{ إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا }
من فوقكم : من أعلى الوادي من جهة المشرق وهم بنو غطفان بنو قريظة .
ومن أسفل منكم : من أسفل الوادي من جهة المغرب وهم قريش وباقي حلفائهما .
زاغت الأبصار : مالت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة .
بلغت القلوب الحناجر : فزعت فزعا شديدا والحناجر جمع حنجرة وهي الحلقوم حيث مخرج الصوت .
واذكروا حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق وجاء اليهود من أسفل الوادي من جهة المغرب وقيل غير ذلك .
والخلاصة : أن الأعداء كانوا كثيرين وأن هجومهم كان من جبهتين قريش والأحزاب من جبهة واليهود من جبهة أخرى واشتد الكرب بالمسلمين وباتوا في حالة من الترقب خشية هجوم الأعداء عليهم من الأمام والخلف وعبر القرآن عن هذا القلق بقوله :
{ وإذ زاغت الأبصار . . . } حين مالت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها .
{ وبلغت القلوب الحناجر . . . } أي خافت القلوب خوفا شديدا كأنها من خوفها بلغت الحناجر .
{ وتظنون بالله الظنونا . . . } وتظنون بالله مختلف الظنون فالمؤمنون توقعوا من الله النصر والتأييد ورأوا في ذلك امتحانا يستحق الصبر والرضا واليقين وقالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله .
أما المنافقون فقد ظهر نفاقهم ومرض قلوبهم وظنوا أن الأحزاب ستنتصر على المؤمنين وستدخل المدينة غازية منتصرة وسيهزم المؤمنون أمام المشركين .
وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على المدينة ، فحصروا المدينة ، واشتد الأمر ، وبلغت القلوب الحناجر ، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة ، والشدائد الشديدة ، فلم يزل الحصار على المدينة ، مدة طويلة ، والأمر كما وصف اللّه : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } أي : الظنون السيئة ، أن اللّه لا ينصر دينه ، ولا يتم كلمته .
قوله عز وجل : { إذ جاءوكم من فوقكم } أي : من فوق الوادي من قبل المشرق ، وهم أسد ، وغطفان ، وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة ، { ومن أسفل منكم } يعني : من بطن الوادي ، من قبل المغرب ، وهم قريش وكنانة ، عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق . وكان السبب الذي جر غزوة الخندق فيما قيل : إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم . { وإذ زاغت الأبصار } مالت وشخصت من الرعب ، وقيل : مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها ، { وبلغت القلوب الحناجر } فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع ، والحنجرة : جوف الحلقوم ، وهذا على التمثيل ، عبر به عن شدة الخوف ، قال الفراء : معناه أنهم جنبوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ، ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره . { وتظنون بالله الظنونا } أي : اختلفت الظنون ، فظن المنافقون استئصال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم . قرأ أهل المدينة ، والشام ، وأبو بكر : الظنونا والرسولا والسبيلا بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، لأنها مثبته في المصاحف بالألف ، وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل ، وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رؤوس الآي .
ثم ذكرهم الشدة التي حصلت بتمالئهم فقال مبدلاً من { إذ } الأولى : { إذ جاؤوكم } أي الجنود المذكورون بادئاً بالأقرب إليهم ، لأن الأقرب أبصر بالعورة وأخبر بالمضرة .
ولما كان من المعلوم أنهم لم يطبقوا ما علا وما سفل ، أدخل أداة التبعيض فقال : { من فوقكم } يعني بني قريظة وأسد وغطفان من ناحية مصب السيول من المشرق ، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لأن العيال كانوا في الآكام{[55151]} ، وهي بين بني{[55152]} قريظة وبين من في الخندق ، فصاروا فوق العيال والرجال .
ولما كان المراد الفوقية{[55153]} من جهة علو الأرض ، أوضحها بقوله : { ومن أسفل منكم } دون أن يقول : أسفلكم ، وأفاد ذلك أيضاً أن من في أسفل إنما أحاطوا ببعض جهة الرجال فقط{[55154]} ، ولم يقل " و{[55155]} من تحتكم " لئلا يظن أنه فوق الرؤوس وتحت الأرجل ، ولم يقل في الأول " من أعلى منكم " لئلا يكون فيه وصف للكفرة بالعلو ، وأسفل الأرض{[55156]} المدينة من ناحية المغرب يعني قريشاً ، ومن لافّها من كنانة فإن طريقهم من تلك الجهة .
ولما ذكرهم بالمجيء الذي هو سبب الخوف ، ذكرهم بالخوف بذكر{[55157]} ظرفه{[55158]} أيضاً مفخماً لأمره بالعطف فقال : { وإذ } أي واذكروا حين ، وأنث الفعل وما عطف عليه لأن{[55159]} التذكير الذي يدور معناه على القوة والعلو والصلابة ينافي الزيغ{[55160]} فقال{[55161]} : { زاغت الأبصار } أي مالت عن سداد القصد{[55162]} فعل الواله الجزع بما حصل من الغفلة الناشئة عن الدهشة الحاصلة من الرعب ، وقطع ذلك عن الإضافة إلى كاف الخطاب إبقاء عليهم وتعليماً للأدب في المخاطبة ، وكذا { وبلغت القلوب } كناية عن شدة الرعب والخفقان ، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر ، ومنه قولهم للجبان : انتفخ منخره أي رئته { الحناجر } جمع حنجرة ، وهي منتهى الحلقوم ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود{[55163]} عن أبي هريرة رضي الله عنه " شر ما في الإنسان جبن خالع " أي يخلع القلب من مكانه ، وجمع الكثرة إشارة إلى أن ذلك عمهم أو كاد .
ولما كانت هذه حالة عرضت ، ثم كان من أمرها أنها إما زالت وثبتت إلى انقضاء الأمر ، عبر عنها بالماضي لذلك وتحقيقاً لها ولما نشأ عنها تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب ، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد فقال : { وتظنون بالله } الذي له صفات الكمال فلا يلم نقص ما بساحة عظمته ، ولا يدنو شيء من شين إلى جناب عزته { الظنونا * } أي أنواع الظن إما بالنسبة إلى الأشخاص فواضح ، وذلك بحسب قوة الإيمان وضعفه ، وأما بالنسبة إلى{[55164]} الشخص الواحد فحسب تغير الأحوال ، فتارة يظن الهلاك للضعف ، وتارة النجاة لأن الله قادر على ذلك ، و{[55165]}يظن المنافقون ومن قاربهم{[55166]} من ضعفاء القلوب ما حكى الله{[55167]} عنهم ؛ قال
الرازي في اللوامع : و{[55168]} يروى أن المسلمين قالوا : بلغت القلوب{[55169]} الحناجر ، فهل من شيء نقول ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
" اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا " وزيادة الألف في قراءة من أثبتها في الحالين وهم المدنيان وابن عامر وشعبة{[55170]} إشارة إلى اتساع هذه الأفكار ، وتشعب تلك الخواطر ، وعند من أثبتها في الوقت دون الوصل وهم ابن كثير والكسائي وحفص{[55171]} إشارة إلى اختلاف الحال تارة بالقوة وتارة بالضعف .