لقد كانت نتيجته الإجابة من الله - تعالى - لعبده زكريا ، فقد قال - تعالى - { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } .
أى : فنادت الملائكة زكريا - عليه السلام - وهو قائم يصلي في المحراب ، يناجى ربه ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى ، لكى تقر به عينك ويسر به قلبك .
والتعبير بالفاء في قوله { فَنَادَتْهُ } يشعر بأن الله - تعالى - فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من ذا الدعاء الخاشع ، إذ الفاء تفيد التعقيب .
ويرى فريق من المفسرين أن الذي ناداه هو جبريل وحده ، ومن الجائز فى العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع .
قال ابن جرير : كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحداً وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال : ممن سمعت هذا ؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد ، وقد قيل : إن منه قوله - تعالى - { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } والقائل كان فيما ذكر واحد . ويرى فريق آخر منهم أن الذى نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى ، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة فى أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد ، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة ، فقد جرت العادة في أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد ، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإدخال السرور على هذين الشخصين اللذين كادا يفقدان الأمل في إنجاب الذرية .
وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال " وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني " .
وقوله { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و " يصلى " حال من الضمير المستكن فى قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال ، وقوله { فِي المحراب } متعلق بيصلى . والمراد بالمحراب هنا المسجد ، أو المكان الذى يقف فيه الإمام في مقدمة المسجد .
وقرأ جمهور القراء : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } بفتح همزة أن - على أنه في محل جر بباء محذوفه . أى : نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى .
وقرأ ابن عامر وحمزة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - بكسر الهمزة - على تضمين النداء معنى القول ، أى : قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى .
وقوله : { بيحيى } متعلق بيبشرك ، وفي الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى ، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة .
وفى اقتران التبشير بالتسمية بيحيى ، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته ، وبذلك تتحقق الإجابة لدعاء زكريا تحققا تاما ، فقد حكى القرآن عنه في سورة مريم أنه قال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } قال الجمل : و " يحيى ، فيه قولان :
أحدهما : وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع ، وقد سموا بالأفعال كثيراً نحو يعيش ويعمر . . وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .
والثاني : أنه أعجمي لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر ، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة " .
ثم وصف الله - تعالى - يحيى - عليه السلام - بأربع صفات كريمة فقال : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } .
فالصفة الأولى : من صفات يحيى - عليه السلام - أنه كان { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه - وهم جمهور العلماء - أن المراد بكلمة الله هو عيسى - عليه السلام - لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
وقد كان يحيى معاصرا لعيسى . وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم .
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه ، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه ، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام ، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة ، وقال كلمة أى خطبة .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله في أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله - تعالى -
{ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } وقوله تعالى - { يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } ولأن فى التعبير عن عيسى الذى صدقه يحيى - بأنه كلمة من الله ، إشعاراً بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن ، وإيماء إلى أن زكريا - عليه السلام - قد أوتى علماً بأن المسيح عهده قريب ، وأن يحيى - عليه السلام - سيعيش حتى يدرك عيسى .
وقوله { مُصَدِّقاً } منصوب على الحال المقدرة من يحيى ، أى على الحال التي سيكون عليها في المستقبل ، والمراد بهذا التصديق الإيمان بعيسى - كما سبق أن أشرنا - قيل : هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه .
و " من " في قوله { مِّنَ الله } للابتداء . والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة ، أى مصدقاً بكلمة كائنة من الله - تعالى - .
والصفة الثانية : من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله " وسيدا " والسيد - كما يقول القرطبي - الذى يسود قومه وينتهى إلى قوله . وأصله سيود يقال : فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة ، ففيه دلالة على تسمية الإنسان سيدا . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة عندما دخل سعد بن معاذ - " قوموا إلى سيدكم " وفى الصحيحين أنه قال فى الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون سيدا ، أى يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفة النفس ، بأن يكون مالكا لزمامها ، ومسيطرا على أهوائها .
والصفة الثالثة : من صفاته عبر عنها القرآن بقوله : { وَحَصُوراً } وأصل الحصر : المنع والحبس .
يقال حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني .
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات ، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الوزاج وهو قادر على ذلك - زهادة منه واستعفافا ، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك .
قال ابن كثير : وقد قال القاضى عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان { وَحَصُوراً } معناه أنه معصوم من الذنوب ، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها . وقيل : مانعا نفسه من الهشوات ، وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله - تعالى - كيحيى - عليه السلام - ثم هى في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه : درجة عليا وهى درجة درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذى لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن . . . والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء ، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب .
أما الوصف الرابع : من أوصاف يحيى - عليه السلام - فهو قوله - تعالى - { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وفى هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذى اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس ، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التى أخبره الله فيها بولادة يحيى ، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل .
قال الله تعالى : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } أي : خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته ، وهو قائم يصلي في محراب عبادته ، ومحل خَلْوَته ، ومجلس مناجاته ، وصلاته . ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } أي : بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى . قال قتادة وغيره : إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان .
وقوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } روى العَوْفيّ وغيره عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغيرهم في هذه الآية : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } أي : بعيسى ابن مريم ؛ قال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم ، وقال قتادة : وعلى سننه{[4984]} ومنهاجه . وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس في قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى : تصديقه له في بطن أمه ، وهو أول من صدق عيسى ، وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى{[4985]} عليه{[4986]} السلام ، وهكذا قال السدي أيضا .
وقوله : { وَسَيِّدًا } قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : الحكيم{[4987]} وقال قتادة : سيدًا في العلم والعبادة . وقال ابن عباس ، والثوري ، والضحاك : السيد الحكيم{[4988]} المتقي {[4989]} وقال سعيد بن المسيب : هو الفقيه العالم . وقال عطية : السيد في خلقه ودينه . وقال عكرمة : هو الذي لا يغلبه الغضب . وقال ابن زيد : هو الشريف . وقال مجاهد وغيره{[4990]} هو
وقوله : { وَحَصُورًا } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وعطية العَوْفي أنهم قالوا : هو الذي لا يأتي النساء . وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له . وقال الضحاك : هو الذي لا ولد له ولا ماء له .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في الحَصُور : الذي لا ينزل الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبًا جدا فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي ، حدثني سعيد بن سليمان ، حدثنا عبادة - يعني ابن العوام - عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المُسَيَّب ، عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
{ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } قال : ثم تناول شيئا من الأرض فقال : " كان ذكره مثل هذا " {[4991]} .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم قرأ سعيد : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } ثم أخذ شيئا من الأرض فقال{[4992]} الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة . فهذا موقوف{[4993]} وهو أقوى{[4994]} إسنادًا من المرفوع ، بل وفي صحة المرفوع نظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد قال القاضي عياض في كتابه{[4995]} الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه{[4996]} كان { حَصُورًا } ليس كما قاله بعضهم : إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا تليق{[4997]} بالأنبياء ، عليهم السلام ، وإنما معناه : أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات . وقيل : ليست له شهوة في النساء .
وقد{[4998]} بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها : إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل ، كيحيى ، عليه السلام . ثم هي حق من أقدر{[4999]} عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله{[5000]} عن ربه درجة علياء ، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ، بتحصينهن وقيامه عليهن ، واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن . بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : " حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ " .
هذا لفظه . والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ{[5001]} لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } كأنه قال : ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج ، عن سلمان بن القمري ، عن الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه ، إن شاء أو يرحمه ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من الصالحين " ، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : " كان ذكره مثل هذه القذاة " ]{[5002]} .
قوله : { وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى كقوله{[5003]} تعالى لأم موسى : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] فلما تحقق زكريا ، عليه السلام ، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر .
ثم قال تعالى : { فنادته الملائكة } وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه ، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته ، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة ، وذكر جمهور المفسرين : أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء ، وقال قوم : بل نادت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية ، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته «فناداه جبريل وهو قائم يصلي » ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو : «فنادته » بالتاء «الملائكة » ، وقرأ حمزة والكسائي «فناداه الملائكة » بالألف وإمالة الدال ، قال أبو علي : من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل ، ألا ترى أنك تقول : هي الرجال كما تقول : هي الجذوع وهي الجمال ، ومثله : { قالت الأعراب }{[3130]} .
قال الفقيه الإمام : ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة ، والقراءة بالتاء على قول من يقول : المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة ، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم ، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى :
{ الذين قال لهم الناس }{[3131]} قال أبو علي : ومن قرأ «فناداه الملائكة » ، فهو كقوله تعالى : { وقال نسوة في المدينة }{[3132]} .
