{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } على التأنيث بالتاء ، يراد بها : جمع الملائكة ، وكذلك تفعل العرب في جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت أفعالها ولاسيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث كقولهم : جاءت الطلحات .
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء ، بمعنى : فناداه جبريل فذكروه للتأويل ، كما قد ذكرنا آنفا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ ، فكذلك يذكّرون فعل المؤنث أيضا للفظ . واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد الله بن مسعود ، وهو ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد أن قراءة ابن مسعود : «فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب » .
وكذلك تأوّل قوله : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } جَماعة مِنْ أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } وهو جبريل أو : قالت الملائكة ، وهو جبريل { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } .
فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } والملائكة جمع لا واحد ؟ قيل : ذلك جائز في كلام العرب بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع ، كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البرد ، وإنما ركب بغلاً واحدا ، وركب السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، وكما يقال : ممن سمعت هذا الخبر ؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد¹ وقد قيل : إن منه قوله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } ، والقائل كان فيما ذكر واحدا ، وقوله : { وَإذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ } ، والناس بمعنى واحد ، وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد .
وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، أعني التاء والياء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وذلك أنه لا اختلاف في معنى ذلك باختلاف القرائين ، وهما جميعا فصيحتان عند العرب ، وذلك أن الملائكة إن كان مرادا بها جبريل كما روي عن عبد الله فإن التأنيث في فعلها فصيح في كلام العرب للفظها إن تقدمها الفعل ، وجائز فيه التذكير لمعناها . وإن كان مرادا بها جمع الملائكة فجائز في فعلها التأنيث ، وهو من قبلها للفظها ، وذلك أن العرب إذا قدمت على الكثير من الجماعة فعلها أنثته ، فقالت : قالت النساء ، وجائز التذكير في فعلها بناء على الواحد إذا تقدم فعله ، فيقال : قال الرجال .
وأما الصواب من القول في تأويله ، فأن يقال : إن الله جلّ ثناؤه ، أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد ، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب ، دون الأقلّ ما وجد إلى ذلك سبيل ، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد ، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني .
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم ، منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم . وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } .
وتأويل قوله { وَهُوَ قائِمٌ } : فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا . فقوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا¹ وقوله : { يُصَلّي } في موضع نصب على الحال من القيام ، وهو رفع بالياء . وأما المحراب : فقد بينا معناه ، وأنه مقدم المسجد .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } ، فقرأته عامّة القرّاء : { أنّ اللّهَ } بفتح الألف من «أن » بوقوع النداء عليها بمعنى فنادته الملائكة بذلك . وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة : «إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ » بكسر الألف بمعنى : قالت الملائكة : إن الله يبشرك ، لأن النداء قول¹ وذكروا أنها في قراءة عبد الله : «فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك »¹ قالوا : إذا بطل النداء أن يكون عاملاً في قوله : «يا زكريا » ، فباطل أيضا أن يكون عاملاً في «إن » .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } بفتح أن بوقوع النداء عليه ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك ، وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر إن ، من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك ، وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك ، فإنما قرأها بزعمهم . وقد اعترض ب«يا زكريا » بين «إن » وبين قوله : «فنادته » ، وإذا اعترض به بينهما ، فإن العرب تعمل حينئذ النداء في «أنّ » ، وتبطله عنها . أما الإبطال ، فإنه بطل عن العمل في المنادى قبله ، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله . وأما الإعمال ، فلأن النداء فعل واقع كسائر الأفعال . وأما قراءتنا فليس نداء زكريا ب«يا زكريا » ، معترضا به بين «أن » وبين قوله : «فنادته » ، وإذا لم يكن ذلك بينهما ، فالكلام الفصيح من كلام العرب إذ نصبت بقول : ناديت اسم المنادى ، وأوقعوه عليه أن يوقعوه كذلك على «أنّ » بعده وإن كان جائزا إبطال عمله ، فقوله : «نادته » ، قد وقع على مكنيّ زكريا¹ فكذلك الصواب أن يكون واقعا على «أنّ » وعاملاً فيها ، مع أن ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام ، ولا يعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيء الحجة .
