1- سورة " البينة " ، تسمى –أيضا- سورة " لم يكن . . " وسورة " المنفكين " وسورة " القيمة " وسورة " البرية " ، وعدد آياتها ثماني آيات عند الجمهور ، وعدها قراء البصرة تسع آيات .
2- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، وقد لخص الإمام الآلوسي هذا الخلاف فقال : قال في البحر : هي مكية . . وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية . . وجزم ابن كثير بأنها مدنية ، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد عن أبي خيثمة البدري قال : لما نزلت هذه السورة ، قال جبريل : يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها " أُبَيّاً " . فقال صلى الله عليه وسلم لأُبَيِّ بن كعب –رضي الله عنه- : " إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة " ، فقال أُبَيّ : أو قد ذكرت ثَمَّ يا رسول الله ؟ قال : " نعم " فبكى أُبَيّ .
وقد رجع الإمام الآلوسي كونها مدنية ، فقال : وهذا هو الأصح( {[1]} ) .
وهذا الذي رجحه الإمام الآلوسي هو الذي نميل إليه ، لأن حديثها عن أهل الكتاب ، وعن تفرقهم في شأن دينهم ، يرجح أنها مدنية ، كما أن الإمام السيوطي قد ذكرها ضمن السور المدنية ، وجعل نزولها بعد سورة " الطلاق " وقبل سورة " الحشر " ( {[2]} ) .
" مِنْ " فى قوله - تعالى - { مِنْ أَهْلِ الكتاب } للبيان ، وقوله - سبحانه - { مُنفَكِّينَ } : للعلماء فى معنى هذا اللفظ أقوال متعددة ، منها : أنه اسم فاعل من انفك بمعنى انفصل ، يقال : فككت الشيء فانفك إذا افترق ما كان ملتحما منه .
والبينة : الحجة الظاهرة التى يتميز بها الحق من الباطل ، وأصلها من البيان بمعنى الظهور والوضوح ، لأن بها تتضح الأمور ، أو من البينونة بمعنى الانفصال ، لأن بها ينفصل الحق عن الباطل بعد التباسهما .
والمراد بها هنا : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقوله - تعالى - بعد ذلك : { رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } ، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان فى ذاته برهانا على صحة ما ادعاه من النبوة ، لتحليه بكمال العقل وبمكارم الأخلاق ، ولإِتيانه بالمعجزات التى تؤيد أنه صادق فيما يبلغه عن ربه .
والمعنى : لم يكن الذين كفورا من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ولم يكن - أيضاً - الذين كذبوا الحق من المشركين ، ولم يكن الجميع بمفارقين وبمنفصلين عن كفرهم وشركهم ، { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } التى هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما أتتهم هذه البينة ، منهم من آمن ومنهم من استمر على كفره وشركه وضلاله ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " كان الكفار من الفريقين ، أهل الكتاب ، وعبدة الأصنام ، يقولون قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبى المكتوب فى التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله - تعالى - ما كانوا يقولونه ، ثم قال : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } ، يعنى أنهم كانوا يَعِدُون باجتماع الكلمة ، والاتفاق على الحق ، إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ، ولا أقرهم على الكفر ، إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونظيره فى الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك عما أنا فيه حتى يرزقني الله - تعالى - الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول له واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك فى الفسق إلا بعد اليسار ، يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما .
وانفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه به . كالعظم إذا انفك من مفصله .
والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة .
ومنهم من يرى : أن { مُنفَكِّينَ } بمعنى متروكين ، لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك ، حتى تأتيهم البينة ، على معنى قوله - تعالى - : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } أو المعنى : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله - تعالى - وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله - تعالى - إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه - تعالى - قال : ما كانوا ليتركوا سدى .
وهناك أقوال أخرى فى معنى الآية رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها .
وقد قدم الله - تعالى - ذكر أهل الكتاب فى البيان ، لأن كفرهم أشنع وأقبح . إذ كانوا يقرأون الكتب ، ويعرفون أوصاف النبى صلى الله عليه وسلم ، فكانت قدرتهم على معرفة صدقه أكبر وأتم . وفي التعبير عنهم بأهل الكتاب دون اليهود والنصارى ، تسجيل للغفلة وسوء النية عليهم . حيث علموا الكتاب ، وعرفوا عن طريقه أن هناك رسولا كريما قد أرسله الله - تعالى - لهدايتهم ، ومع ذلك كفروا به ، كما قال - تعالى - : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين }
بسم الله الرحمن الرحيم{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } اليهود والنصارى فإنهم كفروا بالإلحاد في صفات الله سبحانه وتعالى ، و{ من } للتبيين ، والمشركين وعبدة الأصنام منفكين عما كانوا عليه من دينهم ، أو الوعد باتباع الحق إذ جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم { حتى تأتيهم البينة } الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن ؛ فإنه مبين للحق ، أو معجزة الرسول بأخلاقه ، والقرآن بإفحامه من تحدى به .
وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم { لم يكن الذين كفروا } .
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب « إن الله أمرني أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } قال : وسماني لك? قال : نعم . فبكى » فقوله : أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها ، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة { لم يكن } بالاقتصار على أول كلمة منها ، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب .
وسميت في أكثر المصاحف { سورة القيمة } وكذلك في بعض التفاسير . وسميت في بعض المصاحف { سورة البينة } .
وذكر في الإتقان أنها سميت في مصحف أبي { سورة أهل الكتاب } ، أي لقوله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } ، وسميت سورة { البرية } وسميت { سورة الانفكاك } . فهذه ستة أسماء .
واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية : الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين . وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية .
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام . وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبة البدري قال « لما نزلت { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيا » الحديث ، أي وأبي من أهل المدينة . وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية ، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري ، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية . قال ابن عطية : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالدينة .
وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر ، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير ، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع .
وعدد آياتها ثمان عند الجمهور ، وعدها أهل البصرة تسع آيات .
توبيخ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم .
والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها .
وتكذيبهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها .
والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية .
والثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم .
وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل وما فيه من فضل وزيادة .
استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصيلاً ينتزع من لفظها ونظمها ، فذكر الفخر عن الواحدي في « التفسير البسيط » له أنه قال : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً وقد تخبط فيها الكبار من العلماء . قال الفخر : « ثم إنه لم يلخص كيفية الإِشكال فيها .
وأنا أقول : وجه الإِشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر والشرك اللذيْن كانوا عليهما فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إن كلمة { حتى } لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر » اه كلام الفخر .
يريد أن الظاهر أن قوله : { رسول من الله } بدل من { البينة } وأن متعلِّق { منفكين } حُذف لدلالة الكلام عليه لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم ، وأن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسِّرة ب { رسول من اللَّه } هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم ، أي فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإِسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر ، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } [ البينة : 4 ] الخ كلاماً متصلاً بإعراضهم عن الإِسلام وذلك الذي درج عليه المفسرون ولنا في ذلك كلام سيأتي .
ومما لم يذكره الفخر من وجه الإِشكال : أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن مَّا ، وأن نصب المضارع بعد { حتى } ينادي على أنه منصوب ب ( أنْ ) مضمرة بعد { حتى } فيقتضي أنّ إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت ب { رسول من اللَّه } وإتيانْ الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه : هؤلاء على كفرهم ، وهؤلاء على شركهم .
وإذ قد تقرر وجه الإِشكال وكان مظنوناً أنه ملحوظ للمفسرين إجمالاً أو تفصيلاً فقد تعين أن هذا الكلام ليس وارداً على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه ، فوجب صرفه عن ظاهره ، إما بصرف تركيب الخَبر عن ظاهر الإِخبار وهو إفادة المخاطَب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب ، بأن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب .
وإمّا بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجازٍ أو كناية .
فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره . ومنهم من أبقوا الخبر على ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ { منفكين } ومنهم من تأول معنى { حتى } ومنهم من تأول { رسول } ، وبعضهم جوز في { البينة } وجهين .
وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعَة عشر قولاً ذكر الآلوسي أكثرها وذكر القرطبي مُعظمها غيرَ معزُو ، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر .
ومراجع تأويل الآية تَؤُول إلى خمسة :
الأول : تأويل الجملة بأسرها بأن يُؤوَّل الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب ، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري .
الثاني : تأويل معنى { منفكين } بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم ، وهو لابن عطية .
الثالث : تأويل متعلِّق { منفكين } بأنه عن الكفر وهو لعبد الجَبَّار ، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيّان . أو منفكين عن الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمن الملقب بالأصم ، أو منفكين عن الحياة ، أي هالكين ، وعُزي إلى بعض اللغويين .
الرابع : تأويل { حتى } أنها بمعنى ( إنْ ) الاتصالية . والتقدير : وإن جاءتهم البينة .
الخامس : تأويل { رسول } بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفاً من عند الله فهو في معنى قوله تعالى : { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم .
هذا والمراد ب { الذين كفروا من أهل الكتاب } أنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 11 ] .
وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت ، فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين .
إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإِصرار على الكفر عناداً ، فلنسلك بالخَبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبَةِ الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قَبيل استعمال الخبر في الإِنشاء والاستفهامِ في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتزاني في « المطول » : إن بيان أنه من أيّ أنواع المجاز هُو مما لم يَحُم أحد حوله .
والذي تَصدَّى السيد الشريف لبيانه بما لا يُبقي فيه شبهة .
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها ، فهو من الحكاية لِما كانوا يَعِدُون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل : كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة ، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإِخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكايةِ من صَلَفِ المُخبر عنه ، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن اللَّه مخرج ما تحذرون } [ التوبة : 64 ] إذ عَبَّر بصيغة يَحْذَر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقاً ولذلك قال الله تعالى : { قل استهزئوا } .
فالخبر موجَّه لكل سامع ، ومضمونه قول : « كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرَّر تعلُّل المشركين به لأهل الكتاب حتى يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا : لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 156 ، 157 ] .
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم للإِسلام ، قال تعالى : { الذين قالوا إن اللَّه عهد إلينا ألاَّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } [ آل عمران : 183 ] الآية .
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله : { حتى تأتيهم البينة } مصادفاً المحزّ فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم
وقريب منه قوله تعالى في أهل الكتاب : { ولما جاءهم كتاب من عند اللَّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] .
وحاصل المعنى : أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة ، أي العلامة التي وُعدنا بها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة البينة، سورة سورة "لم يكن"، مدنية ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة البينة مكية في قول يحيى بن سلام . وعند الجمهور مدنية ، وهو الصواب .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهي مكية في قول جمهور المفسرين ، وقال ابن الزبير وعطاء : هي مدنية ، والأول أشهر .
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وتسمى سورة القيامة، وسورة البلد، وسورة المنفكين، وسورة البرية، وسورة لم يكن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية . وقد وردت بعض الروايات بمكيتها . ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية ، ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري ، فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده . وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة . فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها . وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ، وبعضهم لم يؤمنوا . كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في مكة وآمنوا كما هو معروف . وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية . والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا .
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف ، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة . .
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه ، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) .
والحقيقة الثالثة : أن الدين في أصله واحد ، وقواعده بسيطة واضحة ، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة ) . والحقيقة الرابعة : أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية ، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية . ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بينا : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه . . وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة . وفي التصور الإيماني كذلك ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم { لم يكن الذين كفروا } .
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب « إن الله أمرني أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } قال : وسماني لك? قال : نعم . فبكى » فقوله : أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها ، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة { لم يكن } بالاقتصار على أول كلمة منها ...
وسميت في أكثر المصاحف سورة القيمة وكذلك في بعض التفاسير . وسميت في بعض المصاحف سورة البينة .
وذكر في الإتقان أنها سميت في مصحف أبي سورة أهل الكتاب ، أي لقوله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } ، وسميت سورة البرية وسميت سورة الانفكاك . فهذه ستة أسماء .
واختلف في أنها مكية أو مدنية؛ قال ابن عطية : الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين . وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية .
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام . وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبة البدري قال « لما نزلت { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيا » الحديث ، أي وأبي من أهل المدينة . وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية ، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري ، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية . قال ابن عطية : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة ...
توبيخ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم .
والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها .
وتكذيبهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها.
والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية .
والثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم .
وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل وما فيه من فضل وزيادة .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تقرير لحالة أهل الكتاب والمشركين قبل البعثة ، وإشارة إلى ما كانوا ينتظرونه من رسول وكتاب من الله ، ونعي على أهل الكتاب ؛ لأنهم قد جاءهم ذلك ثم تنازعوا واختلفوا ، وبيان لدعوة الله ، وتقرير بأنها لا تتحمل مكابرة ولا اختلافا ، وتنديد بالكفار ، وإنذار لهم ، وتنويه وبشرى للمؤمنين . وأسلوبها وانسجامها وتوازنها مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة . والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها مدنية نزلت بعد سورة الطلاق . وقد ذكر هذا في معظم روايات ترتيب النزول أيضا وقد روى بعض المفسرين أنها مكية ، أو أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها وفي مضامينها ما يرجح مدنيتها ؛ حيث احتوت نعيا على أهل الكتاب ؛ لأنهم كفروا بالرسالة المحمدية ، وجل الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ، ووقفوا من هذه الرسالة موقف المناوأة هم اليهود الذين كانوا في المدينة ، وكان ذلك منهم في العهد المدني . وهناك آيات مدنية عديدة تلهم أن فئات من النصارى ناظروا النبي ولم يؤمنوا . وإن منهم من كان يصد عن سبيل الله . وقد مر بعضها في سور البقرة وآل عمران والنساء وبعضها في سورتي المائدة والتوبة . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...خلاصة الحديث في السورة هي عن البينة التي كان يلهج بذكرها أهل الكتاب والمشركون من العرب ، الذين كانوا يكفرون برسول الله ، ويؤكدون أنهم خاضعون لها إذا جاءت ، لأنهم يبحثون عن القناعة المرتكزة على قاعدةٍ أو حجةٍ ، وقد جاءهم رسول الله الذي بعثه الله ليقدم لهم البيّنة الواضحة في الكتاب الذي يحمله ويبلّغه للناس والذي يتضمن الحجة ، كل الحجة ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...هذه السّورة تناولت رسالة رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما فيها من دلائل بيّنة ، هذه الرسالة التي كان أهل الكتاب ينتظرونها ، حين ظهرت أعرض عنها فريق منهم لما وجدوا فيها من خطر على مصالحهم الشخصية . والسّورة تقرر حقيقة وجود الإيمان والتوحيد والصلاة والصيام في كل الأديان ودعوات الأنبياء باعتبارها أصولا ثابتة خالدة . وفي مقطع آخر من السّورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام . . . بعضهم آمن وعمل صالحاً فهو خير المخلوقات ، وبعضهم كفر وأشرك فهو شرّ البريّة . ...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله :{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى { والمشركين } يعني مشركي العرب { منفكين } يعني منتهين عن الكفر والشرك ، وذلك أن أهل الكتاب قالوا : متى يبعث الذي نجده في كتابنا ، وقالت العرب :{ لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين } [ الصافات :168 ، 169 ] ، فنزلت :{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى والمشركين ، يعني مشركي العرب { منفكين } يعني منتهين عن الكفر والشرك { حتى تأتيهم البينة } محمد صلى الله عليه وسلم فبين لهم ضلالتهم وشركهم . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُوا منْ أهل الْكِتابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكّينَ حتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ } ؛
فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل ، والمشركون من عَبدة الأوثان "منفكين" ، يقول : منتهين ، حتى يأتيهم هذا القرآن ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون ، لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم ، حتى بُعث ، فلما بُعث تفرّقوا فيه ...
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : معنى ذلك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد ، حتى تأتيهم البيّنة ، وهي إرسال الله إياه رسولاً إلى خلقه ، رسول من الله .
وقوله : { مُنْفَكّينَ } في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ، ولذلك صَلُح بغير خبر ، ولو كان بمعنى ما زال ، احتاج إلى خبر يكون تماما له. واستؤنف قوله { رَسُولٌ مِنَ اللّهِ } وهي نكرة على البيّنة ، وهي معرفة ، كما قيل : { ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ فَعّالٌ } فقال : حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله ، ببعثه الله إياه إليهم ، ثم ترجم عن البيّنة ، فقال : تلك البينة { رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً } يقول : يقرأ صحفا مطهرة من الباطل { فِيها كُتُبٌ قَيّمَةٌ } يقول : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ، لأنها من عند الله ... عن قتادة { رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً } يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر في حق أهل الكتاب { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } بحرف { ومن } وهو للتبعيض ، ولم يقل أهل الكتاب ، وذكر في حق أهل الشرك والمشركين ؛ لأن أهل الكتاب كانوا فرقا : منهم من كان آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، فلما بعث آمن به ، ولزم الإيمان . ومنهم من كان كافرا به ، فلما بعث ، وأرسل لزم الكفر به ، ولم يؤمن . فلما كانوا أصنافا وفرقا لذلك قال : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } بحرف { من } . وأما المشركون فإنهم كانوا صنفا واحدا ، ثم لم يبين بأنهم إذا أتاهم البينة ينفكون أو لا . وجائز أن يكون قوله تعالى : { لم يكن } إلى قوله { حتى تأتيهم البينة } أي لم يكن بعض أهل الكتاب وبعض المشركين منفكين من الكفرة ؛ لأنه عطف المشركين على أهل الكتاب ، بل كانوا أهل كفر وشرك إلى آخر عمرهم.... ويحتمل أن بعضا من الفريقين على الشرك حتى تأتيهم البينة ... والبينة ، هي ما في خلقة كل أحد مما يدل على ألوهيته ووحدانيته . ويحتمل أن بعضا من الفريقين على الشرك حتى تأتيهم البينة ، وهي معاينة العذاب عند الموت ، كقوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا } ( غافر : 84 ) ونحو ذلك ...
ثم اختلف في قوله تعالى : { منفكين } قال بعضهم : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } خارجين من الدنيا { حتى تأتيهم البينة } .
ثم اختلفوا في البينة التي ذكر أنها تأتيهم ، قال بعضهم : البينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال على إثره { رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة } ( الآية : 2 ) وقال بعضهم : ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجج .
فمن جعل قوله : { منفكين } منتهين زائلين يجعل البينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ سمي لأنه به يعرف كل خير وكل إحسان ، وبه يبين الحق والباطل ، وكل شيء من أمر المعاد والمعاش ، وكذلك القرآن ، جاء به .
ومن قال : { منفكين } خارجين من الدنيا يجعل البينة التي ذكر أنها تأتيهم العذاب معاينة جهرا ، كقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } ( النساء : 159 ) أي خارجين من الدنيا حتى يعاينوا العذاب ، فعند ذلك يؤمنون .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق : إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرّهم على الكفر إلاّ مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ....والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلاّ عند مجيء البينة . و { البينة } الحجة الواضحة . ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والظاهر أن المعنى : لم يكونوا منفكين ، أي منفصلاً بعضهم من بعض ، بل كان كل منهم مقرّاً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه ، هذا من اعتقاده في شريعته ، وهذا من اعتقاده في أصنامه ، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ لم يكن } أي في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال كوناً هو كالجبلة والطبع ...{ الذين كفروا } أي سواء كانوا عريقين في الكفر أم لا ....{ من أهل الكتاب } أي من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً ، فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى ، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا { والمشركين } أي بعبادة الأصنام والنار والشمس ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق بأن لم يكن لهم كتاب { منفكين } أي منفصلين زائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا يبقى لهم به علقة ، ويثبتون على ذلك الانفكاك ....{ حتى } أي إلى أن { تأتيهم } عبر بالمضارع لتجدد البيان في كل وقت بتجدد الرسالة والتلاوة { البينة } أي الآية التي هي في البيان ، كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا ظهوراً وضياء ونوراً ، وذلك هو الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو الفرقان .
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{ لم يكن الذين كفروا } أي جحدوا نبوة النبي صلوات الله عليه بعنادهم بعد ما تبينوا الحق منها { من أهل الكتاب } أي اليهود والنصارى الذين عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته ، لم يكونوا هم { والمشركين } أي وثنيي العرب { منفكين } أي عن غفلتهم وجهلهم بالحق ، ووقوفهم عندما قلدوا فيه أباءهم ، لا يعرفون من الحق شيئا { حتى تأتيهم البينة } أي الحجة القاطعة المثبتة للمدعي ، وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فمجيئه هو الذي أحدث هذه الرجة فيما رسخ من عقائدهم ، وتمكن من عوائدهم ، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومناكرتهم بأنه كان شيئا معروفا لهم ، يصلون إليه بما كان لديهم ، ولكنه ليس بمستحق أن يتبع ، فإن ما هم فيه من أجمل وأبدع ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة ) .
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديد ، وحركة جديدة . وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها ، أو المشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء .
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصيلاً ينتزع من لفظها ونظمها ، فذكر الفخر عن الواحدي في « التفسير البسيط » له أنه قال : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً وقد تخبط فيها الكبار من العلماء . قال الفخر : « ثم إنه لم يلخص كيفية الإِشكال فيها .
وأنا أقول : وجه الإِشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر والشرك اللذيْن كانوا عليهما فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إن كلمة { حتى } لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر » اه كلام الفخر .
يريد أن الظاهر أن قوله : { رسول من الله } بدل من { البينة } وأن متعلق { منفكين } حُذف لدلالة الكلام عليه لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم ، وأن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسِّرة ب { رسول من اللَّه } هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم ، أي فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإِسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر ، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } [ البينة : 4 ] الخ كلاماً متصلاً بإعراضهم عن الإِسلام وذلك الذي درج عليه المفسرون ولنا في ذلك كلام سيأتي .
ومما لم يذكره الفخر من وجه الإِشكال : أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن مَّا ، وأن نصب المضارع بعد { حتى } ينادي على أنه منصوب ب ( أنْ ) مضمرة بعد { حتى } فيقتضي أنّ إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت ب { رسول من اللَّه } وإتيانْ الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه : هؤلاء على كفرهم ، وهؤلاء على شركهم .
وإذ قد تقرر وجه الإِشكال وكان مظنوناً أنه ملحوظ للمفسرين إجمالاً أو تفصيلاً فقد تعين أن هذا الكلام ليس وارداً على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه ، فوجب صرفه عن ظاهره ، إما بصرف تركيب الخَبر عن ظاهر الإِخبار وهو إفادة المخاطَب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب ، بأن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب .
وإمّا بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجازٍ أو كناية .
فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره . ومنهم من أبقوا الخبر على ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ { منفكين } ومنهم من تأول معنى { حتى } ومنهم من تأول { رسول } ، وبعضهم جوز في { البينة } وجهين .
وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعَة عشر قولاً ذكر الآلوسي أكثرها وذكر القرطبي مُعظمها غيرَ معزُو ، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر .
ومراجع تأويل الآية تَؤُول إلى خمسة :
الأول : تأويل الجملة بأسرها بأن يُؤوَّل الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب ، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري .
الثاني : تأويل معنى { منفكين } بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم ، وهو لابن عطية .
الثالث : تأويل متعلِّق { منفكين } بأنه عن الكفر وهو لعبد الجَبَّار ، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيّان . أو منفكين عن الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمن الملقب بالأصم ، أو منفكين عن الحياة ، أي هالكين ، وعُزي إلى بعض اللغويين .
الرابع : تأويل { حتى } أنها بمعنى ( إنْ ) الاتصالية . والتقدير : وإن جاءتهم البينة .
الخامس : تأويل { رسول } بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفاً من عند الله فهو في معنى قوله تعالى : { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم .
هذا والمراد ب { الذين كفروا من أهل الكتاب } أنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 11 ] .
وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت ، فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين .
إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإِصرار على الكفر عناداً ، فلنسلك بالخَبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبَةِ الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قَبيل استعمال الخبر في الإِنشاء والاستفهامِ في التوبيخ ...
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها ، فهو من الحكاية لِما كانوا يَعِدُون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل : كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة ، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإِخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكايةِ من صَلَفِ المُخبر عنه ، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن اللَّه مخرج ما تحذرون } [ التوبة : 64 ] إذ عَبَّر بصيغة يَحْذَر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقاً ولذلك قال الله تعالى : { قل استهزئوا } .
فالخبر موجَّه لكل سامع ، ومضمونه قول : « كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرَّر تعلُّل المشركين به لأهل الكتاب حتى يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا : لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 156 ، 157 ] .
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم للإِسلام ، قال تعالى : { الذين قالوا إن اللَّه عهد إلينا ألاَّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } [ آل عمران : 183 ] الآية .
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله : { حتى تأتيهم البينة } مصادفاً المحزّ فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم
وقريب منه قوله تعالى في أهل الكتاب : { ولما جاءهم كتاب من عند اللَّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] .
وحاصل المعنى : أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة ، أي العلامة التي وُعدنا بها .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في بداية السّورة ذكر لأهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام ، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكين عن دينهم إلاّ بدليل واضح قاطع . ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة ) . و«البيّنة » التي أرادوها : رسول من اللّه يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين .