التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ( 36 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 37 ) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ( 38 ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ( 39 ) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( 40 ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ( 41 ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ( 42 )

قال القرطبى ما ملخصه : أجمع العلماء على أن هذه الآية - وهى قوله - تعالى - { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } - من المحكم المتفق عليه - ليس منها شئ منسوخ . وكذلك هى فى جميع الكتب . ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل وإن لم ينزل به الكتاب . والعبودية هى التذلل والافتقار لمن له الحكم والاختيار . فالآية أصل فى خلوص الأعمال لله وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره . وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله - تعالى - أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه " .

والمعنى : عليكم أيها الناس أن تخلصوا لله - تعالى - العبادة والخضوع ، وأن تتجهوا إليه وحده فى كل شئونكم بدون أن تتخذا معه أى شريك لا فى عقيدتكم ولا فى عبادتكم ولا فى أقوالكم ولا فى أعمالكم ، كما قال - تعالى - { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ } وهذه العبادة الخالصة لله - تعالى - هى حقه - سبحانه - علينا ، فهو الذى خلقنا وهو الذى رزقنا وهو المتفضل علينا فى جميع الحالات .

روى البخارى " عن معاذ بن جبل قال : كنت ردف النبى - صلى الله عليه وسلم - على حمار يقال له عفيرة . فقال : يا معاذ هل تدرى ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ؟ قلت الله ورسوله أعلم . قال : فان حق الله على العبادة ان يبعدوه ولا يشركوا به شيئا . وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا . فقلت : يا رسول الله ! أفلا أبشر به الناس ؟ قال : لا تبشرهم فيتكلوا " .

وقد صدر سبحانه - تلك الوصايا الحكيمة التى اشتملت عليها الآية الكريمة بالأمر بعبادته والنهى عن أن نشرك به شيئا ، لأن إخلاص العبادة له أساس الدين ، ومداره الأعظم الذى بدونه لا يقبل الله من العبد عملاما ، ولأن فى ذلك إيماء إلى ارتفاع شأن تلك الوصايا التى سيقت بعد ذلك ، إذ قرنا بالعبادة والتوحيد يكسبها عظمة وجلالا .

وعطف النهى عن الشرك على الأمر بالعبادة لله - تعالى - من باب عطف الخاص على العام ، لأن الإِشراك ضد التوحيد فيفهم من النهى عن الإِشراك الأمر بالتوحيد .

ثم أوصى - سبحانه - بالإِحسان إلى الوالدين فقال : { وبالوالدين إِحْسَاناً } .

أى : عليكم أن تخلصوا لله العبادة ولا تشركوا معه شيئا ، وعليكم كذلك أن تحسنوا إلى الوالدين بأن تطيعوهما وتكرموهما وتستجيبوا لمطالبهما التى يرضاها الله ، والتى فى استطاعتكم أداؤها .

وقد جاء الأمر بالإِحسان إلى الوالدين عقب الأمر بتوحيد الله ، لأن أحق الناس بالاحترام والطاعة بعد الله - عز وجل - هما الوالدان ؛ لأنهما هما السبب المباشر فى وجود الإِنسان .

ومن الآيات التى قرنت الأمر بالإِحسان إلى الوالدين بالأمر بطاعة الله قوله - تعالى - : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } وقوله - تعالى - : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً } وقوله - تعالى - : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً } ومن الأحاديث التى أمرت بالإِحسان إلى الوالدين ونهت عن الإِساءة إليهما ما رواه الترمذى عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رضا الله فى رضا الوالدين وسخط الله فى سخط الوالدين " .

وروى أبو داود والبيهقى عن رجل من بنى سلمة أنه جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله هل بقى على من بر أبوى شئ أبرهما به بعد موتهما ؟ قال : نعم . الصلاة عليهما . والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما " .

وقد جاءت هذه الجملة وهى قوله تعالى { وبالوالدين إِحْسَاناً } فى صورة الخبر إلا أن المراد بها الأمر بالإِحسان إليهما ، ففى الكلام محذوف والتقدير : وأحسنوا بالوالدين إحسانا . فقوله وبالوالدين متعلق بالفعل المقدر .

ثم أمر - سبحانه - بالإِحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين فقال : وبذى القربى واليتامى والمساكين .

