ثم أكد - سبحانه - ما يدل على إمكانية البعث ، فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ . . . } .
أى : وهو - سبحانه - الذى يبدأ الخلق بدون مثال سابق ، ثم يعيد هذه المخلوقات بعد موتها إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء .
والضمير فى قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } للإِعادة المفهومة من قوله { ثُمَّ يُعِيدُهُ } والتذكير للضمير باعتبار المعنى ، أى : والعود أم الرد ، أو الإِرجاع أهون عليه .
أى : وهو - سبحانه - وحده الذى يخلق المخلوقات من العدم ، ثم يعيدها إلى الحياة مرة أخرى فى الوقت الذى يريده ، وهذه الإِعادة للأموات أهون عليه ، أى : أسهل عليه من البدء .
وهذه الأسهلية على طريقة التمثيل والتقريب ، بما هو معروف عند الناس من أن إعادة الشئ من مادته الأولى أسهل من ابتدائه .
ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد وضح هذا المعنى فقال : قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أى : فيما يجب عندكم ، وينقاس على أصولكم ، ويقتضيه معقولكم لأن من أعاد منكم صنعة شئ كانت أسهل عليه من إنشائها ، وتعتذرون للصانع اذا خَطِئَ فى بعض ما ينشئه بقولكم : أول الغزل أخرق ، وتسمون الماهر فى صناعته معاودا ، تعنون أنه عاودها كرة بعد أخرى ، حتى مرن عليها وهانت عليه .
فإن قلت لم أخرت الصلة فى قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدمت فى قوله { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } قلت . هناك قصد الاختصاص وهو محزه ، فقيل : هو عليه هين ، وأن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هِملّ . أى : شيخ فان - وعاقر . وأما هنا فلا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون ، من أن الإِعادة أسهل من الابتداء ، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى .
ومنهم من يرى أن أهون هنا بمعنى هين ، إرجاعكم إلى الحياة بعد موتكم هين عليه . والعرب تجعل أفعل بمعنى فاعل فى كثير من كلامهم ، ومنه قول الشاعر :
إن الذى سمك السماء بنى لنا . . . بيتا دعائمه أعز وأطول
أى : بنى لنا بيتا دعائمه عزيزة طويلة منه قولهم : الله أكبر أى : كبير .
وقوله - تعالى - : { وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض . . } أى : وله - سبحانه - الوصف الأعلى الذى ليس لغيره مثله ، لا فى السماوات ولا فى الأرض ، إذ لا يشاركه أحد فى ذاته و صفاته فهو - سبحانه - ليس كمثله شئ .
{ وَهُوَ العزيز } الذى يَغلب ولا يُغلب { الحكيم } فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته
{ وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده } بعد هلاكهم . { وهو أهون عليه } والإعادة أسهل عليه من الأصل بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وألا فهما عليه وسواء ولذلك قيل الهاء ل { الخلق } ، وقيل { أهون } بمعنى هين وتذكير هو لأهون أو لأن الإعادة بمعنى أن يعيد . { وله المثل } الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا اله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية . { الأعلى } الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه . { في السماوات والأرض } يصفه به ما فيها دلالة ونطقا . { وهو العزيز } القادر الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته . { الحكيم } الذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته .
وقوله { يبدأ الخلق } معناه ينشئه ويخرجه من العدم ، وجاء الفعل بصيغة الحال لما كان في هذا المعنى ما قد مضى كآدم وسائر القرون وفيه ما يأتي في المستقبل ، فكانت صيغة الحال تعطي هذا كله ، و { يعيده } معناه يبعثه من القبور وينشئه تارة أخرى ، واختلف المتأولون في قوله { وهو أهون عليه } ، فقال ابن عباس والربيع بن خيثم : المعنى وهو هين ونظيره قول الشاعر : ( لعمرك ما أدري وأني لأوجل ){[9306]} بمعنى لوجل ، وقول الآخر ( بيت دعائمه أعز وأطول ){[9307]} ، وقولهم في الأذان الله أكبر{[9308]} وقال الآخر وهو الشافعي :
فتلك سبيل لست فيها بأوحد{[9309]} . . . واستشهد بهذا البيت أبو عبيدة وهذا شاهده كثير ، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه » ، وفي بعض المصاحف و «كل هين عليه » ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة : المعنى وهو أيسر عليه ، وإن كان الكل من اليسر عليه في حيز واحد وحال متماثلة ، ولكن هذا التفضيل بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البداءة للتمرن والاستغناء عن الروية التي كانت في البدأة ، وهذان القولان الضمير فيهما عائد على الله تعالى ، وقالت فرقة أخرى : الضمير في { عليه } عائد على الخلق .
قال الفقيه الإمام القاضي : فهذا بمعنى المخلوق فقط ، وعلى التأويلين يصح أن يكون المخلوق أو يكون مصدراً من خلق ، فقال الحسن بن أبي الحسن إن الإعادة أهون على المخلوق من إنشائه لأنه في إنشائه يصير من حالة إلى حالة ، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ونحو هذا ، وفي الإعادة إنما يقوم في حين واحد ، فكأنه قال وهو أيسر عليه ، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً ، وقال بعضها : المعنى «وهو أهون » على المخلوق أن يعيد شيئاً بعد إنشائه ، أي فهذا عرف المخلوقين فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق .
قال الفقيه الإمام القاضي : والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ويؤيده قوله تعالى { وله المثل الأعلى } لما جاء بلفظ فيه استعارة واستشهاد بالمخلوق على الخالق وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به تكييف ولا تماثل مع شيء و «العزة والحكمة » ، صفتان موافقتان لمعنى الآية ، فبهما يعيد وينفذ أمره في عباده كيف شاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.