القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا إِنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } .
اختلف القرّاء في قراءة قوله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ فقرأته عامة الأمصار : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ على تقدير يفعلون من «ثنيت » ، والصدور منصوبة .
واختلفت قارئو ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : ذلك كان من فعل بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطى وجهه وثنى ظهره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن حصين ، عن عبد الله بن شدّاد في قوله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال : كان أحدهم إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بثوبه على وجهه وثنى ظهره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قوله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال : من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان المنافقون إذا مرّوا به ثنى أحدهم صدره ويطأطىء رأسه ، فقال الله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ . . . الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، قال : سمعت عبد الله بن شداد يقول ، في قوله : يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال : كان أحدهم إذا مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثنى صدره ، وتغشى بثوبه كي لا يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل كانوا يفعلون ذلك جهلاً منهم بالله وظنّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال : شكا وامتراء في الحقّ ، ليستخفوا من الله إن استطاعوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ شكّا وامتراء في الحقّ . لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال : من الله إن استطاعوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال : تضيق شكّا .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال : تضيق شكّا وامتراء في الحقّ ، قال : لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال : من الله إن استطاعوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال : من جهالتهم به ، قال الله : ألاَ حِينَ يَسْتَغْثُونَ ثِيَابَهُمْ في ظلمة الليل في أجوف بيوتهم ، يَعْلَمُ تلك الساعة ما يُسِرّونَ وَما يُعْلِنُونَ إنّهُ عَلِيمٌ بذاتِ الصّدُور .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال : كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه .
وقال آخرون : إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كلام الله تعالى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ . . . الآية ، قال : كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ، قال تعالى : ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرّونَ وَما يُعْلِنُونَ وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حنى صدره واستغشى بثوبه وأضمر همه في نفسه ، فإن الله لا يخفى ذلك عليه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ قال : أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرّ في نفسه شيئا وتغطى بثوبه ، فذلك أخفى ما يكون ، والله يطلع على ما في نفوسهم ، والله يعلم ما يسرّون وما يعلنون .
وقال آخرون : إنما هذا إخبار من الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء ويبدون له المحبة والمودّة ، وأنهم معه وعلى دينه . يقول جلّ ثناؤه : ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله ، ثم أخبر جلّ ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم .
وقال آخرون : كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال : هذا حين يناجي بعضهم بعضا . وقرأ : ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ . . . الآية .
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ » على مثال : تَحْلَولِي التمرة : تَفْعَوعِل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ » قال : كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول : سمعت ابن عباس يقرؤها : «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ » قال : سألته عنها ، فقال : كان ناس يستحيون أن يتخلّوا فيُفْضُوا إلى السماء ، وأن يصيبوا فيفضوا إلى السماء .
ورُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما :
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : أخبرت عن عكرمة ، أن ابن عباس ، قرأ «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ » وقال ابن عباس : تثنوني صدورهم : الشك في الله وعمل السيئات . يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يستكبر ، أو يستكنّ من الله والله يراه ، يَعْلَمُ ما يُسِرّونَ وَما يُعْلِنُونَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قرأ : «ألا إنّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ » قال عكرمة : تثنوني صدورهم ، قال : الشك في الله وعمل السيئات ، فيستغشي ثيابه ويستكنّ من الله ، والله يعلم ما يسرّون وما يعلنون .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وهو : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ على مثال «يفعلون » ، والصدور نصب بمعنى : يحنون صدورهم ويكنّونها . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقول : يكنّون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقول : يكتمون ما في قلوبهم . ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ ما عملوا بالليل والنهار .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ألا إنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقول : تثنوني صدورُهم .
وهذا التأويل الذي تأوّله الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس ، إلا أن الذي حدثنا هكذا ذكر القراءة في الرواية . فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب لإجماع الحجة من القرّاء عليها . فأولى التأويلات بتأويل ذلك ، تأويل من قال : إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلاً منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم أو تناجوه بينهم .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن قوله : لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ بمعنى : ليستخفوا من الله ، وأن الهاء في قوله : مِنْهُ عائدة على اسم الله ، ولم يجر لمحمد ذكر قبل ، . فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله . فإذا كان ذلك كذلك كانت بأن تكون من ذكر الله أولى . وإذا صحّ أن ذلك كذلك ، كان معلوما أنهم لم يحدّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله إلا بجهلهم به ، فلما أخبرهم جلّ ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حال كانوا تغشوا بالثياب أو أظهروا بالبزار ، فقال : ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يعني : يتغشون ثيابهم يتغطونها ويلبسون ، يقال منه : استغشى ثوبه وتغشاه ، قال الله : واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وقالت الخنساء :
أرْعَى النّجُومَ وَما كُلّفْتُ رِعْيَتَها *** وتارَةً أتَغشّى فَضْلَ أطْمارِى
يَعْلَمُ ما يُسِرّونَ يقول جلّ ثناؤه : يعلم ما يسرّ هؤلاء الجهلة بربهم ، الظانون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها وثنوه ، وما تناجوه بينهم فأخفوه وما يُعْلِنُونَ سواء عنده سرائر عباده وعلانيتهم إنّه عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورَ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بكلّ ما أخفته صدور خلقه من إيمان وكفر وحقّ وباطل وخير وشرّ ، وما تستجنّه مما لم يجنه بعد . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ألاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يقول : يغطون رؤسهم .
قال أبو جعفر ، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه ، أو فيما ألزمكم الإيمان به والتصديق ، فتهلكوا باعتقادكم ذلك .
قيل : إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر{[6251]} ، وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منه وكراهة للقائه ، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك .
و { صدورهم } منصوبة على هذا ب { يثنون } . وقيل : هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عيلها .
فمعنى الآية : ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون .
وقرأ سعيد بن جبير «يُثنُون » بضم الياء والنون من أثنى ، وقرأ ابن عباس «ليثنوه » ، وقرأ ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن يعمر{[6252]} وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين{[6253]} ، وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود{[6254]} والضحاك . «تثنوني صدورُهم » برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في { يثنون } وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر ، كما تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك{[6255]} . وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوماً كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء . وقرأ ابن عباس - فيما روى ابن عيينة - «تثنو » بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو{[6256]} ، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه{[6257]} ، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «ينثوي » بتقديم النون على الثاء ، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى «تثنَون » بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة ، وقرأ أيضاً هما{[6258]} ومجاهد فيما روي عنه «تثنان » بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة{[6259]} ، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع : وأصل «تثنون »{[6260]} تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها ، وأما «تثنان » فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا : اثنانت كما قالوا احمار وابياض{[6261]} ، والضمير في { منه } عائد على الله تعالى ، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، و { يستغشون } معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء : [ البسيط ]
أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها*** وتارة اتَغَشَّى فضل أطماري{[6262]}
وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون » ومن هذا الاستعمال قول النابغة : [ الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا*** وقلت ألمّا أصحُ والشيبُ وازع{[6263]}
و { ذات الصدور } : ما فيها ، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدهما كقول العرب : الذئب مغبوط بذي بطنه{[6264]} أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع ؛ ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى .
حُول أسلوب الكلام عن مخاطبة النبي عليه الصلاة والسلام بما أمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها ، فقدم لذلك إبطال وهَم من أوْهام أهل الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى ، فكان قوله : { ألا إنهم يثنون صدورهم } إلخ تمهيداً لقوله : { يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور } ، جمعاً بين إخبارهم بإحاطة علم الله بالأشياء وبين إبطال توهماتهم وجهلهم بصفات الله . وقد نشأ هذا الكلام عن قوله تعالى : { إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير } [ هود : 4 ] لمناسبة أن المرجوع إليه لما كان موصوفاً بتمام القدرة على كل شيء هو أيضاً موصوف بإحاطة علمه بكل شيء للتلازم بين تمام القدرة وتمام العلم .
وافتتاح الكلام بحرف التنبيه { ألا } للاهتمام بمضمونه لغرابة أمرهم المحكي وللعناية بتعليم إحاطة علم الله تعالى .
وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإبلاغ إليهم في قوله : { أنْ لا تعبدوا إلا الله } [ هود : 2 ] وليس بالتفات . وضمائر الغيبة للمفرد عائدة إلى اسم الجلالة في قوله : { إلى الله مرجعكم } [ هود : 4 ] .
والثّنْي : الطّيُّ ، وأصل اشتقاقه من اسم الاثنين . يقال : ثَنَاه بالتخفيف ، إذا جعله ثانياً ، يقال : هذا وَاحد فاثْنِه ، أي كن ثانياً له ، فالذي يطوي الشيء يجعل أحد طاقيه ثانياً للذي قبلَه ؛ فثنيُ الصدور : إمالتها وحَنيها تشبيهاً بالطي . ومعنى ذلك الطأطأة .
وهذا الكلام يحتمل الإجراءَ على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور . ويحتمل أن يكون تمثيلاً لهيئة نفسية بهيئة حسية .
فعلى الاحتمال الأول : يكون ذلك تعجيباً من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه . وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه ويستغشي ثوبه ويحني ظهره ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي ؟ وذلك من جهلهم بعظمة الله .
ففي « البخاري » عن ابن مسعود : اجتمع عند البيت قريشيان وثقفي ، كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا . فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } [ فصلت : 22 ، 23 ] .
وجميع أخطاء أهل الضلالة في الجاهلية والأديان الماضية تسري إلى عقولهم من النظر السقيم ، والأقيسة الفاسدة ، وتقدير الحقائق العالية بمقادير متعارفهم وعوائدهم ، وقياس الغائب على الشاهد .
وقد ضل كثير من فرق المسلمين في هذه المسالك لولا أنهم ينتهون إلى معلومات ضرورية من الدين تعصمهم عند الغاية عن الخروج عن دائرة الإسلام وقد جاء بعضهم وأوشك أن يقع .
وعلى الاحتمال الثاني : فهو تمثيل لحالة إضمارهم العداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم في نفوسهم وتمويه ذلك عليه وعلى المؤمنين به بحال من يثني صدره ليخفيه ومن يستغشي ثوبه على ما يريد أن يستره به . وهذا الاحتمال لا يناسب كون الآية مكية إذ لم يكن المشركون يومئذٍ بمصانعين للنبيء صلى الله عليه وسلم وتأويلها بإرادة أهل النفاق يقتضي أن تكون الآية مدنية . وهذا نقله أحد من المفسرين الأولين . وفي « أسباب النزول » للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زُهرة وكان رجلاً حُلو المنطق ، وكان يظهر المودة للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو منطو على عداوته ، أي عداوة الدين ، فضرب الله ثني الصدور مثلاً لإضماره بغض النبي صلى الله عليه وسلم فهو تمثيل وليس بحقيقة . وصيغة الجمع على هذا مستعملة في إرادة واحدة لقصد إبهامه على نحو قوله : { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] قيل فإنه هو الأخنس بن شريق .
ووقع في « صحيح البخاري » أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال : كان ناس من المسلمين يستخفون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت هذه الآية . وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر . فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها . واعلم أن شأن دعوة الحق أن لا تذهب باطلاً حتى عند من لم يصدقوا بها ولم يتبعوها ، فإنها تَلفت عقولهم إلى فَرض صدقها أو الاستعداد إلى دفعها ، وكل ذلك يثير حقيقتها ويُشيع دراستها . وكم من معرضين عن دعوة حق ما وسعهم إلا التحفز لشأنها والإفاقة من غفلتهم عنها . وكذلك كان شأن المشركين حين سمعوا دعوة القرآن إذْ أخذوا يتدبرون وسائل مقاومتها ونقضها والتفهم في معانيها لإيجاد دفعها ، كحال العاصي بن وائل قال لخباب بن الأرَتّ حين تقاضاه أجرَ سيف صنعه فقال له : لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد . فقال خَباب : لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يحييك . فقال العَاصي له : إذا أحياني الله بعد موتي فسيكون لي مال فأقضيك منه . فنزل فيه قوله تعالى : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً } [ مريم : 77 ] . وهذا من سوء فهمه لمعنى البعث وتوهمه أنه يُعاد لما كان حاله في الدنيا من أهل ومال .
والاستخفاء : الاختفاء ، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب واستأخر .
وجملة : { ألا حين يستغشون ثيابهم } الخ يجوز أن تكون إتماماً لجملة { ألا إنهم يثنون صدورهم } متصلة بها فيكون حرف { ألا } الثاني تأكيداً لنظيره الذي في الجملة قبله لزيادة تحقيق الخبر ، فيتعلق ظرف ( حين ) بفعل { يثنون صدورهم } ويتنازعه مع فعل { يَعلم ما يسرون } وتكون الحالة الموصوفة حالة واحدة مركبة من ثني الصدور واستغشاء الثياب .
والاستغشاء : التغشي بما يُغْشي ، أي يستر ، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل قوله : { واستغشوا ثيابهم } [ نوح : 7 ] ، مثل استجاب .
وزيادة { وما يعلنون } تصريح بما فهم من الكلام السابق لدفع توهم علمه بالخفيات دون الظاهر .
وجملة : { إنه عليم بذات الصدور } نتيجة وتعليل للجملة قبله ، أي يعلم سرهم وجهرهم لأنه شديد العلم بالخفي في النفوس وهو يعلم الجهر بالأوْلى .
فذات الصدور صفة لمحذوف يُعلم من السياق من قوله { عَليم } أي الأشياء التي هي صاحبة الصدور .
وكلمة ( ذات ) مؤنث ( ذو ) يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } [ الأنفال : 43 ] وقوله : { وأصلحوا ذات بينكم } في سورة [ الأنفال : 1 ] .
والصدور مراد بها النفوس لأن العرب يعبرون عن الحواسّ الباطنية بالصدر .
واختيار مثال المبالغة { وهو عليم } لاستقصاء التعبير عن إحاطة العلم بكل ما تسعه اللغة الموضوعة لمتعارف الناس فتقصر عن ألفاظٍ تعبر عن الحقائق العالية بغير طريقة استيعاب ما يصلح من المعبرات لتحصيل تقريب المعنى المقصود .
وذات الصدور : الأشياء المستقرة في النفوس التي لا تعدوها . فأضيفت إليها .