وما قوله : { يُبَشّرُكَ } فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } بتشديد الشين وضمّ الياء على وجه تبشير الله زكريا بالولد ، من قول الناس : بشّرت فلانا البشرى بكذا وكذا ، أي أتته بشارات البشرى بذلك .
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة وغيرهم : «أنّ اللّهَ يَبْشُرُكَ » بفتح الياء وضمّ الشين وتخفيفها ، بمعنى : أن الله يسرّك بولد يهبه لك ، من قول الشاعر :
بَشَرْتُ عِيالي إذْ رأيْتُ صَحِيفَةً *** أتَتْكَ مِنَ الحَجّاجِ يُتْلَى كِتابُها
وقد قيل : إن «بَشَرت » لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش ، وأنهم يقولون : بَشَرت فلانا بكذا فأنا أَبْشُرُه بَشْرا ، وهل أنت باشرٌ بكذا ؟ وينشد لهم البيت في ذلك :
وإذَا رأيْتُ الباهِشِينَ إلى العُلا *** غُبْرا أكُفّهُمْ بقاعٍ مُمْحِلِ
فأعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ *** وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزِلِ
فإذا صاروا إلى الأمر ، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف ، فيقال : ابْشَرْ فلانا بكذا ، ولا يكادون يقولون : بشّره بكذا ، ولا أبْشِرْه .
وقد رُوي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ : «يُبْشِركَ » بضم الياء وكسر الشين وتخفيفها . وقد :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاد الكوفي ، قال : من قرأ «يبشّرهم » مثقلة ، فإنه من البشارة ، ومن قرأ «يَبْشُرُهم » مخففة بنصب الياء ، فإنه من السرور ، يسرّهم .
والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك ضم الياء وتشديد الشين ، بمعنى التبشير ، لأن ذلك هي اللغة السائرة ، والكلام المستفيض المعروف في الناس ، مع أن جميع قرّاء الأمصار مجمعون في قراءة : { فبم تبشّرون } على التشديد . والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره أن يكون مثله في التشديد وضم الياء .
وأما ما رُوي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك ، فلم نجد أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح ، فلا معنى لما حكي من ذلك عنه ، وقد قال جرير بن عطية :
يا بِشْرُ حُقّ لِبشْرِكَ التّبْشِيرُ *** هَلاّ غَضِبتَ لَنا وأنْتَ أمِيرُ
فقد علم أنه أراد بقوله «التبشير » : الجمال والنضارة والسرور ، فقال «التبشير » ولم يقل «البشر » ، فقد بين ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قال : بشرته الملائكة بذلك .
( وأما قوله : { بِيَحْيَى } فإنه اسم أصله يَفْعَل ، من قول القائل : حي فلان فهو يحيا ، وذلك إذا عاش فيحيى «يَفْعَل » من قولهم «حيي » . وقيل : إن الله جلّ ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بالإيمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } يقول : عبد أحياه الله بالإيمان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قال : إنّمَا سمي يحيى ، لأن الله أحياه بالإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : إن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك ، { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله } يعني بعيسى ابن مريم . ونصب قوله
«مصدّقا » على القطع من يحيى ، لأن «مصدقا » نعت له وهو نكرة ، و«يحيى » غير نكرة .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ ، عن مجاهد قال : قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك ، قال : فوضعت امرأة زكريا يحيى ، ومريم عيسى . ولذا قال : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال يحيى : مصدّق بعيسى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الرقاشي في قول الله : { يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى ابن مريم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يقول : مصدّق بعيسى ابن مريم ، وعلى سننه ومنهاجه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يعني عيسى ابن مريم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يقول : مصدّقا بعيسى ابن مريم ، يقول : على سننه ومنهاجه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلمة من الله وروح .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يصدّق بعيسى .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } فإن يحيى أوّل من صدّق بعيسى ، وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى ابن خالة عيسى ، وكان أكبر من عيسى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال عيسى ابن مريم : هو الكلمة من الله اسمه المسيح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : كان عيسى ويحيى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، فذلك تصديقه بعيسى ، سجوده في بطن أمه ، وهو أوّل من صدّق بعيسى وكلمة عيسى ، ويحيى أكبر من عيسى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : الكلمة التي صدّق بها عيسى .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لقيَتْ أمّ يحيى أمّ عيسى ، وهذه حامل بيحيى وهذه حامل بعيسى ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم استشعرت أني حبلى ، قالت مريم : استشعرت أني أيضا حبلى . قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك . فذلك قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى ابن مريم .
وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن معنى قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } بكتاب من الله ، من قول العرب : أنشدني فلان كلمة كذا ، يراد به قصيدة كذا . جهلاً منه بتأويل الكلمة ، واجتراءً على ترجمة القرآن برأيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَيّدا } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَسَيّدا } : وشريفا في العلم والعبادة ، ونصب «السيد » عطفا على قوله «مصدّقا » .
وتأويل الكلام : إن الله يبشرك بيحيى مصدّقا بهذا وسيدا ، والسيد : الفَيْعِل ، من قول القائل : ساد يسود . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَسَيّدا } : إي والله ، لسيد في العبادة والحلم والعلم والورع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { وَسَيّدا } قال : السيد لا أعلمه إلا قال في العلم والعبادة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : السيد : الحليم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : { وَسَيّدا } قال : الحليم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : { وَسَيّدا } قال : السيد : التقيّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ { وَسَيّدا } قال : السيد : الكريم على الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : زعم الرقاشي أن السيد : الكريم على الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قول الله عزّ وجلّ : { وَسَيّدا } قال : السيد : الحليم التقيّ .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَسَيّدا } قال : يقول : تقيا حليما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان في قوله : { وَسَيدا } قال : حليما تقيا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : { وَسَيّدا } قال : السيد : الشريف .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قول الله عزّ وجلّ : { وَسَيّدا } قال : السيد : الفقيه العالم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَسَيّدا } قال : يقول : حليما تقيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة : { وَسَيّدا } قال : السيد الذي لا يغلبه الغضب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ } .
يعني بذلك : ممتنعا من جماع النساء من قول القائل : حصرت من كذا أحصر : إذا امتنع منه¹ ومنه قولهم : حصر فلان في قراءته : إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها ، وكذلك حصر العدوّ : حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف ، ولذلك قيل للذي لا يُخرِج مع ندمائه شيئا : حصور ، كما قال الأخطل :
وَشارِبٍ مُرْبِحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي *** لا بالحَصُورِ ولا فِيها بسَوّارِ
ويروى «بسّار » . ويقال أيضا للذي لا يخرج سرّه ويكتله حصور ، لأنه يمنع سرّه أن يظهر ، كما قال جرير :
وَلَقَدْ تَسَقّطَنِي الوُشاةُ فصادَفُوا *** حَصِرا بِسِرّكِ يا أُمَيْمَ ضَنِينا
وأصل جميع ذلك واحد ، وهو المنع والحبس .
وبمثل الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن خلف ، قال : حدثنا حماد بن شعيب ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله في قوله : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال ثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا » ، قال : ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عويدا صغيرا ، ثم قال : «وَذَلكَ أنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ ، وبذلك سماه الله سيدا وحصورا » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : ليس أحد إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا ، كان حصورا ، معه مثل الهدبة .
حدثنا أحمد بن الوليد القرشي ، قال : حدثنا عمر بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال ابن العاص إما عبد الله ، وإما أبوه : ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب ، إلا يحيى بن زكريا . قال : وقال سعيد بن المسيب : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يغشى النساء ، ولم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله : { وَحَصُورا } قال : الحصور¹ الذي لا يشتهي النساء ، ثم ضرب بيده إلا الأرض فأخذه نواة فقال : ما كان معه إلا مثل هذه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، مثله .
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد : { وَحَصُورا } قال : الذي لا يأتي النساء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الحصور : لا يقرب النساء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : زعم الرقاشي : الحصور : الذي لا يقرب النساء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : الحصور : الذي لا يولد له ، وليس له ماء .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله :
{ وَحَصُورا } قال : هو الذي لا ماء له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَحَصُورا } كنا نحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الحصور : الذي لا ينزل الماء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد : { وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يريد النساء .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { وَحَصُورا } قال : لا يقرب النساء .