أى وأحسنوا كذلك إلى أقاربكم الذين جمعت بينكم وبينهم رابطة القرابة والنسب ، وإلى اليتامى الذين فقدوا الأب الحانى بأن تعطفوا عليهم ، وترحموا ضعفهم ، وتحسنوا تربيتهم ورعايتهم . وإلى المساكين الذين هم فى حاجة إلى العون والمساعدة لفقرهم وضعفهم وعدم وجود ما يقوم بكفايتهم .

وقد وردت آيات كثيرة فى القرآن الكريم تدعو المسلمين إلى الإِحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً وَذِي القربى واليتامى والمساكين } وقوله - تعالى - { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يبسط له فى رزقه وأن ينسأ له فى أثره فليصل رحمه " ، وروى الشيخان أيضا عن سهل بن سعد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى - أى أشار وفرج بين السبابة والوسطى " .

وروى البخارى غيره عن صفوان بن سليم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله ، أو كالذى يصم النهار ويقوم الليل " .

ثم أمر - سبحانه - بالإِحسان إلى طائفة أخرى من الناس فقال - تعالى - : { والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .

والجار ذو القربى : هو الجار الذى قرب جواره . أو هو الذى له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين ، فإن له مع حق الجوار حق القرابة .

والجار الجنب : هو الجار الذى بعد جواره عن جوارك من الجنابة ضد القرابة . يقال : اجتنب فلان فلانا إذا بعد عنه . وقيل هو الجار الذى لا قرابة فى النسب بينه وبين جاره ، ويقابله الجار ذو القربى .

وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الجملة أكثر من عشرة أحاديث تتعلق بالإِحسان إلى الجار ومنها ما رواه الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .

وروى الترمذى عن عبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه . وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره " .

والصاحب بالجنب : هو الرفيق فى كل أمر حسن : كتعليم أو تجارة أو سفر أو غير ذلك .

قال صاحب الكشاف : " والصاحب بالجنب : هو الذى صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا فى سفر ، وإما جارا ملاصقا ، وإما شريكا فى تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعدا إلى جنبك فى مجلس أو مسجد أو غير ذلك فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإِحسان . وقيل : الصاحب بالجنب المرأة .

وابن السبيل : هو المسافر الذى انقطع عن بدله ، ونفد ما فى يده من مال يوصله إلى مبتغاه .

والسبيل : الطريق فنسب المسافر إليه لمروره عليه وملابسته له .

ومن الإِحسان إليه . إيواؤه وإطعامه ومساعدته بما يوصله إلى موطنه .

والمراد بقوله { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } العبيد الأرقاء الذين ملكت رقابهم ، فصاروا ضعاف الحيلة لامتلاك غيرهم لهم .

وقد أوصى النبى صلى الله عليه وسلم بالإِحسان إليهم فى كثير من الأحاديث ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجه عن على بن أبى طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل يوصى أمته فى مرض موته فيقول : الصلاة الصلاة . اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم " .

وروى الإِمام أحمد والنسائى عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة . وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة . وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة . وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة " .

وروى الشيخان عن أبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " هم إخوانكم خولكم . جعلكم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبكم . فإن كلفتموهم فأعينوهم " .

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أمرت الناس بإخلاص العبادة لله - تعالى - ، كما أمرتهم بالإِحسان إلى آبائهم وإلى أقاربهم وإلى البائسين والمحتاجين وغيرهم ممن هم فى حاجة إلى مدّ يد العون والمساعدة .

وبتنفيذ هذه الوصايا السامية تسعد الإِنسانية ، وتنال ما تصبوا إليه من رقى واستقرار . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } .

والمختال : هو المتكبر المعجب بنفسه : سمى بذلك لأنه يتخيل لنفسه من السجايا والصفات والأفعال ما ليس فيه . فيستغلى على الناس ولا يلتفت إليهم .

والفخور : هو الشديد الفخر بما يقول أو يفعل ، المكثر من ذكر مزاياه ومناقبه ، والمحب لأن يحمد بما لم يفعل .

أى : إن الله لا يحب من كان متكبراً معجبا بنفسه ، ومن كان كثير الفخر بما يقول أو يفعل لأن من هذه صفاته برعاية حقوق الناس بل إن غروره ليجعله يستنكف عن الاتصال بهم وإن فخره ليحمله على التطاول عليهم .

والجملة الكريمة علة لكلام محذوف والتقدير : لا تفتخروا ولا تختالوا فإن الله لا يحب من كان متصفا بهذه الصفات القبيحة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

«الواو » لعطف جملة الكلام على جملة غيرها ، والعبادة : التذلل بالطاعة ، ومنه : طريق معبد ، وبعير معبد ، إذا كانا معلمين ، و { إحساناً } نصب على المصدر ، والعامل فعل مضمر تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وما ذكر الطبري أنه نصب بالإغراء خطأ ، والقيام بحقوق الوالدين اللازمة لهما من التوقير والصون والإنفاق إذا احتاجا واجب ، وسائر ذلك من وجوه البر والألطاف ، وحسن القول ، والتصنع لهما مندوب إليه مؤكد فيه ، وهو البر الذي تفضل فيه الأم على الأب ، حسب قوله عليه السلام للذي قال له من أبر ؟ قال أمك . قال ثم من ؟ قال أمك . قال ثم من ؟ قال أمك : قال ثم من ؟ قال أباك ، ثم الأقرب فالأقرب ، وفي رواية : ثم أدناك أدناك{[4013]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «إحسان » بالرفع{[4014]} .

و«ذو القربى » : هو القريب النسب من قبل الأب والأم ، وهذا من الأمر بصلة الرحم وحفظها ، { واليتامى } : جمع يتيم ، وهو فاقد الأب قبل البلوغ ، وإن ورد في كلام العرب يتم من قبل الأم فهو مجاز واستعارة ، { والمساكين } : المقترون من المسلمين الذين تحل لهم الزكاة ، وجاهروا بالسؤال ، واختلف في معنى { الجار ذي القربى } وفي معنى { الجنب } ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم : الجار ذو القربى هو الجارالقريب النسب ، و { الجار الجنب } هو الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه{[4015]} ، وقال نوف الشامي : الجار ذو القربى هو الجار المسلم ، و { الجار الجنب } هو الجار اليهودي أو النصراني ، فهي عنده قرابة الإسلام وأجنبية الكفر ، وقالت فرقة : الجار ذو القربى هو الجار القريب المسكن منك ، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك ، وكأن هذا القول منتزع من الحديث ، قالت عائشة ، يا رسول الله إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك باباً{[4016]} ، واختلف الناس في حد الجيرة ، فقال الأوزاعي : أربعون داراً من كل ناحية جيرة ، وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد ، وبقدر ذلك في الدور وقالت فرقة : من ساكن رجلاً في محلة أو مدينة فهو جاره ، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض ، أدناها الزوج كما قال الأعشى : [ الطويل ]

أَيَا جَارَتِي بِينِي . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4017]}

وبعد ذلك الجيرة الخلط ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

سَائِلْ مُجَاوِرَ جرْمٍ هَلْ جَنَيت لَها حَرْباً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِيرَةِ الخُلُطِ{[4018]}

وحكى الطبري عن ميمون بن مهران : أن الجار ذا القربى أريد به جار القريب ، وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكأن وجه الكلام وجار ذي القربى{[4019]} ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «والجار ذا القربى » بنصب الجار ، وحكى مكي عن ابن وهب أنه قال عن بعض الصحابة في { الجار الجنب } : إنها زوجة وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ «والجار الجَنْبِ » بفتح الجيم وسكون النون ، و { الجنب } في هذه الآية معناه :

البعيد ، والجنابة البعد ، ومنه قول الشاعر وهو الأعشى : [ الطويل ]

أَتيْتُ حُرَيثاً زائراً عَنْ جنابة . *** فَكانَ حُرَيْثٌ عَنْ عَطَائيَ جَامِدا{[4020]}

ومنه قول الآخر ، وهو علقمة بن عبدة : [ الطويل ]

فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيبُ{[4021]}

وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الشيء جانباً ، وسئل أعرابي عن { الجار الجنب } ، فقال : هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه ، قال أبو علي : جنب صفة كناقة أجد{[4022]} ، ومشية سجح{[4023]} ، وجنب التطهر مأخوذ من الجنب{[4024]} .

وقال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك : الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي : الصاحب بالجنب الزوجة وقال ابن زيد : هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه ، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه ، وهما على راحلتين ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة{[4025]} فقطع قضيبين ، أحدهما معوج وخرج فأعطى صاحبه القويم وحبس هو المعوج ، فقال له الرجل : كنت يا رسول الله أحق بهذا ، فقال له : يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحبته ولو ساعة من نهار ){[4026]} .

