالى : { بما قدمت يداك } {[416]} وقولهم : أصابته يد الدهر ، ويد المنايا ؛ يريدون أصابه كل ذلك . { وتب } أي وقد تب وهلك . فهو إخبار بحصول هلاكه بعد الدعاء عليه به ؛ كما يقال : أهلكه الله وقد هلك . ويؤيده قراءة { وقد تب } . وقد نزلت السورة قبل هلاكه ؛ فالتعبير بالماضي لتحقق الوقوع .
{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ }
أبو لهب هو عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان شديد العداوة [ والأذية ] للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلا فيه دين ، ولا حمية للقرابة -قبحه الله- فذمه الله بهذا الذم العظيم ، الذي هو خزي عليه إلى يوم القيامة فقال : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } أي : خسرت يداه ، وشقى { وَتَبَّ } فلم يربح .
الأولى : قوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب } في الصحيحين وغيرهما -واللفظ لمسلم- عن ابن عباس قال : لما نزلت ( " وأنذر عشيرتك الأقربين " {[16526]} [ الشعراء : 214 ] ورهطك منهم المخلصين ){[16527]} ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : " يا صباحاه " ! فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه . فقال : " يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ، يا بني عبد المطلب " ، فاجتمعوا إليه . فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي " ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك ، أما جمعتنا إلا لهذا ! ثم قام ، فنزلت هذه السورة : { تبت يدا أبي لهب وقد تب } كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة . زاد الحميدي وغيره : فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، وفي يدها فهر{[16528]} من حجارة ، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر . فقالت : يا أبا بكر ، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، والله إني لشاعرة :
مُذَمَّمًا عصينا *** وأمره أبينا *** ودينَه قَلَيْنَا
ثم انصرفت . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك ؟ قال : " ما رأتني ، لقد أخذ الله بصرها عني " . وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما ، يسبونه ، وكان يقول : " ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش ، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد " .
وقيل : إن سبب نزولها ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا أُعطى إن آمنت بك يا محمد ؟ فقال : " كما يُعطى المسلمون " . قال ما لي عليهم فضل ؟ قال : " وأي شيء تبغي " ؟ قال : تبا لهذا من دين ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء ، فأنزل الله تعالى فيه . { تبت يدا أبي لهب وتب } .
وقول ثالث حكاه عبد الرحمن بن كيسان قال : كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقولون له : أنت أعلم به منا . فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر . فيرجعون عنه ولا يلقونه . فأتى وفد ، ففعل معهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، ونسمع كلامه . فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه ، فتبا له وتعسا . فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب لذلك ، فأنزل الله تعالى : { تبت يدا أبي لهب } . . . السورة .
وقيل : إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر ، فمنعه الله من ذلك ، وأنزل الله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } للمنع الذي وقع به .
ومعنى " تبت " : خسرت ، قاله قتادة . وقيل : خابت ، قاله ابن عباس . وقيل : ضلت ، قاله عطاء . وقيل : هلكت ، قاله ابن جبير . وقال يمان بن رئاب : صفرت من كل خير . حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول :
لقد خلَّوْكَ وانصرفوا *** فما آبُوا ولا رجعُوا
ولم يوفُوا بنذرهم *** فيا تَبًّا لما صَنَعُوا{[16529]}
وخص اليدين بالتباب ؛ لأن العمل أكثر ما يكون بهما ، أي خسرتا وخسر هو . وقيل : المراد باليدين نفسه . وقد يعبر عن النفس باليد ، كما قال الله تعالى : { بما قدمت يداك }{[16530]} [ الحج :10 ] . أي نفسك . وهذا مَهيَع{[16531]} كلام العرب ، تعبر ببعض الشيء عن كله ، تقول : أصابته يد الدهر ، ويد الرزايا والمنايا ، أي أصابه كل ذلك . قال الشاعر :
لَمَّا أَكَبَّتْ يدُ الرَّزَايَا *** عليه نادى ألا مُجِيرُ
" وتب " قال الفراء : التب الأول دعاء ، والثاني خبر ، كما يقال : أهلكه الله وقد هلك . وفي قراءة عبد الله وأُبي " وقد تب " .
وأبو لهب اسمه عبد العزى ، وهو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم . وامرأته العوراء أم جميل ، أخت أبي سفيان بن حرب ، وكلاهما كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم . قال طارق بن عبد الله المحاربي : إني بسوق ذي المجاز ، إذ أنا بإنسان يقول : " يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ، وإذا رجل خلفه يرميه ، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ، ويقول : يا أيها الناس ، إنه كذاب فلا تصدقوه . فقلت من هذا ؟ فقالوا : محمد ، زعم أنه نبي . وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب . وروى عطاء عن ابن عباس قال : قال أبو لهب : سحركم محمد ، إن أحدنا ليأكل الجذعة{[16532]} ، ويشرب العس{[16533]} من اللبن فلا يشبع ، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة ، وأرواكم من عس لبن .
الثانية : قوله تعالى : { أبي لهب } قيل : سمي باللهب لحسنه ، وإشراق وجهه . وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك ، وهو باطل ، وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة :
الأول : أنه كان اسمه عبد العزى ، والعزى : صنم ، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم .
الثاني : أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه ، فصرح بها .
الثالث : أن الاسم أشرف من الكنية ، فحطه الله عز وجل عن الأشرف إلى الأنقص ، إذا لم يكن بد من الإخبار عنه ، ولذلك دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم ، ولم يكن عن أحد منهم . ويدلك على شرف الاسم على الكنية : أن الله تعالى يُسمى ولا يُكنى ، وإن كان ذلك لظهوره وبيانه ، واستحالة نسبة الكنية إليه ، لتقدسه عنها .
الرابع : أن الله تعالى أراد أن يحقق نسبته ، بأن يدخله النار ، فيكون أبا لها ، تحقيقا للنسب ، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه .
وقد قيل : اسمه كنيته . فكان أهله يسمونه أبا لهب ، لتلهب وجهه وحسنه ، فصرفهم الله عن أن يقولوا : أبو النور ، وأبو الضياء ، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه ، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى اللهب الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم ، وهو النار . ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره .
وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن محيصن :{ أبي لهب } بإسكان الهاء . ولم يختلفوا في { ذات لهب } أنها مفتوحة ؛ لأنهم راعوا فيها رؤوس الآي .
الثالثة : قال ابن عباس : لما خلق الله عز وجل القلم قال له : اكتب ما هو كائن ، وكان فيما كتب { تبت يدا أبي لهب } . وقال منصور : سئل الحسن عن قوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب } ، هل كان في أم الكتاب ؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار ؟ فقال : والله ما كان يستطيع ألا يصلاها ، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه . ويؤيده قول موسى لآدم : " أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، خيبت{[16534]} الناس ، وأخرجتهم من الجنة . قال آدم : وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه ، وأعطاك التوراة ، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السموات والأرض " . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فحج آدم موسى{[16535]} " . وقد تقدم هذا{[16536]} . وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى : " بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني ؟ قال : بألفي عام . قال : فهل وجدت فيها : { وعصى آدم ربه فغوى } قال : نعم . قال : أفتلومني على أمر وكتب الله علي أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام . فحج{[16537]} آدم موسى " . وفي حديث طاووس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة : ( بأربعين عاما ) .