قال القاضي : وهذا على أن المنادي كثير ، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى ، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه ، وقوله تعالى : { فنادته } عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخباراً على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل{[3133]} ، وقوله تعالى : { وهو قائم } جملة في موضع الحال ، و { يصلي } صفة لقائم ، و { المحراب } في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد ، وقرأ ابن عامر وحمزة : «إن الله » بكسر الألف ، قال أبو علي : وهذا على إضمار القول ، كأنه قال { فنادته الملائكة } فقالت وهذا كقوله تعالى : { فدعا ربه أني مغلوب }{[3134]} على قراءة من كسر الألف ، وقال بعض النحاة : كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال ، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله : { أن الله يبشرك } قال أبو علي : المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها ، ف «إن » في موضع نصب ، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر ، وفي قراءة عبد الله «في المحراب ، يا زكرياء إن الله » ، قال أبو علي : فقوله «يا زكرياء » في موضع نصب بوقوع النداء عليه ، ولا يجوز فتح الألف في «إن » على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير ، والآخر المنادى ، فإن فتحت «إن » لم يبق لها شيء متعلق به ، قال أبو علي : وكلهم قرأ { في المحراب } بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها ، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره ، وقال غير ابن مجاهد : إنما نميله في الجر فقط .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «يبشرك » ، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في «عسق » فإنهما قرآ { ذلك الذي يبشر الله عباده }{[3135]} بفتح الياء ، وسكون الباء ، وضم الشين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر ، «يبشِّرك بشد الشين المكسورة في كل القرآن ، وقرأ حمزة «يبشُر » خفيفاً بضم الشين مما لم يقع{[3136]} في كل القرآن إلا قوله تعالى ، { فبم تبشرون }{[3137]} وقرأ الكسائي «يبشر »
مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف ، ويبشر المؤمنين ، وفي «عسق »{ يبشر الله عباده } ، قال غير واحد من اللغويين : في هذه اللفظة ثلاث لغات ، بشّر بشد الشين ، وبشر بتخفيفها{[3138]} ، وأبشر يبشر إبشاراً ، وهذه القراءات كلها متجهة فصيحة مروية ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «يُبشِرك » بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من - أبشر- وهكذا قرأ في كل القرآن .
و { يحيى } اسم سماه الله به قبل أن يولد ، قال أبو علي : هو اسم بالعبرانية صادف هذا البناء ، والمعنى من العربية ، قال الزجاج : لا ينصرف لأنه إن كان أعجمياً ففيه التعريف والعجمة ، وإن كان عربياً فالتعريف ووزن الفعل ، وقال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان { مصدقاً } نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، وقوله تعالى : { بكلمة من الله } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم ، «الكلمة » هنا يراد بها عيسى ابن مريم .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر ، وروى ابن عباس : أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان : إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك ، وفي بعض الروايات ، يسجد لما في بطنك{[3139]} قال ، فذلك تصديقه .
قال الفقيه أبو محمد : أي أول التصديق ، وقال بعض الناس : { بكلمة من الله } ، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع ، فكلمة اسم جنس ، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة{[3140]} ، وقوله تعالى : { وسيداً } قال فيه قتادة : أي والله سيد في الحلم والعبادة والورع ، وقال مرة : معناه في العلم والعبادة ، وقال ابن جبير : { وسيداً } أي حليماً ، وقال مرة : السيد التقي وقال الضحاك : { وسيداً } أي تقياً حليماً ، وقال ابن زيد : السيد الشريف ، وقال ابن المسيب : السيد الفقيه العالم ، وقال ابن عباس : { وسيداً } يقول ، تقياً حليماً ، وقال عكرمة : السيد الذي لا يغلبه الغضب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب ، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل { مصدقاً بكلمة من الله } وتحصل التقى بباقي الآية ، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، هذا لفظ يعم السؤدد ، وتفصيله أن يقال : بذل الندى ، وهذا هو الكرم وكف الأذى ، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم ، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترفد ، والإنقاذ من الهلكات ، وانظر أن النبي عليه السلام قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين ، وذكر حديث الشفاعة{[3141]} في إطلاق الموقف ، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك ، وقد يوجد من الثقات{[3142]} العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيداً وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة ، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له ، وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما ، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذوراً ، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيراً من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريراً ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها ، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد ، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يحيى عليه السلام ، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد ، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد ، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة ، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا ، ومثال ذلك ، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس ، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز ، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان .
وقوله تعالى : { وحصوراً } أصل هذه اللفظة الحبس والمنع ، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيراً وجهنم حصيراً ، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر ، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور ، قال الأخطل{[3143]} : [ البسيط ]
وشارِب مرْبح بالْكَأْسِ نَادَمني . . . لا بالحصورِ وَلاَ فِيها بِسَوَّارِ{[3144]}
ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر ، قال جرير{[3145]} : [ الكامل ]
وَلَقَدْ تَسَاقَطَني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا . . . حَصِراً بسرِّكِ يا أميمُ ضَنِينَا{[3146]}
وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال : إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها ، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي { إما عبد الله وإما أبوه } عن النبي عليه السلام ، أنه قال : «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء » ، قال : ثم دلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويداً صغيراً ، ثم قال : «وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً »{[3147]} ، وقال ابن مسعود «الحصور » العنين ، وقال مجاهد وقتادة : «الحصور » الذي لا يأتي النساء ، وقال ابن عباس والضحاك : الحصور الذي لا ينزل الماء .
قال القاضي : ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنيناً لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه تقى وجلداً في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء ، قالوا : وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح ، إلا بأن الله يسر له شيئاً لا تكسب له فيه ، وباقي الآية بيّن ، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقاً وأخاديد .