وقال المفسرون : ابن السبيل هو المسافر على ظهر طريقه ، وسمي ابنه للزومه له كما قيل ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي عليه السلام : «لا يدخل الجنة ابن زنى » أي : ملازمه الذي يستحق بالمثابرة عليه أن ينسب إليه ، وذكر الطبري أن مجاهداً فسره بأنه المار عليك في سفره ، وأن قتادة وغيره فسره بأنه الضيف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول واحد ، { وما ملكت أيمانكم }{[4027]} يريد العبيد الأرقاء ، ونسب الملك إلى اليمين إذ هي في المعتاد جارحة البطش والتغلب والتملك ، فأضيفت هذه المعاني وإن لم تكن بها إليها تجوزاً والعبيد موصى بهم في غير ما حديث يطول ذكرها ، ويغنى عن ذلك اشتهارها{[4028]} .

ومعنى { لا يحب } في هذه الآية لا تظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ولا آثار حمده في الدنيا ، فهي المحبة التي هي صفة فعل أبعدها عمن صفته الخيلاء والفخر ، يقال خال الرجل يخول خلاً إذا تكبر وأعجب بنفسه ، وأنشد الطبري : [ المتقارب ]

فَإنْ كَنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا *** وإنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فاذهَبْ فَخَلْ{[4029]}

قال القاضي أبو محمد : ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد ، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو ، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم ، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به ، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل ، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا ، وقال أبو رجاء الهروي : لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً ، والفخر عد المناقب تطاولاً بذلك{[4030]} .


[4013]:-روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك)، وقال العلماء: أحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته، وشكره بشكره، وهما الوالدان، قال تعالى: {أن اشكر لي =ولوالديك}، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضى الرب في رضى الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين).
[4014]:- على معنى: واجب الإحسان إليهما. أو هو مبتدأ وخبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر وإن كان جملة خبرية نحو قوله تعالى: {فصبر جميل}.
[4015]:- أي: الغريب، قال بلعاء بن قيس: لا يجتوينا مجاور أبــــدا ذو رحم أو مجاور جنب وأنشد ابن الأعرابي: هل في القضية أن إذا استغنيتم وأمنتم فأنا البعيد الأجنب؟
[4016]:- أخرجه البخاري في الأدب، والحاكم وصححه – عن عائشة. الدر المنثور 2/185.
[4017]:- البيت كاملا هو قوله: أيا جارتي بيني فإنك طالقه كذاك أمور الناس غاد وطارقه وروي: أيا جارتا- وكذلك روي: أجارتنا.
[4018]:- البيت لوعلة الجرمي. والخلط: جمع خليط وهم القوم الذين أمرهم واحد. كانوا ينتجعون أيام الكلأ فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد فتقع بينهم ألفة. (اللسان).
[4019]:- قال أبو حيان: "يمكن تصحيح قول ميمون على ألا يكون جمعا بين الألف واللام والإضافة على ما زعم ابن عطية، بأن يكون قوله: [ذي القربى] بدلا من قوله: [والجار] على حذف مضاف، والتقدير: والجار جار ذي القربى، فحذف (جار) لدلالة (الجار) عليه، وقد حذفوا البدل في مثل هذا، قال الشاعر: رحم الله أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات يريد: أعظم طلحة الطلحات.
[4020]:- كذلك روي البيت في ديوان الأعشى، وفي تفسير القرطبي، ولكن جاء في تفسير الطبري: ................... فكان حريث في عطائي جاهدا.
[4021]:- قال علقمة هذا يخاطب الحارث بن جبلة ويمدحه، ويطلب منه إطلاق سراح أخيه (شاسا) من سجنه الذي حبسه فيه الحارث بعد أسره، وهذا هو المراد بقوله في البيت (نائلا) -وقد أطلقه الحارث هو ومن أسر معه من بني تميم- "عن اللسان"، ومثل هذا البيت والذي قبله: إذا ما رأوني مقبلا عن جنابة يقولون: من هذا وقد عرفوني.
[4022]:- في اللسان: ناقة مؤجدة: موثقة الخلق، وأجد: متصلة الفقار تراها كأنها عظم واحد، وناقة أجد: أي: قوية موثقة الخلق. ولا يقال للجمل: أجد.
[4023]:- يقال: مشى فلان مشيا سجحا وسجيحا، ومشية سجح أي: سهلة، وورد في حديث علي يحرض أصحابه على القتال: (وامشوا إلى الموت مشية سجحا). قال حسان: دعوا التخاجد وامشوا مشية سجحا إن الرجال ذوو عصب وتذكير.
[4024]:- الذي في اللسان: "الرجل جنب من الجنابة" – وقال: "الجنابة: المني- وفي التنزيل: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قال الأزهري: إنما قيل له جنب لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، وقيل: لمجانبته الناس ما لم يغتسل. وقيل: من الجنب، كأنه ضاجع ومسّ بجنبه جنبا.
[4025]:- الغيضة (بالفتح): الأجمة ومجتمع الشجر في مغيض ماء.
[4026]:- أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبي فديك، عن فلان ابن عبد الله، عن الثقة عنده، وفيه-كما في تفسير الطبري، وفي الدر المنثور-: (فقال له: كلا يا فلان)، بزيادة (كلا) التي سقطت من ابن عطية هنا.
[4027]:- وقعت [ما) على العاقل باعتبار النوع، كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم} وقيل: إن [ما] أعم من (من) فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم، والحيوانات غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان من الأرقاء، فغلب جانب الكثرة، وأمر الله تعالى بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان وغيره، البحر المحيط 3/ 245.
[4028]:- من ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق). وروى مسلم أيضا عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة، وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر، لو جمعت بينهما كانت حلّة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمة أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية). فقلت: يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه. فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم).
[4029]:- البيت في اللسان مادة (خيل)، ولم ينسبه، بل قال: قال الشاعر، ثم روى عن ابن بري أنه قال: "وروي البيت: فاذهب فخل، بضم الخاء، لأن فعله خال يخول، قال: وكان حقه أن يذكر في (خول)، وإنما ذكره الجوهري هنا لقولهم: الخيلاء، قال: وقياسه: الخولاء. ثم قال: والشاعر رجل من عبد القيس. اهـ.
[4030]:- أخرجه البغوي، وابن قانع في معجم الصحابة، والطبراني، وابن مردويه عن ثابت ابن قيس بن شماس قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نقرأ هذه الآية: (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا)، فذكر الكبر فعظمه، فبكى ثابت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟) فقال: يا رسول الله، إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي، قال: (فأنت من أهل الجنة، إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس). الدر المنثور 2/126.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء ، وقُدّم له الأمرُ بعبادة الله تعالى وعدمِ الإشراك على وجه الإدماج ، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم ، تجديداً لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قُدّم لذلك في طالع السورة بقوله : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } [ النساء : 1 ] . والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة .

والخطاب للمؤمنين ، قُدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك ، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله ، والاستزادة منها ، ونُهُوا عن الشرك تحذيراً ممّا كانوا عليه في الجاهلية . ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصْر ؛ إذ مفاده : اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي ، كأنّه قيل : لا تعبدوا إلاّ الله . والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل ، أو عبدِ الملك بن عبد الرحيم الحَارثي :

تَسيلُ على حَدّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا *** وليستْ على غَيْرِ الظُّبَات تَسيل

وإنّما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات ، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له ، لأنّه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضَى المقام هنا ، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تبعدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً } [ البقرة : 83 ] الآية ، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله ، لأنّهم قالوا لموسى : « اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة » ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربَّه ، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله .

وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يُقتلون في الحرب ، فتزهق نفوسهم بالسيوف ، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغةَ فيها .

و { شيئاً } منصوب على المفعولية ل ( تُشركوا ) أي لا تجعلوا شريكاً شيئاً ممّا يعبد كقوله : { ولن نشرك بربنا أحداً } [ الجن : 2 ] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد ، أي شيئاً من الإشراك ولو ضعيفاً كقوله : { فلن يضروك شيئاً } [ المائدة : 42 ] .

وقوله : { وبالوالدين إحسانا } اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة ، كقوله : { أن اشكر لى ولوالديك } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه } [ لقمان : 13 ، 14 ] ، ولذا قدّم معمول ( إحساناً ) عليه تقديماً للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء ، ووقع المصدر موقع الفعل . وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ . وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا . وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها ، وهو معنى البرّ ولذلك جاء « وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن » ؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى ، تقول : أحْسَنَ إلى فلان ، إذا وصله بمال ونحوه .

{ وذُو القربى } صاحب القرابة ، والقربى فُعلى ، اسم للقُرب مصدرِ قَرُب كالرجعي ، والمراد بها قرابة النسب ، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي : وهو قولهم : ذو القربى ، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب ، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل . وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم ؛ قال ارطأة بن سهية :

ونحو بنو عمّ على ذاكَ بيننا *** زَرَابِيّ فيها بِغْضَةٌ وتَنَافُس

وحسبك ما كان بين بَكر وتغلب في حرب البَسُوس ، وهما أقارب وأصهار ، وقد كان المسلمون يومَها عَرَبا قَريبي عهد بالجاهلية ؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة . وكانوا يحسنون بالجار ، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه ، وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف . ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { وذي القربى } [ البقرة : 83 ] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره . وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه ، وآمِن من غوائله ، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم ، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ ، وتَدينها الشدّة ، لنفس لَئيمة ، وكما ورد « شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه » فكذلك نقول : « شرّ الناس من عَظَّم أحداً لشرّه » .

وقوله : { واليتامى والمساكين } هذان صنفان ضعيفان عديما النصير ، فلذلك أوصي بهما .

والجار هو النزيل بقرب منزلك ، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها ، فالمراد ب { الجار ذي القربى } الجار النسيب من القبيلة ، وب { الجار الجنب } الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة ، فهو جُنُب ، أي بعيد ، مشتقّ من الجَانب ، وهو وصف على وزن فُعُل ، كقولهم : ناقة أجُد ، وقيل : هو مصدر ، ولذلك لم يُطابق موصوفه ، قال بَلْعَاء بن قيس :

لا يجتوينا مُجَاور أبداً *** ذُو رحم أو مُجَاور جُنُب

ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني ، ليطلق له أخاه شَاسا ، حين وقع في أسر الحارث :

فلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عن جَنَابَةٍ *** فإنِّي امرؤٌ وَسْط القباب غريب

وفسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار ، والجُنُبُ بعيدها ، وهذا بعيد ، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني ، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار ، وأقوالهم في ذلك كثيرة ، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق ، ومن ذلك الإحسان إلى الجار .

وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة : ففي « البخاري » عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه " . وفيه عن أبي شريح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول : " والله لاَ يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن " . قيل : « ومن يا رسول الله » قال : " من لا يأمن جارُه بوائقه " وفيه عن عائشة ، قلت : « يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي » قال " إلى أقربهما منك بابا " وفي « صحيح مسلم » : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ " إذا طبخت مَرَقة فأكْثِر ماءها وتعاهده جيرانك " . واختلف في حدّ الجوار : فقال ابن شهاب ، والأوزاعي : أربعون داراً من كلّ ناحية ، وروي في ذلك حديث : وليس عن مالك في ذلك حدّ ، والظاهر أنّه موكول إلى ما تعارفه الناس .

وقوله : { والصاحب بالجنب } هو المصاحب الملازم للمكان ، فمنه الضيف ، ومنه الرفيق في السفر ، وكلّ من هو مُلمّ بك لطلب أن تنفعه ، وقيل : أراد الزوجة .

{ وابن السبيل } هو الغريب المجتاز بقوم غيرَ نَاو الإقامة ، لأنّ من أقام فهو الجار الجُنب . وكلمة ( ابن ) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص ، كقولهم : أبو الليل ، وقولهم في المثل : أبوها وكيَّالُها . والسبيل : الطريق السابلة ، فابن السبيل هو الذي لازمَ الطريق سائراً ، أي مسافراً ، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها ، فعرَّفوه بأنه ابن الطريق ، رمى به الطريق إليهم ، فكأنّه وَلَدَه . والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة ، قليل النصير ، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه ، وبلد غير بلده .

وكذلك { ما ملكت أيمانكم } لأنّ العبيد في ضعف الرقّ والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم ، فلذلك كانوا أحقّاء بالوصاية .

وجملة : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سمّاهم بذمّ موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر . والاختيال : التكبّر ، افتعال مشتقّ من الخُيَلاء ، يقال : خالَ الرجلُ خَوْلا وخَالا . والفخور : الشديد الفخر بما فعل ، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء ، فهما ينافيان الإحسان المأمور به ، لأنّ المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفّع على من يظنّ به سبب يمنعه من الانتقام .

ومعنى نفي محبّة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمّن هذا وصفه ، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك ، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء ، فهو في معنى التحذير من بَقايا الأخلاق التي كانوا عليها .