( سورة البينة مدنية ، وآياتها 8 آيات ، نزلت بعد سورة الطلاق )
وتعرض السورة أربع حقائق تاريخية وإيمانية :
الحقيقة الأولى : هي أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف ، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة .
قال تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة* رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة* فيها كتب قيّمة . ( البينة : 1-3 ) .
الحقيقة الثانية : إن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهل ، ولا عن غموض فيه ، وإنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، وجاءتهم البينة : وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة . ( البينة : 4 ) .
الحقيقة الثالثة : إن الدّين في أصله واحد ، وقواعده بسيطة واضحة ، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة . ( البينة : 5 ) .
الحقيقة الرابعة : إن الذين كفروا من بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية ، وإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية ، ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بيّنا .
1-لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة .
كانت الأرض فهي حاجة ماسة إلى رسالة جديدة ، كان الفساد قد عمّ أرجاءها كلها ، بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديدة ، وحركة جديدة ، وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا ، سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرّفوها ، أو المشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها .
وما كانوا لينفكوا ويتحلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته واضحة ، فارقة فاصلة .
2- رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة . أي : محمد صلى الله عليه وسلم –وهو بدل من البينة- يقرأ عليهم من صفحات كتابه المطهرة ، وآياته المقدسة ، ما يشتمل على المضمون الصحيح لكتبهم المنزلة على أنبيائهم ، موسى وعيسى وغيرهما ، عليهم جميعا الصلاة والسلام .
3- فيها كتب قيّمة . يطلق الكتاب على الموضوع ، كما تقول : كتاب الطهارة ، كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة… أي : يشمل القرآن على موضوعات وحقائق قيمة ، تحتاج إليها البشرية ، ولا تصلح إلا بها .
لقد كان الفساد قد استشرى في الأرض قبل رسالة محمدا صلى الله عليه وسلم ، وطمست معالم الحق ، وبهتت حقائق الأديان ، وانسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، واستبد الحكام والملوك ، وعظمت نكايات اليهود بالنصارى ، واشتد تدبير الكيد من النصارى لليهود ، واختلف النصارى حول طبيعة المسيح ، وعذّب الحكام طوائف المخالفين .
4-وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة . فلم يكن ينقصهم العلم والبيان ، وإنما كان يجرفهم الهوى والانحراف .
5-وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة .
وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق : عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وذلك دين القيّمة . وهذا هو الدين الذي جاء في الكتب القيمة ، ( وقصارى ما سلف ، أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه ، مع أنهم ما أمروا إلا أن يعبدوا الله ، ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم ، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا ، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف )i .
6- إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة .
لقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض ، لتردّ الناس إلى الإصلاح ، فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة ، الشاملة الكاملة ، فقد تحدد الموقف أمام الجميع بصفة قاطعة . فمن كفر بهذه الرسالة أو أشرك بالله فهو في نار جهنم يصلى نارها ، وهو من شرار الخلق ، جزاء إعراضه عن دعوة الحق ، وعن رسالة الله .
7- إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة . أما من اهتدى قلبه للإيمان ، وكان إيمانه عن يقين وصدق ، فأتبع الإيمان بالأعمال الصالحات ، من عبادة وخلق ، وعمل وتعامل ، والتزام بشريعة الله والحفاظ عليها ، أولئك هم خير البريّة . وهم صفوة الله من خلقه ، حيث منحهم الهدى ، ويسر لهم العمل بأحكام هذا الدين .
قال تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده… ( الأنعام : 90 ) .
8- جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه . لقد أحسن الله جزاءهم في جنات إقامة دائمة ، تجري من تحتها الأنهار ، في جمال ونعمة ولذة دائمة ، وأسمى من ذلك سعادتهم برضا الله عنهم ، ومحبته لهم ، ثم اطمئنانهم ورضاهم العميق عن ربهم ، وثوابه ونعيمه . وذلك كله متوقف على خشية الله ، والخوف منه والالتزام بأمره .
لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، تغير حال اليهود والنصارى والمشركين ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من تردد في صحة الدين ، ومنهم من عاند وتكبر ، مع أن الله تعالى ما أمرهم إلا ليعبدوه مخلصين له الدين ، ولكن الفساد كان قد استشرى بين أرباب الديانات السابقة ، وكانت البينة الواضحة والنور الهادي هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم . وقد أوضح الله تعالى أن من كفر به سيصلى نار جهنم ، وأن من آمن به سيتمتع برضوان الله في جنات النعيم .
أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب… ) قال : وسمّاني لك يا رسول الله ؟ قال : ( نعم ) . قال : فبكى أبيّii .
