{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } .
واجتناب الشئ معناه : المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت فى جانب وهو فى جانب آخر ولا تلاقى بينكما .
وكبائر الذنوب : ما عظم منها ، وعظمت العقوبة عليه . كالشرك ، وقتل النفس بغير حق ، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات .
والسيئات : جمع سيئة وهى الفعلة القبيحة ، وسميت بذلك ؛ لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا .
والمراد بالسيئات هنا : صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر .
والمعنى : إن تتركوا - يا معشر المؤمنين - كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عن اقترافها ، { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أى نسترها عليكم ، ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم ، ورحمة بكم .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أى وندخلكم فى الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التى وعد الله بها عباده الصالحين . فهى مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه .
والمدخل - بضم الميم - كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإِدخال ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما .
ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه ، وعلى المفعولية عند الأخفش .
وقرأ نافع { مَّدْخَلاً } - بفتح الميم - على أنه اسم مكان للدخول ، ويجوز أن يكون مصدرا ميما . أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما .
هذا ، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله - تعالى - لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب ، وصدقوا فى توبتهم إليه .
كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ؛ لأن هذه الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب المعبر عنها بقوله - تعالى - : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . ولأن الله - تعالى - يقول فى موضع آخر { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } قال الآلوسى ما ملخصه : واختلفوا فى حد الكبيرة على أقوال منها : أنها كل معصية أوجبت الحد . ومنها : أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته .
وقال الواحدى : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها . ولكن الله - تعالى - أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجنب الكبائر . ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى ، وليلة القدر . وساعة الإِجابة .
وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد . فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله - تعالى - من أول هذه السورة إلى هنا . وقيل هى سبع بدليل ما جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هو يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله - تعالى - والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل ما اليتيم ، وأكل الربا ، والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
فإن قيل : جاء فى روايات أخرى أن من الكبائر " اليمين الغموس " و " قول الزور " و " عقوق الوالدين " ؟ قلنا فى الجواب : إن ذلك محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه - فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن .
والذى نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ، وأن الصغائر يغفرها الله لعاده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله ، وأن الكبائر هى ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا ، وتوعد مرتكبها بسوء المصير ، كالإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التى يؤدى ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتى ورد النهى عنها فى كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . وأن الصغائر ، هى الذنوب اليسيرة التى يتركبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة بها أو مداومة عليها ، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله إذ يقول : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } ولقد فتح الله - تعالى - لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من رحمته فقال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً }
وقوله : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7205]} } . أي : إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة ؛ ولهذا قال : { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا خالد{[7206]} بن أيوب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس{[7207]} [ يرفعه ]{[7208]} : " الذي بلغنا عن ربنا ، عز وجل ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر ، يقول الله [ تعالى ]{[7209]} { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7210]} } " {[7211]} .
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر :
قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم عن مُغِيرة ، عن أبي مَعْشَر ، عن إبراهيم ، عن قَرْثَع الضَّبِّي ، عن سلمان الفارسي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " أتدري ما يوم الجمعة ؟ " قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم . قال : " لكن أدْرِي ما يَوْمُ الجُمُعَةِ ، لا يتطهر الرجل فيُحسِنُ طُهُوره ، ثم يأتي الجُمُعة فيُنصِت حتى يقضي الإمام صلاته ، إلا كان{[7212]} كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ، ما اجْتُنبت المقتلة{[7213]} وقد رَوَى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه{[7214]} .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى [ بن إبراهيم ]{[7215]} حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، حدثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المُجْمر ، أخبرني صهيب مولى العُتْوارِي ، أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد يقولان : خَطَبَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : " والذي نَفْسي بِيَدِهِ " - ثلاث مرات - ثم أكَبَّ ، فأكب كل رجل منا يبكي ، لا ندري على ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر{[7216]} فكان أحب إلينا من حُمْر النَّعَم ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ]{[7217]} ما من عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَواتِ الخمسَ ، ويَصُومُ رمضانَ ، ويُخرِج الزكاة ، ويَجْتنبُ الكبائر السَّبعَ ، إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجَنَّةِ ، ثم قيل له : ادْخُل بسَلامٍ " .
وهكذا رواه النسائي ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الليث بن سعد ، رواه الحاكم أيضا وابن حِبَّان في صحيحه ، من حديث عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، به . ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[7218]} .
وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال ، عن ثَوْر بن زيد ، عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجْتَنِبُوا السبعَ المُوبِقَاتِ " قيل : يا رسول الله ، وما هُنَّ ؟ قال : " الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ النَّفْس التي حَرَّمَ الله إلا بالحق ، والسِّحرُ ، وأكْلُ الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزَّحْف ، وقَذْفُ المحصنَات المؤمنات الغافلات " {[7219]} .
طريق أخرى عنه : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَهْد بن عَوْف ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عَمْرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكبائر سَبْعٌ ، أولها الإشراكُ بالله ، ثم قَتْل النَّفْس بغير حقها ، وأكْلُ الرِّبَا ، وأَكْلُ مال اليتيمِ إلى أن يكبر ، والفِرَارُ من{[7220]} الزَّحْفِ ، ورَميُ المحصنات ، والانقلاب إلى الأعراب بَعْدَ الهِجْرَةِ " {[7221]} .
فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن ، إلا عند من يقول بمفهوم اللقب ، وهو ضعيف عند عدم القرينة ، ولا سيما عند{[7222]} قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم ، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع ، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال :
حدثنا أحمد بن كامل القاضي ، إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد ، حدثنا معاذ بن هانئ ، حدثنا حَرْب بن شَدَّاد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الحميد بن سِنَان ، عن عبيد بن عُمَيْر ، عن أبيه - يعني عُمَير بن قتادة - رضي الله عنه أنه حدثه - وكانت له صحبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " ألا إن أولياء الله المُصَلُّون من يُقِيم{[7223]} الصلواتِ الخمسَ التي كُتبت{[7224]} عليه ، ويَصومُ رمضان ويَحتسبُ صومَهُ ، يرى أنه عليه حق ، ويُعطي زكاةَ ماله يَحْتسِبها ، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها " . ثم إن رجلا سأله فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ فقال : " تسع : الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ نَفْسِ مؤمن بغير حق{[7225]} وفِرارُ يوم الزّحْفِ ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الرِّبا ، وقذفُ المُحصنَة{[7226]} وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ، ثم قال : لا يموت رجل لا يعمل{[7227]} هؤلاء الكبائر ، ويقيم الصلاة ، ويُؤتِي الزكاة ، إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع{[7228]} من ذَهَبٍ " .
وهكذا رواه الحاكم مطولا وقد أخرجه أبو داود والترمذي{[7229]} مختصرا من حديث معاذ بن هانئ ، به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطًا ثم قال الحاكم : رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان{[7230]} .
قلت : وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث ، وقد ذكره ابن حِبَّان في كتاب الثقات ، وقال البخاري : في حديثه نظر .
وقد رواه ابن جرير ، عن سليمان بن ثابت الجحدري ، عن سلم{[7231]} بن سلام ، عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبيد بن عُمَير ، عن أبيه ، فذكره . ولم يذكر في الإسناد : عبد الحميد بن سنان ، فالله أعلم{[7232]} {[7233]} .
حديث آخر في معنى ما تقدم : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد ، عن المطلب عن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : " لا أقْسِمُ ، لا أقْسِمُ " . ثم نزل فقال : " أبْشِرُوا ، أبْشِرُوا ، من صَلَّى الصلوات الخمس ، واجْتَنَبَ الكبائر السَّبعَ ، نُودِيَ من أبواب الجنة : ادخُل " . قال عبد العزيز : لا أعلمه إلا قال : " بسلام " . قال المطلب : سمعت من سأل عبد الله بن عَمْرو : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن ؟ قال : نعم : " عقوق الوالدين ، وإشْرَاكٌ بالله ، وقَتْلُ النفس ، وقَذْفُ المُحْصنات ، وأكْلُ مالِ اليتيمِ ، والفِرارُ من الزَّحفِ ، وأكْلُ الرِّبَا " {[7234]} .
حديث آخر في معناه : قال أبو جعفر بن جرير في التفسير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا زياد بن مِخْرَاق عن طيسلة بن مياس قال : كنت مع النَّجدات ، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر ، فلقيت ابن عُمَر فقلت له : إني أصبت ذُنُوبا لا أراها إلا من الكبائر قال : ما هي ؟ قلت : أصبت كذا وكذا . قال : ليس من الكبائر . قلت : وأصبت كذا وكذا . قال : ليس من الكبائر قال - بشيء لم يسمه طَيْسَلَة - قال : هي تسع وسأعدهن عليك : الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حقها{[7235]} والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر{[7236]} وبكاء الوالدين من العقوق . قال زياد : وقال طيسلة لما رأى ابن عمر : فَرَقي . قال : أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم . قال : وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم . قال : أحيّ والداك ؟ قلت : عندي أمي . قال : فوالله لئن أنت ألَنْتَ لها الكلام ، وأطعمتها الطعام ، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات{[7237]} .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا سليمان بن ثابت الْجَحْدَرِي الواسطي ، حدثنا سلم{[7238]} بن سلام ، حدثنا أيوب بن عتبة ، عن طَيْسَلة بن علي النهدي قال : أتيت ابن عمر وهو في ظل أرَاك يوم
عَرَفة ، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قلت{[7239]} أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع . قلت : ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة - قال : قلت : قبل القتل{[7240]} ؟ قال : نعم وَرَغْمَا - وقتل النفس المؤمنة ، والفِرارُ من الزَّحْفِ ، والسِّحْرُ ، وأكْلُ الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعُقوق الوالدين المسلمين ، وإلْحاد بالبيت الحرام ، قبْلَتكم أحياء وأمواتا{[7241]} .
هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا ، وقد رواه علي بن الجَعْدِ ، عن أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي [ النهدي ]{[7242]} قال : أتيت ابن عمر عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، وهو تحت ظلِّ أرَاكة ، وهو يَصُبُّ الماء على رأسه ، فسألته عن الكبائر ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هُنّ سبع " . قال : قلت : وما هُنّ ؟ قال : " الإشراك بالله ، وقذف المحصنة{[7243]} - قال : قلت : قبل{[7244]} الدم ؟ قال : نعم ورغما - وقتلُ النفس المؤمنة ، والفرار من الزَّحفِ ، والسِّحرُ ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعُقوق الوالدين ، وإلحاد{[7245]} بالبيت الحرامِ قِبْلَتَكُم أحياء وأمواتا " .
وكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب ، عن أيوب بن عتبة اليماني - وفيه ضعف{[7246]} - والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَديّ ، حدثنا بَقِيَّة ، عن بَحير بن سعد{[7247]} عن خالد بن مَعْدان : أن أبا رُهْم السمعي حدثهم ، عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عَبَدَ الله لا يُشرِكُ به شيئا ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجْتَنَبَ الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة " فسأله رجل : ما الكبائر ؟ فقال{[7248]} الشرك بالله ، وقَتْلُ نفس مسلمة ، والفِرار يوم الزَّحْف " .
ورواه أحمد أيضًا والنسائي ، من غير وجه ، عن بقية{[7249]} .
حديث آخر : روى الحافظ أبو بكر ابن مردويه في تفسيره ، من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف - عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم ، قال : وكان في الكتاب : " إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : إشْراكٌ باللهِ وقَتْل النفْسِ المؤمنة بغير حَقٍّ ، والفِرارُ في سبيل الله يوم الزَّحْفِ ، وعُقوق الوالدين ، ورَمْي المحصنة ، وتَعَلُّم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم " {[7250]} .
حديث آخر : فيه ذكر شهادة الزور ؛ قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عُبَيد الله{[7251]} بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر - أو سئل عن الكبائر - فقال : " الشِّرْكُ بالله ، وقَتْلُ النفْسِ ، وعُقوق الوالدين " . وقال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قال : " قول الزور - أو شهادة الزور " . قال شعبة : أكبر ظني أنه قال " " شهادة الزور " {[7252]} .
أخرجاه من حديث شعبة{[7253]} به . وقد رواه ابن مَرْدُويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس ، بنحوه{[7254]} .
حديث آخر : أخرجه{[7255]} الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بَكْرة ، عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : " الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس فقال : " ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزور " . فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت{[7256]} .
حديث آخر : فيه ذكر قتل الولد ، وهو ثابت في الصحيحين ، عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أيّ الذنب أعظم ؟ - وفي رواية : أكبر - قال : " أن تجعل لله نِدا وهو خَلَقكَ " قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تَقْتُلَ ولدك خَشْيَةَ أن يَطْعَم معك " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تُزاني حَلِيلَةَ جارِك " ثم قرأ : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] }{[7257]} إلى قوله : { إِلا مَنْ تَابَ } [ الفرقان : 68 ]{[7258]} .
حديث ] آخر[ {[7259]} فيه ذكر شرب الخمر . قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن رجلا حَدّثه عن عمرة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عَمْرو بن العاص وهو بالحِجْر{[7260]} بمكة وسُئل عن الخمر ، فقال : والله إنَّ عظيمًا عند الله الشيخُ مثلي يكذبُ في هذا المقام على رسول الله{[7261]} صلى الله عليه وسلم ، فذهب فسأله ثم رجع فقال : سألته عن الخمر فقال : " هي أكبر الكبائر ، وأم الفواحش ، من{[7262]} شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته " {[7263]} غريب من هذا الوجه .
طريق أخرى : رواها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه من حديث{[7264]} عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي ، عن داود بن صالح ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، وعُمَر بن الخطاب وأناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم أجمعين ، جلسوا{[7265]} بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا أعظم الكبائر ، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه ، فأرسلوني إلى عبد الله بن عَمْرو بن العاص أسأله عن ذلك ، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر ، فأتيتهم فأخبرتهم ، فأنكروا ذلك ، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره ، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مَلِكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيَّره بين أن يشرب خمرًا أو يقتل نفسا ، أو يزاني{[7266]} أو يأكل لحم خنزير ، أو يقتله{[7267]} فاختار شُرْبَ الخمر{[7268]} وإنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أراده{[7269]} منه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا : " ما من أحد يشرب خمرًا إلا لم تُقْبَلْ له صَلاةٌ أربعين ليلة ، ولا يموت أحد في مَثَانَتِهِ منها شيء إلا حَرَّم الله عليه الجنة فإنْ مات في أربعين ليلة مات ميتَةً جاهلية " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا ، وداود بن صالح هو التَّمار{[7270]} المدني مولى الأنصار ، قال الإمام أحمد : لا أرى به بأسا . وذكره ابن حبان في الثقات ، ولم أر أحدًا جرحه{[7271]} .
حديث آخر : عن عبد الله بن عَمْرو وفيه ذكْرُ اليمين الغَمُوس . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعُقُوق الوالدين ، أو قَتْل النَّفْس - شعبة الشاك - واليمين الغَمُوس " . ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة : زاد البخاري وشيبان ، كلاهما عن فراس ، به{[7272]} .
حديث آخر : في اليمين الغموس : " قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا هشام بن سعد ، عن محمد بن يزيد بن مهاجر بن قُنْفُذ التيمي ، عن أبي أمامة الأنصاري ، عن عبد الله بن أنيس الجهني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أكبر{[7273]} الكبائر الشرك بالله ، وعُقوق الوالدين ، واليمين الغَمُوس ، وما حَلَفَ حالف بالله يمين صَبْر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة ، إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة " . وهكذا رواه ] الإمام [ {[7274]} أحمد في مسنده ، وعبد بن حميد في تفسيره ، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدّب ، عن الليث بن سعد ، به . وأخرجه الترمذي ] في تفسيره[ {[7275]} عن عبد بن حميد ] به[ {[7276]} ثم قال : وهذا حديث حسن غريب ، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ، ولا يعرف{[7277]} اسمه . وقد رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث{[7278]} .
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي : وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، عن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن أبي أمامة ، عن أبيه عن عبد الله بن أنيس . فزاد عبد الله بن أبي أمامة .
قلت : هكذا وقع في تفسير ابن مَرْدُويه وصحيح ابن حبّان ، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق{[7279]} كما ذكره{[7280]} شيخنا ، فسَح اللهُ في أجله{[7281]} .
حديث آخر : عن عبد الله بن عمرو ، في التسبب إلى شتم الوالدين . قال ابن أبي حاتم : حدثنا عَمْرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع ، عن مِسْعر وسفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو - رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو - قال : " من الكبائر أن يَشْتُم الرجلُ والديه " : قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : " يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه ، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه " {[7282]} .
وقد أخر هذا الحديث البخاري عن أحمد بن يونس ، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أكبر الكبائر أن يَلْعَن الرجلُ والديه " . قالوا : وكيفَ يَلْعَنُ الرجلُ والديه ؟ ! قال : " يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه ، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه " .
وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد ، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم ، به مرفوعا بنحوه . وقال الترمذي : صحيح{[7283]} .
وثبت في الصحيح{[7284]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سِبابُ المسلم فُسُوقٌ ، وقِتاله كُفْر " {[7285]} .
حديث آخر في ذلك : قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أكبر الكبائر عِرْضُ الرجل المسلم ، والسَّبَّتَان والسَّبَّة{[7286]} " {[7287]} .
هكذا روي هذا الحديث ، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب في سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أكبر{[7288]} الكبائر استطالةُ المرْءِ{[7289]} في عِرْضِ رجلٍ مسلم بغير حق ، ومن الكبائر السبتان{[7290]} بالسبة " .
وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زَيْر{[7291]} عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله{[7292]} .
حديث آخر : في ذكْرُ الجمع بين الصلاتين من غير عذر ؛ قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيم بن حماد ، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حَنَش{[7293]} عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جمع بين الصَّلاتين من غير عُذْرٍ ، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر " . وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف ، عن المعتمر بن سليمان ، به ثم قال : حَنَش{[7294]} هو أبو{[7295]} علي الرحبي ، وهو{[7296]} حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث ، ضعفه أحمد وغيره{[7297]} .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن خالد الحذاء ، عن حميد{[7298]} بن هلال ، عن أبي قتادة - يعنى العدوي - قال : قرئ علينا كتابُ عمر : من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير{[7299]} عذر - والفِرَار من الزَّحْفِ ، والنُّهْبَة .
وهذا إسناد صحيح : والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرًا ، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية ، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة ، فما ظنك بمن ترك الصلاةِ بالكلية ؟ ولهذا روى مسلم في صحيحه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " {[7300]} وفي السنن عنه ، عليه السلام ، أنه قال : " العهد الذي بيننا وبينهم{[7301]} الصلاة ، فمن تَرَكَها فقد كَفر " {[7302]} وقال : " من ترك صلاةَ العَصْرِ فقد حبطَ عَمَلُه " {[7303]} وقال : " من فاتته صَلاةُ الْعَصْرِ فكأنما وَتِرَ أهله وماله " {[7304]} .
حديث آخر : فيه اليأسُ من رَوْح الله ، والأمنُ من مَكْر الله . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا شَبِيب بن بِشْر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئًا فدخل عليه رجل فقال : ما الكبائر ؟ فقال : " الشِّرْكُ بالله ، واليأس من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، وهذا أكبر الكبائر " .
وقد رواه البزار ، عن عبد الله بن إسحاق العطار ، عن أبي عاصم النبيل ، عن شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ قال : " الإشراك{[7305]} بالله ، واليأس من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله عز وجل " .
وفي إسناده نظر ، والأشبه أن يكون موقوفا ، فقد روي عن ابن مسعود نحوُ ذلك{[7306]} قال ابن جرير :
حدثنى يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيم ، أخبرنا مطرف ، عن وَبْرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الطفيل قال : قال ابن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله والإياس{[7307]} من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله .
وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق ، عن وَبْرة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود ، به ثم رواه من طُرُق عدة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود . وهو صحيح إليه بلا شك . {[7308]}
حديث آخر : فيه سوء الظن بالله ؛ قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم بن بُنْدار ، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان ، حدثنا محمد بن مهاجر{[7309]} حدثنا أبو حذيفة{[7310]} البخاري ، عن محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[ {[7311]} " أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل " . حديث غريب جدًّا .
حديث آخر : فيه التعرب{[7312]} بعد الهجرة ، قد تقدم في رواية عَمْرو{[7313]} بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، قال{[7314]} أبو بكر بن مرْدويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا عَمْرو بن خالد الحراني ، حدثنا ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن سهل ابن أبي حَثْمة{[7315]} عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الكبائر سبع ، ألا تسألوني عنهن ؟ الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ النفْسِ ، والفِرارُ يوم الزَّحْفِ ، وأكْلُ مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقَذْفُ المحصَنَة ، والتعرب{[7316]} بعد الهجرة " .
وفي إسناده نظر ، ورفعه غلط فاحش{[7317]} والصواب ما رواه ابن جرير : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن سهيل بن أبي حثْمة{[7318]} عن أبيه قال : إني لفي هذا المسجد - مسجد الكوفة - وعلي ، رضي الله عنه ، يَخْطُب الناسَ على المنبر ، فقال : يا أيها الناس ، الكبائر{[7319]} سبع فأصاخ{[7320]} الناسُ ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : لم لا{[7321]} تسألوني عنها ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله{[7322]} وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة . فقلت لأبي : يا أبت ، التعرب{[7323]} بعد الهجرة ، كيف لحق هاهنا ؟ قال : يا بني ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيًا كما كان{[7324]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان - عن منصور ، عن هلال بن يسَاف ، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " ألا إنما هن أربع : ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تقتلوا النفْسَ التي حَرَّمَ الله إلا بالحق ، ولا تَزْنُوا ، ولا تسرقوا " . قال : فما أنا{[7325]} بأشح{[7326]} عليهن منى ، إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه ، من حديث منصور ، بإسناده مثله{[7327]} .
حديث آخر : تقدم من رواية عُمَر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ من الكبائر " . والصحيح ما رواه غيره ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قوله ] قال ابن أبي حاتم : وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله .
حديث آخر في ذلك : " قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم{[7328]} ذكروا الكبائر وهو متكئ ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغلول ، والسحر ، وأكل الربا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين تجعلون { الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } [ آل عمران : 77 ] ؟ ! إلى آخر الآية . في إسناده ضعف ، وهو حسن{[7329]} .
قد تقدم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعلي ، رضي الله عنهما ، في ضمن الأحاديث المذكورة . وقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُليَّة ، عن ابن عَوْن ، عن الحسن : أن ناسا سألوا{[7330]} عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله ، أمَرَ أن يُعمل بها فلا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك ؟ فقدم وقدموا معه ، فلقيه{[7331]} عمر ، رضي الله عنه ، فقال : متى قدمت ؟
فقال : منذ كذا وكذا قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا : إنا نرى أشياء من كتاب الله ، أمر أن يعمل بها فلا{[7332]} يعمل بها{[7333]} فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال : اجمعهم لي . قال : فجمعتهم له - قال ابن عون : أظنه قال : في بَهْو - فأخذ أدناهم رجلا فقال : نشدتك{[7334]} بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم قال فهل أحصيته في نفسك ؟ قال اللهم لا . قال : ولو قال : نعم لخصمه . قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل{[7335]} أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك{[7336]} ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم . قال : فثكلت عمر أمه . أتكلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ ! قد علم ربنا أنه ستكون{[7337]} لنا سيئات . قال : وتلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] }{[7338]} ثم قال : هل علم أهل المدينة - أو قال : هل علم أحد - بما{[7339]} قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم .
إسناد حسن{[7340]} ومتن حسن ، وإن كان من رواية الحسن عن عمر ، وفيها انقطاع ، إلا أن مثل هذا اشتهر{[7341]} فتكفي{[7342]} شهرته{[7343]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا علي بن صالح ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مالك بن جوين ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : الكبائر الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنَة ، والفرار من الزَّحْف ، والتعرب بعد الهجرة ، والسِّحْر ، وعُقوق الوالدين ، وأكل الربا ، وفراق الجماعة ، ونكث الصفقة .
وتقدم عن ابن مسعود أنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، عز وجل .
وروى ابن{[7344]} جرير ، من حديث الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، كلاهما عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها . ومن حديث سفيان الثوري وشعبة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن زِرّ بن حُبيشِ ، عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7345]} }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا صالح بن حيان ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : أكبر الكبائر : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، ومنع فضول الماء بعد الري ، ومنع طروق{[7346]} الفحل إلا بجُعْلٍ .
وفي الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يُمنَع فَضْلُ الماءِ ليمنع به الكلأ " {[7347]} وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فَضْلِ ماء بالفَلاةِ يمنعه ابن السَّبيل " ، وذكر الحديث بتمامه{[7348]} .
وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا : " من مَنَعَ فَضْلَ الماءِ وفَضْلَ الكَلأ منعه الله فضله يوم القيامة " {[7349]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شَنَبَة{[7350]} الواسطي ، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : ما أُخِذ على النِّساء من الكبائر . قال ابن أبي حاتم : يعني{[7351]} قوله : { عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ ]{[7352]} } الآية [ الممتحنة : 12 ] .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا زياد بن مِخْراق ، عن معاوية بن قُرَّة قال : أتينا أنس بن مالك ، فكان فيما حدثنا قال : لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى{[7353]} ثم{[7354]} لم نخرج له عن كل أهل ومال . ثم سكت هُنية{[7355]} ثم قال : والله لما كلفنا{[7356]} ربنا أهون من ذلك ، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر ، فما لنا ولها ، ثم تلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7357]} } .
روى ابن جرير ، من حديث المعتمر{[7358]} بن سليمان ، عن أبيه ، عن طاوس قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا : هي سبع ، فقال : هي أكثر من سبع وسبع . قال سليمان : فما أدري كم قالها من مرة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قُبَيْصَة ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس قال : قلت لابن عباس : ما السبع الكبائر ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع .
ورواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن ليث ، عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن{[7359]} الله ؟ ما هن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع{[7360]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن طاوس ، عن أبيه قال : قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هن إلى السبعين أقرب ، وكذا قال أبو العالية الرياحي ، رحمه الله .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شِبْل ، عن قيس عن سعد ، عن سعيد بن جُبير ؛ أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر ؟ سبع ؟ قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار . وكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث شبل ، به .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . ورواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الكبائر : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة . وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة . وقد ذكرت الطَّرْفة [ فيه ]{[7361]} قال : هي النظرة .
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن حازم ، أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن معدان ، عن أبي الوليد قال : سألت ابن عباس عن الكبائر فقال{[7362]} هي كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة .
قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيّة ، عن ابن عَوْن ، عن محمد قال : سألت عَبِيدة عن الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها ، وفرار يوم الزَّحْف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان . قال : ويقولون : أعرابية بعد هجرة . قال ابن عون : فقلت لمحمد : فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرا كبيرا{[7363]} .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المُحَاربي{[7364]} حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق ، عن عُبيد بن عُمَير قال : الكبائر سبع ، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله : الإشراك بالله منهن : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ } [ الحج : 31 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } [ النساء : 10 ]{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [ النور : 23 ] والفرار من الزحف : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [ فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ ]{[7365]} } [ الأنفال : 15 ] ، والتعرب{[7366]} بعد الهجرة : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [ محمد : 25 ] ، وقتل المؤمن : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } الآية [ النساء : 93 ] .
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق ، عن عُبَيد ، بنحوه .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عطاء - يعني ابن أبي رباح - قال : الكبائر سبع : قتل النَّفْسِ ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقُوق الوالدين ، والفِرَار من الزَّحْف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : كان يقال شَتْمُ أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، من الكبائر .
قلت : وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سَبَّ الصحابة ، وهو رواية عن مالك بن أنس ، رحمه الله : وقال محمد بن سيرين : ما أظن أحدا ينتقص{[7367]} أبا بكر ، وعمر ، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الترمذي .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني عبد الله بن عيَّاش ، قال{[7368]} زيد بن أسلم في قول الله عز وجل : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } من الكبائر : الشرك ، والكفر بآيات الله ورسوله ، والسحر ، وقتل الأولاد ، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة ، ومثل ذلك من الأعمال ، والقول الذي لا يصلح{[7369]} معه عمل ، وأما كل ذنب يصلح معه دين ، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات .
وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر بن معاذ ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية : إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجْتَنِبُوا الْكَبائر ، وسَدِّدُوا ، وأبْشِرُوا " .
وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس ، وعن جابر مرفوعا : " شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي " {[7370]} ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف ، إلا ما رواه عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شَفاعتي لأهْلِ الكبائرِ من أمتي " . فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين{[7371]} وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه ، عن عباس العَنْبري ، عن عبد الرزاق ثم قال : هذا حديث حسن صحيح{[7372]} وفي الصحيح شاهد لمعناه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة : " أترَوْنَها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين المُتَلَوِّثِينَ " .
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل : هي ما عليه حدٌّ في الشرع .
ومنهم من قال : هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة . وقيل غير ذلك . قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي ، في كتابه الشرح الكبير الشهير ، في كتاب الشهادات منه : ثم اختلف الصحابة ، رضي الله [ تعالى ]{[7373]} عنهم ، فمن بعدهم في الكبائر ، وفي الفرق بينها وبين الصغائر ، ولبعض الأصحاب{[7374]} في تفسير الكبيرة وجوه :
أحدها : أنها المعصية الموجبة للحد .
والثاني : أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة . وهذا أكثر ما يوجد لهم ، وهو{[7375]} وإلى الأول أميل ، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير{[7376]} الكبائر .
والثالث : قال إمام الحرمين في " الإرشاد " وغيره : كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي مبطلة للعدالة .
والرابع : ذكر القاضي أبو سعيد{[7377]} الهروي أن الكبيرة : كل فِعْل نَصَّ الكتاب على تحريمه ، وكل معصية توجب في جنسها حدًّا من قتل أو غيره ، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور ، والكذب في الشهادة ، والرواية ، واليمين .
ثم قال : وفصل القاضي الروياني فقال : الكبائر سبع : قتل النفس بغير الحق ، والزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأخذ المال غصبا ، والقذف . وزاد في " الشامل " على السبع المذكورة : شهادة الزور . وأضاف إليها صاحب العدة : أكل الربا ، والإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والخيانة في الكيل والوزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، وتأخيرها عن وقتها ، بلا عذر ، وضرب المسلم بلا{[7378]} حق ، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا ، وسب أصحابه ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وأخذ الرشوة ، والقيادة بين الرجال والنساء ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله{[7379]} ويقال : الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن . ومما يعد من الكبائر : الظهار ، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة .
ثم قال الرافعي : وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال .
قلت : وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات ، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي{[7380]} الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة ، وإذا قيل : إن الكبيرة [ هي ]{[7381]} ما توعد الشارع عليها بالنار بخصوصها ، كما قال ابن عباس ، وغيره ، وتتبع ذلك ، اجتمع منه شيء كثير ، وإذا قيل : كل ما نهى الله [ تعالى ]{[7382]} عنه فكثير جدًّا ، والله [ تعالى ]{[7383]} أعلم .
{ تجتنبوا } معناه : تدعون جانباً ، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير » وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر » و «يدخلكم » على علامة الغائب ، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان ، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم » بزيادة «من » وقرأ السبعة سوى نافع «مُدخلاً » بضم الميم ، وقرأ نافع : «مدخلاً » بالفتح وقد رواه أيضاً أبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الحج ، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في { مدخل ومخرج صدق }{[3978]} أنهما بضم الميم ، قال أبو علي : «مَدخلاً » بالفتح يحتمل أن يكون مصدراً ، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون مدخلاً ، ويحتمل أن يكون مكاناً ، فيعمل فيه الفعل الظاهر ، وكذلك يحتمل «مُدخلاً » بضم الميم للوجهين ، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف ، تقديره : ويدخلكم الجنة ، واختلف أهل العلم في «الكبائر » فقال علي بن أبي طالب : ( هي سبع ، الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة ){[3979]} . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وذكر كقول علي ، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى }{[3980]} ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات ، الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »{[3981]} .
وقال عبد الله بن عمر : هي تسع «الإشراك بالله ، والقتل ، والفرار ، والقذف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق »{[3982]} قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي : هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي { إن تجتنبوا } وقال عبد الله بن مسعود : هي أربع أيضاً الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وروي أيضاً عن ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط ، واليأس ، والأمن المتقدمة ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : «الكبائر » كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك{[3983]} ، وقالت فرقة من الأصوليين : هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال ، وقال رجل لابن عباس : أخبرني عن الكبائر السبع ، فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير{[3984]} ، فهنا يدخل الزنا ، وشرب الخمر ، والزور ، والغيبة ، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها ، بل ذكر بعضها مثالاً ، وعلى هذا القول أئمة الكلام : القاضي ، وأبو المعالي ، وغيرهما : قالوا : وإنما قيل : صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي بالجميع واحد ، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم ، عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
«ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله »{[3985]} .
واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض ، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعاً بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث ، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ، والمشيئة ثابتة ، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة ، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر ، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها : قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3986]} و { كريماً } يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب ، كما تقول : ثوب كريم ، وكريم المحتد ، وهذه آية رجاء ، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً ، قوله : { إن تجتنبوا } الآية ، وقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 و 116 ] وقوله : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم } [ النساء : 110 ] وقوله أيضاً : { يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } الآية{[3987]} .
اعتراض ناسب ذكره بعد ذكر ذنبين كبيرين : وهما قتل النفس ، وأكل المال بالباطل ، على عادة القرآن في التفنّن من أسلوب إلى أسلوب ، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه .
وقد دلّت إضافة { كبائر } إلى { ما تنهون عنه } على أنّ المنهيات قسمان : كبائر ، ودونها ؛ وهي التي تسمّى الصغائر ، وصفا بطريق المقابلة ، وقد سمّيت هنا سيّئات . ووعد بأنّه يغفر السيّئات للذين يجتنبون كبائر المنهيات ، وقال في آية النجم ( 32 ) { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم } فسمّى الكبائر فواحشَ وسمّى مقابلها اللَّمم ، فثبت بذلك أنّ المعاصي عند الله قسمان : معاص كبيرة فاحشة ، ومعاص دون ذلك يكثر أن يُلمّ المؤمن بها ، ولذلك اختلف السلف في تعيين الكبائر . فعن علي : هي سبع الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة .
واستدلّ لجميعها بما في القرآن من أدلّة جازِمِ النهي عنها . وفي حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم « اتّقوا السبع الموبقات . . . » فذكر التي ذكرها عليّ إلاّ أنّه جعل السحر عوض التعرّب . وقال عبد الله بن عمر : هي تسع بزيادة الإلحاد في المسجد الحرام ، وعقوق الوالدين . وقال ابن مسعود : هي ما نُهي عنه من أول سورة النساء إلى هنا . وعن ابن عبّاس : كلّ ما ورد عليه وعيد نار أو عذاب أو لعنة فهو كبيرة . وعن ابن عباس : الكبائر ما نهى الله عنه في كتابه .
وأحسن ضبطِ الكبيرة قول إمام الحرمين : هي كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته . ومن السلف من قال : الذنوب كلّها سواء إن كانت عن عمد . وعن أبي إسحاق الإسفرائيني أنّ الذنوب كلّها سواء مطلقاً ، ونفَى الصغائر . وهذان القولان واهيان لأنّ الأدلّة شاهدة بتقسيم الذنوب إلى قسمين ، ولأنّ ما تشتمل عليه الذنوب من المفاسد متفاوت أيضاً ، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات نوع الكبائر وأكبر الكبائر .
ويترتّب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية : منها المخاطبة بتجنّب الكبيرة تجنّبا شديداً ، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها ، ومنها أنّ ترك الكبائر يعتبر توبة من الصغائر ، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر ، ومنها نقض حكم القاضي المتلبّس بها ، ومنها جواز هجران المتجاهر بها ، ومنها تغيير المنكر على المتلبّس بها . وتترتّب عليها مسائل في أصول الدين : منها تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج ، التي تَفرّق بين المعاصي الكبائر والصغائر ؛ واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة ، خلافاً لجمهور علماء الإسلام .
فمن العجائب أن يقول قائل : إنّ الله لم يميّز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجراً للناس عن الإقدام على كلّ ذنب ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات ، وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، هكذا حكاه الفخر في التفسير ، وقد تبيّن ذهول هذا القائل ، وذهول الفخر عن ردّه ، لأنّ الأشياء التي نظَّروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلّق بها تكليف ؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخّي مَظانّها ليكثر الناس من فعل الخير ، ولكن إخفاء الأمر المكلّف به إيقاع في الضلالة ، فلا يقع ذلك من الشارع .
والمدخل بفتح الميم اسم مَكان الدخول ، ويجوز أن يكون مصدراً ميمياً . والمعنى : ندخلكم مكانا كريماً ، أو ندخلكم دخولاً كريماً . والكريم هو النفيس في نوعه . فالمراد إمّا الجنة وإمّا الدخول إليها ، والمراد به الجَنّة . والمُدخل بصمّ الميم كذلك مكانُ أو مَصدرُ أدْخل . وقرأ نافع ، وأبو جعفر : مَدْخلا بفتح الميم وقرأ بقية العشرة بضمّ الميم .