السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (176)

ويدل للقول الأوّل قوله تعالى :

{ ولو شئنا لرفعناه } أي : منازل الأبرار { بها } أي : بسبب تلك الآيات { ولكنه أخلد إلى الأرض } أي : مال إلى الدنيا ، قال البيضاوي : أو السفالة ، قال الجوهري : السفالة بالضم نقيض العلو ، وبالفتح النذالة { واتبع هواه } أي : في آثار الدنيا ، واسترضى قومه ، وأعرض عن مقتضى الآيات ، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ، ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيهاً على أنّ المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه ، وأنّ عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه ، وأنّ السبب الحقيقي هو المشيئة ، وأن ما نشاهده من هذه الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك .

وكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : ولكنه أعرض عنها ، فأوقع موقعه ( أخلد إلى الأرض ، واتبع هواه ) مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه ، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وهذه الآية من أشدّ الآيات على أصحاب العلم ، وذلك لأنه بعد أن خص هذا الرجل بآياته ، وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين ، فصار في درجة الكلب ، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله تعالى في حقه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى ، وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم ، وإليه الإشارة بقوله : ( من ازداد علماً ولم يزدد هدى فلم يزدد من الله إلا بعداً ) { فمثله } أي : فصفته التي هي مثل في الخسة { كمثل الكلب } أي : كمثله في أخس أوصافه وهو { إن تحمل عليه } أي : بالطرد والزجر { يلهث } أي : يدلع لسانه { أو } إن { تتركه يلهث } فهو يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ، وليس غيره من الحيوان كذلك ، قيل : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال والراحة ؛ لأنّ اللهث طبيعة أصلية فيه ، ف( كذلك ) حال من كذب بآيات الله إن وعظته فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال ، وكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه ، وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضاً ؛ لأنّ الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه ) ، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين .

وقيل : لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره ، وجعل يلهث كما يلهث الكلب { ذلك } أي : المثل { مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } فعم بهذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها ، ووجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا بل هم في ضلال على كل حال { فاقصص القصص } أي : فأخبر يا محمد قومك بهذه الأخبار التي سبقت بها مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم { لعلهم يتفكرون } أي : يتدبرون فيها فيؤمنون .