أحوال الناس قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم
{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة 1 رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة 2 فيها كتب قيّمة 3 وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة 4 وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة 5 }
من أهل الكتاب : اليهود والنصارى .
البينة : الحجة الواضحة ، أو محمد الموعود به في كتبهم .
1- لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة .
أي : كان الفساد قد عمّ أرجاء الأرض ، وأقصى الدين عن الدنيا ، وانكمش رجال الدين في الصوامع والمعابد ، وكان الكفر قد تطرق إلى العقائد ، بسبب تحريف الكتب السماوية ، وحذف أجزاء منها أو إضافة أشياء إليها ليست منها ، وما كان أهل الكتاب والمشركون لينفكّوا ويتحوّلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه ، إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بيّنة واضحة فارقة فاصلة .
{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
يقول تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : [ من ] اليهود والنصارى { وَالْمُشْرِكِينَ } من سائر أصناف الأمم .
{ مُنْفَكِّينَ } عن كفرهم وضلالهم الذي هم عليه ، أي : لا يزالون في غيهم وضلالهم ، لا يزيدهم مرور السنين{[1464]} إلا كفرًا .
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } الواضحة ، والبرهان الساطع ،
{ لم يكن الذين كفروا } بمحمد ص { من أهل الكتاب } أي اليهود والنصارى { والمشركين } يعني كفار العرب { منفكين } منتهين زائلين عن كفرهم { حتى تأتيهم البينة } يعني أتتهم البينة ، أي البيان والبصيرة ، وهو محمد عليه السلام ، والقرآن يقول : لم يتركوا كفرهم حتى بعث إليهم محمد عليه السلام ، وهذا فيمن آمن من الفريقين .
لما أخبر سبحانه وتعالى أن الليلة الشريفة التي صانها بنوع خفاء في تنزل من يتنزل فيها وفي تعيينها لا تزال قائمة على ما لها من تلك الصفة حتى يأتي الفجر الذي يحصل به غاية البيان ، أخبر أن أهل الأديان - سواء كان لها أصل من الحق أم لا ل- م يصح في العادة الجارية على حكمة الأسباب في دار الأسباب أن يتحولوا عما هم فيه إلا بسبب عظيم يكون بيانه أعظم من بيان الفجر ، وهو القرآن المذكور في القدر ، والرسول المنزل عليه ذلك ، فقال : { لم يكن } أي في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال كوناً هو كالجبلة والطبع ، وهذا يدل على ما كانوا عليه قبل ذلك من أنهم يبدلون ما هم عليه من الكفر أو الإيمان بكفر أو بدعة ، ثم لا يثبتون عليه ؛ لأن ذلك ليس في جبلاتهم ، وإنما هو خاطر عارض كما هو محكيّ عن سيرتهم من بعد موسى عليه الصلاة والسلام لما كانت تسوسهم الأنبياء عليهم السلام ، كما دل على بعض ذلك قوله تعالى :{ فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا }[ المائدة : 71 ] وكذا المشركون كانوا يبدلون دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام ولا ينفصلون عنه بالكلية ، وتارة يعبدون الأصنام ، وتارة الملائكة ، وأخرى الجن ، ولم يكونوا يثبتون على حالة واحدة ثباتاً كلياً مثل ثباتهم على الإسلام بعد مجيء البينة ونسيانهم أمور الجاهلية بالكلية حتى نسوا الميسر ، فلم يكن أحد من أولادهم يعرف كيفيته ، وكذا السائبة ، وما معها ، وغيرها ، ذلك من خرافاتهم { الذين كفروا } أي سواء كانوا عريقين في الكفر أم لا .
ولما كان العالم أولى باتباع الحق ، وأشد جرماً عند فعل ما يقتضي اللوم ، بدأ بقوله : { من أهل الكتاب } أي من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً ، فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى ، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا { والمشركين } أي بعبادة الأصنام والنار والشمس ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق بأن لم يكن لهم كتاب { منفكين } أي منفصلين زائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا يبقى لهم به علقة ، ويثبتون على ذلك الانفكاك ، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً ، من فك الكتاب والختم والعظم - إذا أزال ما كان ملتصقاً ومتصلاً به ، أو عما في أنفسهم من ظن اتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به بما كان أهل الكتاب يستفتحون به ، والمشركون يقسمون بالله جهد أيمانهم{ لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم }[ فاطر : 42 ] فيصيروا بذلك أحزاباً وفرقاً { حتى } أي إلى أن { تأتيهم } عبر بالمضارع لتجدد البيان في كل وقت بتجدد الرسالة والتلاوة { البينة * } أي الآية التي هي في البيان ، كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا ظهوراً وضياء ونوراً ، وذلك هو الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو الفرقان .