وأما قوله : { وَنَبِيّا مِنَ الصالِحِينَ } فإنه يعني : رسولاً لربه إلى قومه ، ينبئهم عنه بأمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم . ويعني بقوله : { مِنَ الصّالِحِينَ } من أنبيائه الصالحين . وقد دللنا فيما مضى على معنى النبوّة وما أصلها بشواهد ذلك ، والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه بما أغنى عن إعادته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الله جلّ ثناؤه، أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقلّ ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
{وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى}: فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا. فقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا. وأما المحراب: [فهو] مقدم المسجد.
{أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ} بتشديد الشين وضمّ الياء على وجه تبشير الله زكريا بالولد.
{بِيَحْيَى} فإنه اسم أصله يَفْعَل، من قول القائل: حي فلان فهو يحيا، وذلك إذا عاش فيحيى «يَفْعَل» من قولهم «حيي». وقيل: إن الله جلّ ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بالإيمان. {مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ}: إن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك، {مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله}: يعني بعيسى ابن مريم، وعلى سننه ومنهاجه... كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلمة من الله وروح.
{وَسَيّدا}: وشريفا في العلم والعبادة.
وتأويل الكلام: إن الله يبشرك بيحيى مصدّقا بهذا وسيدا، والسيد: من قول القائل: ساد يسود... في العبادة والحلم والعلم والورع... السيد: التقيّ... الكريم على الله... الفقيه العالم... الذي لا يغلبه الغضب.
{وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ}: ممتنعا من جماع النساء من قول القائل: حصرت من كذا أحصر: إذا امتنع منه ومنه قولهم: حصر فلان في قراءته: إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، وكذلك حصر العدوّ: حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف.
وأصل جميع ذلك واحد: وهو المنع والحبس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال ثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا»، قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض، فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: «وَذَلكَ أنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ، وبذلك سماه الله سيدا وحصورا».
{وَحَصُورا}: هو الذي لا ماء له... الذي لا يقرب النساء.
{وَنَبِيّا مِنَ الصالِحِينَ}: رسولاً لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم. {مِنَ الصّالِحِينَ}: من أنبيائه الصالحين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: السيد: الذي يطيع ربه ولا يعصيه... {بيحيى}: قيل: سماه به لما حيي به الدين والمروءة، أو حيي به العلم والحكمة، أو حيي به الأخلاق الفاضلة والأفعال المرضية،... ولهذا، والله أعلم، سمي سيدا، لأن السود في الخلق يكسب بهذا النوع من الأحوال، وسمي مسيحا بالبركة، أو يبارك في كل شيء يمسه بيده نحو أن يبرأ به، ويحيى، والله أعلم. وحقيقة السود أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة والأفعال المرضية. وجائز أن يكون عليه السلام جمعهما فيه، فسمي بهما، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً ونَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ} يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يُسمَّى بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى سَمَّى يحيى سيداً، والسيد هو الذي تَجِبُ طاعته؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحُكْمِ بينه وبين بني قُرَيْظة:"قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ"؛ وقال صلى الله عليه وسلم للحسن: "إنَّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ"؛ ... وقال لبني سَلِمَةَ: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يا بني سَلِمَةَ؟ "قالوا: الحرّ بن قيس على بُخْلٍ فيه، قال: "وأيّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ! ولَكِنْ سَيِّدُكُمْ الجَعْدُ الأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ"...
فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمَّى سيداً. وليس السيد هو المالَك فحسب؛ ... وقد رُوي أن وفد بني عامر قَدِمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت سيدنا وذو الطَّوْلِ علينا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "السَّيِّدُ هو اللهُ تَكَلَّمُوا بكَلاَمِكُمْ ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ"، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل السادة من بني آدم، ولكنه رآهم متكلّفين لهذا القول، فأنكره عليهم، كما قال:"إنَّ أَبْغَضَكُمْ إليَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَشَدِّقُونَ المُتَفَيْهقُونَ"، فكره لهم تكلُّفَ الكلام على وجه التّصنّع...
