ثم فرقت السورة الكريمة بين حال الذين يجترحون السيئات ، وحال الذين يعملون الصالحات ، وحكت جانبا من أقوال المشركين ، وردت عليهم بما يبطلها ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا . . . أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
و { أَمْ } في قوله - تعالى - : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } منقطعة ، وتقدر ببل والهمزة ، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني ، والهمزة لإِنكار الحسبان .
والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي . ويقال : فلان جارحة أهله ، أي : هو الذي يكتسب لهم أرزاقهم .
وحسب : فعل ماض ، والذين فاعله ، وجملة { أَن نَّجْعَلَهُمْ } ساد مسد المفعولين .
والمعنى : بل أحسب الذين اكتسبوا ما يسوء من الكفر والمعاصي ، أن نجعلهم متساوين مع الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات في دار الدنيا أو في الدار الآخرة ؟
كلا ! ! لا يستوون فيهما ، فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يحيون في الدنيا حياة طيبة لا مكان فيها للهموم والأحقاد والإِحن ببركة إيمانهم ، وفي الآخرة ينالون رضا الله - تعالى - وحسن ثوابه .
أما الذين اجترحوا السيئات فهم في شقاء في الدنيا وفي الآخرة .
قال الشوكاني قرأ الجمهور { سواء } بالرفع على أنه خبر مقدم . والمبتدأ محياهم ومماتهم . والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص { سواء } بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله : { كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أو على أنه معفول ثان لحسب .
وقوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس حكما حكمهم الذي زعموا فيها تسويتنا بين الذين اجترحوا السيئات ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة ، توبيخهم على أحكامهم الباطلة ، وأفكارهم الفاسدة .
قال الآلوسي : قوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء حكمهم هذا ، وهو الحكم بالتساوي ، فما مصدرية ، والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود .
ويجوز أن يكون لإِنشاء ذمهم على أن { سَآءَ } بمعنى بئس ، فتكون كلمة { مَا } نكرة موصوفة ، وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس شيئا حكموا به ذلك .
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات } أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان ، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة . { أن نجعلهم } أن نصيرهم . { كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل وقوله : { سواء محياهم ومماتهم } بدل منه إن كان الضمير للموصول الأول ؛ لأن المماثلة فيه إذ المعنى إنكار أن يكون حياتهم ومماتهم سيين في البهجة والكرامة كما هو للمؤمنين ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص { سواء } بالنصب على البدل أو الحال من الضمير في الكاف ، أو المفعولية والكاف حال ، وإن كان للثاني فحال منه أو استئناف يبين المقتضى للإنكار ، وإن كان لهما فبدل أو حال من الثاني ، وضمير الأول والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة ، أو استئناف مقرر لتساوي محيا كل صنف ومماته في الهدى والضلال ، وقرئ " مماتهم " بالنصب على أن { محياهم ومماتهم } ظرفان كمقدم الحاج . { ساء ما يحكمون } ساء حكمهم هذا أو بئس شيئا حكموا به ذلك .
وقوله تعالى : { أم حسب } الآية قول يقتضي أنه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا . و : { أم } هذه ليست بمعادلة ، وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام . و : { اجترحوا } معناه : اكتسبوا ، ومنه جوارح الإنسان ، ومنه الجوارح في الصيد ، وتقول العرب : فلان جارحة أهله ، أي كاسبهم .
وقرأ أكثر القراء : «سواءٌ » بالرفع «محياهم ومماتُهم » بالرفع ، وهذا على أن «سواءٌ » رفع بالابتداء{[10272]} «ومحياهم ومماتُهم » خبره . و : { كالذين } في موضع المفعول الثاني ل «نجعل » ، وهذا على أحد معنيين : إما أن يكون الضمير في { محياهم } يختص بالكفار المجترحين ، فتكون الجملة خبراً عن أن حالهم في الزمنين حال سوء . والمعنى الثاني : أن يكون الضمير في { محياهم } يعم الفريقين ، والمعنى : أن محيا هؤلاء ومماتهم سواء ، وهو كريم ، ومحيا الكفار ومماتهم سواء ، وهو غير كريم ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفرقه ، إذ تقدم إبعاد أن يجعل الله هؤلاء كهؤلاء .
قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر ، ويظهر لي أن قوله : { سواء محياهم ومماتهم } داخل في المحسبة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن{[10273]} ، والأول أيضاً جيد .
وقرأ طلحة وعيسى بخلاف عنه : «سواءً » بالنصب ، «محياهم ومماتُهم » بالرفع ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله : { كالذين } في موضع المفعول الثاني ل «جعل » كما هو في قراءة الرفع ، وينصب قوله : «سواءً » على الحال من الضمير في : { نجعلهم } . والوجه الثاني أن يكون قوله : { كالذين } في نية التأخير ، ويكون قوله : «سواءً » مفعولاً ثانياً ل «جعل » ، وعلى كلا الوجهين : «محياهم ومماتُهم » مرتفع ب «سواء » على أنه فاعل . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم{[10274]} والأعمش «سواءً » بالنصب «محياهم ومماتَهم » بالنصب وذلك على الظرف أو على أن يكون «محياهم » بدلاً من الضمير في : { نجعلهم } أي نجعل محياهم ومماتهم سواء ، وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى ، وهي موقف للعارفين فيكون عنده فيه ، وروي عن الربيع بن خيثم أنه كان يرددها ليلة جمعاء ، وكذلك عن الفضيل بن عياض ، وكان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ، وقال الثعلبي : كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين .
قال القاضي أبو محمد : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر بدليل معادلته بالإيمان ، ويحتمل أن تكون المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا ما بكى الخائفون رضوان الله عليهم ، وإما مفعولاً { حسب } فقولهم { أن نجعلهم } يسد مسد المفعولين . وقوله : { ساء ما يحكمون } ، { ما } مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.