{ سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
يعني بقوله جل ثناؤه : سَيَقُولُ السّفَهاءُ سيقول الجهال من الناس ، وهم اليهود وأهل النفاق . وإنما سماهم الله عزّ وجلّ سفهاء لأنهم سَفِهوا الحقّ ، فتجاهلت أحبارُ اليهود ، وتعاظمت جهالُهم وأهلُ الغباء منهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، وتحير المنافقون فتبلّدوا .
وبما قلنا في السفهاء أنهم هم اليهود وأهل النفاق ، قال أهل التأويل . ذكر من قال هم اليهود :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم قال : اليهود تقوله حين تركَ بيتَ المقدس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثت عن أحمد بن يونس ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال : اليهود .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال : اليهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله : سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ قال : أهل الكتاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : اليهود .
وقال آخرون : السفهاء : المنافقون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : نزلت : سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ في المنافقين .
القول في تأويل قوله تعالى : ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا .
يعني بقوله جل ثناؤه : ما وَلاّهُمْ : أيّ شيء صرفهم عن قبلتهم ؟ وهو من قول القائل : ولاني فلان دُبُرَه : إذا حوّل وجهه عنه واستدبره ، فكذلك قوله : ما وَلاّهُمْ أيّ شيء حوّل وجوههم .
وأما قوله : عَنْ قِبْلَتِهِمُ فإن قِبْلَةَ كل شيء : ما قابل وجهه ، وإنما هي «فِعْلة » بمنزلة الجِلْسة والقِعْدة من قول القائل : قابلت فلانا : إذا صرت قبالته أقابله ، فهو لي قِبْلة ، وأنا له قبلة ، إذا قابل كل واحد منهما بوجهه وجه صاحبه .
قال : فتأويل الكلام إذن إذْ كان ( ذلك ) معناه : سيقول السفهاء من النّاس لكم أيها المؤمنون بالله ورسوله ، إذا حوّلتم وجوهكم عن قبلة اليهود التي كانت لكم قبلة قبل أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شطر المسجد الحرام : أيّ شيء حوّل وجوه هؤلاء ، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم ؟ فأعلم الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ما اليهود والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلى المسجد الحرام ، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردّه عليهم من الجواب ، فقال له : إذا قالوا ذلك لك يا محمد ، فقل لهم : لِلّهِ المَشْرقُ والمَغْربُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وكان سبب ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس مدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ثم أراد الله تعالى صَرْفَ قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام ، فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهه ووجه أصحابه شطره ، وما الذي ينبغي أن يكون من ردّه عليهم من الجواب .
ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس وما كان سبب صلاته نحوه وما الذي دعا اليهود والمنافقين إلى قيل ما قالوا عند تحويل الله قبلة المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة .
اختلف أهل العلم في المدّة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة . فقال بعضهم بما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، قال : أخبرني سعيد بن جبير أو عكرمة شكّ محمد عن ابن عباس قال : لما صُرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ونافع بن أبي نافع هكذا قال ابن حميد ، وقال أبو كريب : ورافع بن أبي رافع والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، فقالوا : يا محمد ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك وإنما يريدون فتنته عن دينه . فأنزل الله فيهم : سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا إلى قوله : إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعِ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال البراء : صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة . قال : فبينا نحن نصلّي ذات يوم ، فمرّ بنا مارّ فقال : ألا هل علمتم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلى الكعبة ؟ قال : وقد صلينا ركعتين إلى هَهنا ، وصلينا ركعتين إلى هَهنا . قال أبو كريب : فقيل له : فيه أبو إسحاق ؟ فسكت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : صلينا بعد قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، قال : حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال : صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا شكّ سفيان ثم صُرفنا إلى الكعبة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا النفيلي ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوّل ما قدم المدينة نزل على أجداده أو أخواله من الأنصار ، وأنه صلى قِبل بيت المقدس ستة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قوم . فخرج رجل ممن صلى معه ، فمرّ على أهل المسجد وهم ركوع ، فقال : أشهد لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل مكة . فداروا كما هم قبل البيت ، وكان يعجبه أن يحوّل قبل البيت . وكان اليهود أعجبهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قِبَل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلمّا وَلّى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك .
حدثني عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا ، ثم وُجّه نحو الكعبة قبل بدر بشهرين .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عثمان بن سعد الكاتب ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، قال : صلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر . فبينما هو قائم يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس ، انصرف بوجهه إلى الكعبة ، فقال السفهاء : ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مرّة ، عن ابن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهرا .
حدثنا أحمد بن المقدام العجلي ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي ، قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن الأنصار صلت القبلة الأولى قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى القبلة الأولى بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا ، أو كما قال . وكلا الحديثين يحدّث قتادة عن سعيد .
ذكر السبب الذي كان من أجله يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ، قبل أن يفرض عليه التوجه شطر الكعبة
اختلف أهل العلم في ذلك فقال بعضهم : كان ذلك باختيار من النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن عكرمة ، وعن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، والحسن البصري قالا : أوّل ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صخرة بيت المقدس ، وهي قبلة اليهود ، فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهرا ، ليؤمنوا به ويتبعوه ، ويدعوا بذلك الأميين من العرب ، فقال الله عزّ وجلّ : ولِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كانُوا عَلَيْهَا يعنون بيت المقدس .
قال الربيع ، قال أبو العالية : إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجه وجهه حيث شاء ، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتاب ، فكانت قبلته ستة عشر شهرا ، وهو في ذلك يقلب وجهه في السماء ، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام .
وقال آخرون : بل كان فعل ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بفرض الله عزّ ذكره عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيم عليه السلام ، وكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عزّ وجلّ : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ الآية ، فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فأنزل الله عز وجل : قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما صلى إلى الكعبة ، ثم صرف إلى بيت المقدس ، فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه ثلاث حجج ، وصلّى بعد قدومه ستة عشر شهرا ، ثم ولاّه الله جل ثناؤه إلى الكعبة .
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فرُوي عن ابن عباس فيه قولان : أحدهما ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال ذلك قوم من اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدّقك يريدون فتنته عن دينه .
والقول الاَخر : ما ذكرت من حديث عليّ بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قال : صلّت الأنصار نحو بيت المقدس حَوْلَيْن قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، وصلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام . فقال في ذلك قائلون من الناس : مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا لقد اشتاق الرجل إلى مولده . فقال الله عز وجل : قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وقيل : قائل هذه المقالة المنافقون ، وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها ، فكانوا أصنافا ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ فأنزل الله في المنافقين : سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ الآية كلها .
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
يعني بذلك عزّ وجلّ : قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك : ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس التي كنتم على التوجه إليها ، إلى التوجه إلى شطر المسجد الحرام : لله ملك المشرق والمغرب يعني بذلك مُلك ما بين قطري مشرق الشمس ، وقطري مغربها ، وما بينهما من العالم ، يهدي من يشاء من خلقه فيسدّده ، ويوفقه إلى الطريق القويم ، وهو الصراط المستقيم . ويعني بذلك إلى قبلة إبراهيم الذي جعله للناس إماما . ويخذل من يشاء منهم فيضله عن سبيل الحقّ . وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله : يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قل يا محمد إن الله هدانا بالتوجه شطر المسجد الحرام لقبلة إبراهيم ، وأضلكم أيها اليهود والمنافقون وجماعة الشرك بالله ، فخذلكم عما هدانا له من ذلك .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 142 )
أعلم الله تعالى في هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة : { ما ولاهم } ؟ و { السفهاء } هم الخفاف الأحلام والعقول ، والسفه الخفة والهلهلة ، ثوب سفيه أي غير متقن النسج ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت . . . أعالَيَها مرُّ الرياحِ النواسمِ
أي استخفتها( {[1333]} ) ، وخص بقوله { من الناس } ، لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات ، والمراد ب { السفهاء } هنا جميع من قال { ما ولاهم } ، وقالها فِرَقٌ .
واختلف في تعيينهم ، فقال ابن عباس : «قالها الأحبار منهم » ، وذلك أنه جاؤوا إلى النبي صلى -الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ما ولاك عن قبلتنا ؟ ارجع إليها ونؤمن بك ، يريدون فتنته ، وقال السدي : قالها بعض اليهود والمنافقون استهزاء ، وذلك أنهم قالوا : اشتاق الرجل إلى وطنه ، وقالت طائفة : قالها كفار قريش ، لأنهم قالوا : ما ولاه عن قبلته ؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه أنَّا على الحق وسيرجع إلى ديننا كله ، و { ولاهم } معناه صرفهم ، والقبلة فعلة هيئة المقابل للشيء ، فهي كالقعدة والإزرة( {[1334]} ) .
وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله { سيقول } دلالة على استدامة ذلك ، وأنهم يستمرون على ذلك القول( {[1335]} ) ، ونص ابن عباس وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم .
وقوله تعالى : { قل لله المشرق والمغرب } إقامة حجة ، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما ، ويهدي من يشاء ، إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم ، والصراط : الطريق .
واختلف العلماء ، هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن أو بوحي غير متلو ؟( {[1336]} ) ، فذكر ابن فورك عن ابن عباس قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وقال الجمهور : بل كان أمر قبلة بيت المقدس بوحي غير متلو ، وقال الربيع : خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس ، ليستألف بها أهل الكتاب ، ومن قال كان بوحي غير متلو قال : كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب ، لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره ، واختلف كم صلى إلى بيت المقدس ، ففي البخاري : ستة عشر أو سبعة عشر شهراً( {[1337]} ) ، وروي عن أنس بن مالك : تسعة أو عشرة أشهر ، وروي عن غيره : ثلاثة عشرة شهراً .
وحكى مكي عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال : أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخر ، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ففرضت الخمس ، وأمَّ فيها جبريل عليه السلام ، وكانت أول صلاة الظهر ، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس ، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ربيع الأول ، وتمادى إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين ، وقيل إلى جمادى ، وقيل إلى نصف شعبان .