إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق مدنية ، وآياتها إحدى عشرة أو اثنتا عشرة .

{ يا أيُّهَا النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } تخصيصُ النداءِ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مع عُمومِ الخطابِ لأمتِهِ أيضاً لتشريفه عليهِ الصلاةُ والسلامُ وإظهارِ جلالةِ منصبِهِ ، وتحقيقِ أنَّه المخاطبُ حقيقةً ، ودخولِهِم في الخطابِ بطريقِ استتباعِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم . وتغليبِهِ عليهِم لاَ لأنَّ نداءَهُ كندائِهِم ، فإن ذلكَ الاعتبارَ لو كانَ في حيزِ الرعايةِ لكانَ الخطابُ هو الأحقَّ بهِ لشمولِ حُكمهِ للكلِّ قطعاً والمَعْنَى إذا أردتُم تطليقهنَّ وعزمتُم عليهِ كما في قولِهِ تعالَى : { إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة } [ سورة المائدة ، الآية 6 ] { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي مستقبلاتٍ لها كقولكَ أتيتُهُ لليلةٍ خلتْ من شهرِ كَذَا فإن المرأةَ إذا طُلقَتْ في طُهرٍ يعقبُهُ القُرْءُ الأولُ من أقرائِهَا فقد طُلقَتْ مستقبلةً لعدتِهَا ، والمرادُ أن يُطلَّقنَ في طُهْرٍ لم يقعْ فيهِ جماعٌ ثم يُخلَّينَ حتى تنقضيَ عدتُهنَّ وهَذا أحسنُ الطلاقِ وأدخلُهُ في السنةِ { وَأَحْصُوا العدة } واضبِطُوها وأكملوها ثلاثةَ أقراءٍ كواملَ { واتقوا الله رَبَّكُمْ } في تطويلِ العدةِ عليهنَّ والإضرارِ بهنَّ . وفي وصفِهِ تعالَى بربوبيتِهِ لهم تأكيدٌ للأمر ومبالغةٌ في إيجابِ الاتقاءِ { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } من مساكنِهِنَّ عندَ الفراقِ إلى أنْ تنقضيَ عِدتُهُنَّ ، وإضافتُهَا إليهنَّ وهيَ لأزواجهنَّ لتأكيدِ النَّهيِ ببيانِ كمالِ استحقاقهِنَّ لسُكنَاهَا كأنها أملاكهُنَّ { وَلاَ يَخْرُجْنَ } ولو بإذنٍ منكُم فإنَّ الإذنَ بالخروجِ في حُكمِ الإخراجِ ، وقيلَ المَعْنَى لا يخرجنَّ باستبدادٍ منهنَّ أما إذَا اتفقَا على الخروجِ جازَ إذِ الحقُّ لا يعدوهُمَا { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مبَينَةٍ } استثناءٌ من الأولِ قيلَ هيَ الزنا فيخرجنَ لإقامة الحدِّ عليهنَّ وقيلَ إلا أنْ يبذُونَ على الأزواجِ1 فيحلُّ حينئذٍ إخراجهُنَّ ، ويؤيدُهُ قراءةُ إلا أنْ يفحُشْنَ عليكُم أو من الثانِي للمبالغةِ في النَّهيِ عن الخروجِ ببيانِ أنَّ خروجَهَا فاحشةٌ { وَتِلْكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكرَ من الأحكامِ وما في إسمِ الإشارةِ من مَعْنَى البُعْدِ مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِهَا وبعدِ منزلتِهَا { حُدُودَ الله } التي عيَّنَهَا لعباده { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } أي حدودَهُ المذكورةَ بأنْ أحلَّ بشيءٍ منها على أنَّ الإظهارَ في حيزِ الإضمارِ لتهويلِ أمرِ التعدِّي ، والإشعارِ بعلةِ الحكمِ في قولِهِ تعالَى : { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي أضرَّ بهَا ، وتفسيرُ الظلمِ بتعريضِهَا للعقابِ يأباهُ قولُهُ تعالَى : { لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } فإنه استئنافٌ مسوقٌ لتعليلِ مضمونِ الشرطيةِ ، وقد قالُوا إن الأمرَ الذي يحدثُهُ الله تعالى أنْ يقلبَ قلبَهُ عمَّا فعلَهُ بالتعدِّي إلى خلافِهِ فلا بُدَّ أن يكونَ الظلمُ عبارةً عن ضررٍ دنيويَ يلحقُهُ بسببِ تعدِّيهِ ولا يُمكنُ تدارُكُهُ أو عنْ مُطلقِ الضررِ الشاملِ للدنيويِّ والأُخرويِّ ، ويخُصُّ التعليلُ بالدنيويِّ لكونِ احترازِ الناسِ منهُ أشدَّ واهتمامِهِمْ بدفْعِهِ أَقْوَى . وقولُهُ تعالَى : { لا تَدْرِي } خطابٌ للمتعدِّي بطريقِ الالتفاتِ لمزيدِ الاهتمامِ بالزجرِ عن التعدِّي ، لا للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كما توهِّمَ ، فالمَعْنَى ومن يتعدَّ حدودَ الله فقدْ أضرَّ بنفسِهِ فإنكَ لا تدْرِي أيُّها المتعدِّي عاقبَة الأمرِ لعلَّ الله يحدثُ في قلبكَ بعدَ ذلكَ الذي فعلتَ من التعدِّي أمراً يقتضِي خلافَ ما فعلتَهُ فيبدَّل ببغضِهَا محبةً ، وبالإعراضِ عنها إقبالاً إليها ويتسنَّى تَلاَفيهِ رجعةً أو استئنافَ نكاحٍ .