جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلََكِن مّتّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } .

يقول تعالى ذكره : قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى : تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم ، أنت ولينا من دونهم ، ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة حتى نَسُوا الذكر وكانوا قوما هَلْكي قد غلب عليهم الشقاء والخِذْلان .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَكِنّ مَتّعْتَهُمْ وآباءَهُمْ حتى نَسُوا الذّكْرَ وكانُوا قَوْما بُورا يقول : قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا ، ولم تكن لهم أعمال صالحة .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وكانُوا قَوْما بُورا يقول : هلكى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وكانُوا قَوْما بُورا يقول : هَلْكَى .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن : وكانُوا قَوْما بُورا قال : هم الذين لا خير فيهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكانُوا قَوْما بُورا قال : يقول : ليس من الخير في شيء . البور : الذي ليس فيه من الخير شيء .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِياءٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : نَتّخِذَ بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القَعقاع ، فإنهما قرآه : «أنْ نُتّخَذَ » بضمّ النون . فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بيّنّاه في تأويله ، من أن الملائكة وعيسى ومن عُبد من دون الله من المؤمنين هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ غير الله تعالى ذكره . وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون ، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يُعْبدوا من دون الله جلّ ثناؤه ، كما أخبر الله عن عيسى أنه قال إذا قيل أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لي بِحَقَ ما قُلْتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون ، لعلل ثلاث : إحداهنّ إجماع من القرّاء عليها . والثانية : أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سَبَأ ، فقال : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثم يقولُ للملائكة أهؤلاءِ إياكُم كانُوا يَعْبُدون قالوا سُبْحَانك أنتَ وَلِيّنا من دُونِهِمْ ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءُوا إلى الله من ولايتهم ، فقالوا لربهم : أنت وليّنا من دونهم ، فذلك يوضّح عن صحة قراءة من قرأ ذلك : ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِياء بمعنى : ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء . والثالثة : أن العرب لا تدخل «مِنْ » هذه التي تدخل في الجحد إلاّ في الأسماء ، ولا تدخلها في الأخبار ، لا يقولون : ما رأيت أخاك من رجل ، وإنما يقولون : ما رأيت من أحد ، وما عندي من رجل وقد دخلت هاهنا في الأولياء وهي في موضع الخبر ، ولو لم تكن فيها «مِنْ » ، كان وجها حسنا . وأما البُور : فمصدر واحد ، وجمع للبائر ، يقال : أصبحت منازلهم بُورا : أي خالية لا شيء فيها ، ومنه قولهم : بارت السّوق وبار الطعام : إذا خلا من الطّلاب والمشتري فلم يكن له طالب ، فصار كالشيء الهالك ومنه قول ابن الزّبَعْرَى :

يا رَسُولَ المَلِيك إنّ لسانِي *** رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ

وقد قيل : إن بور : مصدر ، كالعدل والزور والقطع ، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث . وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة لأنها لم تكن لله ، كما ذكرنا عن ابن عباس .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

{ قالوا سبحانك } تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون ، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلاله عبيده ، أو تنزيها لله تعالى عن الأنداد . { ما كان ينبغي لنا } ما يصح لنا . { أن نتخذ من دونك أولياء } للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك ، وقرئ { نتخذ } على البناء للمفعول من اتخذ الذي له مفعولان كقوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } ومفعوله الثاني { من أولياء } و{ من } للتبعيض وعلى الأول مزيدة لتأكيد النفي . { ولكن متعتهم وآباءهم } بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات . { حتى نسوا الذكر } حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك ، وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه ، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة . { وكانوا } في قضائك . { قوما بورا } هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع ، أو جمع بائر كعائذ وعوذ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

وقرأ جمهور الناس «نَتخذ » بفتح النون وذهبوا بالمعنى إلى أنه من قول من يعقل وأن هذه الآية بمعنى التي في سورة سبأ : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم }{[8796]} [ سبأ : 40 - 41 ] ، وكقول عيسى عليه السلام { وما قلت لهم إلا ما أمرتني به }{[8797]} [ المائدة : 117 ] ، و { من أولياء } في هذه القراءة في موضع المفعول به ، وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وحفص بن حميد{[8798]} «نُتخذ » بضم النون ، وتذهب هذه مذهب من يرى أن الموقف المجيب الأوثان ويضعف هذه القراءة دخول { من } في قوله { من أولياء } ، اعترض بذلك سعيد بن جبير ، وغيره ، قال أبو الفتح { من أولياء } في موضع الحال{[8799]} ودخلت { من } زائدة لمكان النفي المتقدم كما تقول ما اتخذت زيداً من وكيل ، وقرأ علقمة «ما ينبغي » بسقوط «كان » وثبوتها أمكن في المعنى ، لأنهم أخبروا على حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه ، وفسّر هذا المجيب بحسب الخلاف فيه الوجه في ضلال الكفار كيف وقع ، وأنه لما متعهم الله تعالى بالنعم الدنياوية وأدرها لهم ولأسلافهم الأحقاب الطويلة { نسوا الذكر } أي ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء ، و { بوراً } ، معناه هلكاً ، والبوار الهلاك واختلف في لفظة بور ، فقالت فرقة هو مصدر يوصف به الجمع والواحد ومنه قول ابن الزبعرى : { الخفيف ]

يا رسول المليك إن لساني . . . راتق ما فتقت إذ أنا بور{[8800]}

وقالت فرقة هي جمع بائر وهو الذي قد فارقه الخير فحصل بذلك في حكم الهلاك باشره الهلاك بعد أو لم يباشر ، قال الحسن البائر الذي لا خير فيه .


[8796]:الآية 40 ومن الآية 41 من سورة سبأ.
[8797]:من الآية 117 من سورة المائدة.
[8798]:هو حفص بن حميد القمي بالقاف، أبو عبد الله، روى عن عكرمة، وروى عنه أشعث بن إسحاق وغيره، وثقه النسائي.
[8799]:أي: على قراءة [نُتَخذ]بضم النون، أما على قراءة الجمهور [نَتَّخذ] بفتح النون فإنها عنده في موضع المفعول به أيضا، قال: فهي كقولك: ضربت رجلا، فإن نفيت قلت: ما ضربت من رجل (المحتسب).
[8800]:هذا البيت من الأبيات التي قالها ابن الزبعرى بعد إسلامه، وهو فيها يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ي، ومن مال ميله مثبور و "راتق ما فتقت": مصلح ما أفسدت حين كنت أباري الشيطان في طريق الضلال، وأصل الرتق: سد ما في الثوب الممزق من خروق وإصلاحها، والشاهد هنا أن (بور) معناها: هالك.