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تَقُولُوا للمُنَافِقِ سَيِّداً فإنّه إنْ يَكُ سَيِّداً فَقَدْ هَلِكْتُمْ"، فنهى أن يُسَمَّى المنافق سيداً، لأنه لا تجب طاعته...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
واختلفوا في تسميته كلمة من الله على قولين: أحدهما: أنه خلقه بكلمته من غير أب. والثاني: أنه سُمِيَ بذلك لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بكلام الله عز وجل...
وسَيِّداً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الخليفة. والخامس: سيد المؤمنين، يعني بالرياسة عليهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما سأل السؤال، ولازم الباب أَتَتْهُ الإجابةُ. وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة...
"مصدقاً بكلمة من الله": أن تصديقه بكلمة "الله "فيما تعبده به، أو هو مكوَّن بكلمة الله...
"وَسَيِّدًا": السيدُ من ليس في رق مخلوق، تحرَّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق، ويقال:السيد: من تحقق بعلويته سبحانه، ويقال السيد من فاق أهل عصره، وكذلك كان يحيى عليه السلام...
"وَحَصُورًا": أي مُعْتَقاً من الشهوات، مكفياً أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر...
{وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ}: مستحقاً لبلوغ رتبتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟ كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن، ولا تتقيد بمألوف الناس؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد: (فنادته الملائكة -وهو قائم يصلي في المحراب- أن الله يبشرك بيحيى، مصدقا بكلمة من الله. وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين)...
. لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء؛ ويملك الإجابة حين يشاء. وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده؛ " يحيى"؛ وصفته معروفة كذلك: سيدا كريما، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته من الانفلات. ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله. ونبيا صالحا في موكب الصالحين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {فنادته الملائكة} للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت. وقوله: {وهو قائم} جملة حالية والمقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته؛ لأنّ دعاءه كان في صلاته...
والسيد فَيْعِل من سَاد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل...
والسيّد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معاً...
وفي الحديث "أَنا سيّد ولد آدم ولا فخر "وفيه « إنّ ابني هذا سيّد» يعني الحسنَ بن علي فقد كان الحسنُ جامعاً خصال السؤدد الشرعي، وحسبك من ذلك أنّه تنازل عن حق الخلافة لجمع كلمة الأمة، ولإصلاح ذات البين،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قوله تعالى: {أن الله يبشرك بيحيى}... واقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى ان ذلك المولود سيحيى اسمه وذكره بعد موته،وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء،إذ قال كما في سورة مريم {يرثني ويرث آل يعقوب واجعله رب رضيا} [مريم 6]. وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا،فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه؛ ولذا قال سبحانه في وصفه: {مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين}... والسيد فيعل من السيادة،وهي الشرف والتفوق والعلو،وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها،ويضبطها ويأخذ بعنانها،فلا تذل،ولا تتكبر ولا تجمح،ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور،والاستغناء عما في هذا المصر؟فقيل له:الحسن البصري فقال:وبم ساده؟قيل استغنى عما في أيدي الناس،واحتاج الناس إلى ما في يده،فقال:ذلك هو السيد حقا. فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معاني السؤدد ومكارم الأخلاق...
أنه نبي من الصالحين،وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا؛ فإن الوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه،ولكن الله سبحانه وتعالى من عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله {ومن الصالحين} إشارة إلى موطن النبوة.وموضع اختيارها،والله سبحانه وتعالى اعلم حيث يجعل رسالته،وهو سبحانه وتعالى لا يختارهم إلا من الصالحين،فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة،ويعصمهم عن المعاصي بعدها...
إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه، قام إلى الصلاة، فنادته الملائكة، وهو قائم يصلي، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته، {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ}...
والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي يبشر، فهو الذي يقدر، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة، {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} لقد قال له الله: سأعطيك. وزيادة على العطاء سماه الله ب {يَحْيَى} وفوق كل ذلك: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}...
ولننظر إلى دقة الحق حين يقول: {بِيَحْيَى مُصَدِّقاً}. هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق، وهو سيأتي بكلمة من الله، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام...