هذا ، وبعد تلك المقدمة الموجزة لما اشتملت عليه آيات تحويل القبلة من مقاصد ، نحب أن نتعرض لتفسيرها بالتفصيل ، فنقول قال الله تعالى :
{ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ . . . }
تضمنت هذه الآيات الكريمة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقاً من الناس الذين خفت أحلامهم وضعفت عقولهم وعدولا عما ينفعهم إلى ما يضرهم ، سيقولون على سبيل الإِنكار عند تحويل القبلة إلى المسجد الحرام ، ما صرفهم عن القبلة التي كانوا عليها ، وهي بيت المقدس .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت ، أي فائدة في الإِخبار بقولهم قبل وقوعه ؟ قلت : فائدته أن مفاجأت المكروه أشد ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع ، لما يتقدمه من توطين النفس ، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه " .
والمراد بالسفهاء اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة ، ومن لف لفهم من المنافقين ومشركي العرب .
وإنما سماهم الله - تعالى - سفهاء لأنهم سفهوا الحق ، وجحدوه ، وأنكروا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقه في رسالته .
وقد صرح البخاري - رحمه الله - بأن المراد بالسفهاء اليهود ، فقد روى عن البراء بن عازب قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه إلى الكعبة ، فأنزل الله - تعالى - { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } فتوجه نحو الكعبة ، وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود - ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها .
ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذي يخرس به ألسنة المعترضين من اليهود وغيرهم ، فقال تعالى : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
أي قل لهم - يا محمد - إذا اعترضوا على التحويل : إن الأمكنة كلها لله ملكاً وتصرفاً وهي بالنسبة إليه متساوية ، وله أن يخص بعضها بحكم دون بعض ، فإذا أمرنا باستقبال جهة في الصلاة فلحكمة اقتضت الأمر وما على الناس إلا أن يمتثلوا أمره ، والمؤمنون ما اتخذوا الكعبة قبلة لهم إلا امتثالا لأمر ربهم ، لا ترجيحاً لبعض الجهات من تلقاء أنفسهم فالله هو الذي يهدي من يشاء هدايته ، إلى السبيل الحق ، فيوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك ، ثم إلى الكعبة ، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به .
[ قيل المراد بالسفهاء هاهنا : المشركون ؛ مشركو العرب ، قاله الزجاج . وقيل : أحبار يهود ، قاله مجاهد . وقيل : المنافقون ، قاله السدي . والآية عامة في هؤلاء كلهم ، والله أعلم ]{[2867]} .
قال البخاري : حدثنا أبو نُعَيم ، سمع زُهَيراً ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت{[2868]} المقدس ستَّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ، صلاة العصر ، وصلى معه قوم . فخرج رجل{[2869]} ممن كان صلى معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة ، فدارُوا كما هم قبل البيت . وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله عز وجل { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
انفرد به البخاري من هذا الوجه{[2870]} . ورواه مسلم من وجه آخر{[2871]} .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني إسماعيل{[2872]} بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر{[2873]} أمر الله ، فأنزل الله : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فقال رجال{[2874]} من المسلمين : وَددْنا لو عَلمْنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وقال السفهاء من الناس ، وهم أهل الكتاب : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } إلى آخر الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا الحسن بن عطية ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : فَوُجّه نحو الكعبة . وقال السفهاء من الناس ، وهم اليهود : { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فأنزل الله { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة ، أمَره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي : نحوه . فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ كثيرة ، وحاصلُ الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمِرَ باستقبال الصخرة من بيت المقدس ، فكان بمكة يُصَلِّي بين الركنين ، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس ، فلما هاجر إلى المدينة تَعَذَّر الجمعُ بينهما ، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس ، قاله ابن عباس والجمهور ، ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره ؛ على قولين ، وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام . والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة ، فاستمرَّ الأمرُ على ذلك بضعة عَشَرَ شهراً ، وكان يكثر الدعاءَ والابتهالَ أنْ يُوَجَّه إلى الكعبة ، التي هي قبلة إبراهيم ، عليه السلام ، فأجيب إلى ذلك ، وأمر بالتوجِّه إلى البيت العتيق ، فخطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناس ، وأعلمهم بذلك . وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر ، كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء . ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى : أنها الظهر{[2875]} . وأما أهل قُبَاء ، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني ، كما جاء في الصحيحين ، عن ابن عمر أنه قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة ، فاستقبلوها . وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة{[2876]} .
وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به ، وإن تقدم نزوله وإبلاغه ؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء ، والله أعلم .
ولما وقع هذا حصل لبعض الناس - من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود - ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك ، وقالوا : { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } أي : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا ، وتارة يستقبلون كذا ؟ فأنزل الله جوابهم في قوله : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أي : الحكم والتصرف والأمر كله لله ، وحيثما تولوا فثمَّ وجه الله ، و { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } [ البقرة : 177 ]أي : الشأن كله في امتثال أوامر الله ، فحيثما وجهنا توجهنا ، فالطاعة في امتثال أمره ، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة ، فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه ، حيثما وجَّهَنا توجهنا ، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد - صلوات الله وسلامه عليه{[2877]} - وأمتِه عناية عظيمة ؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم ، خليل الرحمن ، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له ، أشرف بيوت الله في الأرض ، إذ هي بناء إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، ولهذا قال : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وقد روى الإمام أحمد ، عن علي بن عاصم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عُمَر{[2878]} بن قيس ، عن محمد بن الأشعث ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني في أهل الكتاب - : " إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة ، التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين " {[2879]} .
{ سيقول السفهاء من الناس } الذين خفت أحلامهم ، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر . يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين . وفائدة تقديم الإخبار به توطين النفس وإعداد الجواب وإظهار المعجزة . { ما ولاهم } ما صرفهم . { عن قبلتهم التي كانوا عليها } يعني بيت المقدس ، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال ، فصارت عرفا للمكان المتوجه نحوه للصلاة { قل لله المشرق والمغرب } لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه ، وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } وهو ما ترتضيه الحكمة ، وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة ، والكعبة أخرى .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 142 )
أعلم الله تعالى في هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة : { ما ولاهم } ؟ و { السفهاء } هم الخفاف الأحلام والعقول ، والسفه الخفة والهلهلة ، ثوب سفيه أي غير متقن النسج ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت . . . أعالَيَها مرُّ الرياحِ النواسمِ
أي استخفتها( {[1333]} ) ، وخص بقوله { من الناس } ، لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات ، والمراد ب { السفهاء } هنا جميع من قال { ما ولاهم } ، وقالها فِرَقٌ .
واختلف في تعيينهم ، فقال ابن عباس : «قالها الأحبار منهم » ، وذلك أنه جاؤوا إلى النبي صلى -الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ما ولاك عن قبلتنا ؟ ارجع إليها ونؤمن بك ، يريدون فتنته ، وقال السدي : قالها بعض اليهود والمنافقون استهزاء ، وذلك أنهم قالوا : اشتاق الرجل إلى وطنه ، وقالت طائفة : قالها كفار قريش ، لأنهم قالوا : ما ولاه عن قبلته ؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه أنَّا على الحق وسيرجع إلى ديننا كله ، و { ولاهم } معناه صرفهم ، والقبلة فعلة هيئة المقابل للشيء ، فهي كالقعدة والإزرة( {[1334]} ) .
وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله { سيقول } دلالة على استدامة ذلك ، وأنهم يستمرون على ذلك القول( {[1335]} ) ، ونص ابن عباس وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم .
وقوله تعالى : { قل لله المشرق والمغرب } إقامة حجة ، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما ، ويهدي من يشاء ، إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم ، والصراط : الطريق .
واختلف العلماء ، هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن أو بوحي غير متلو ؟( {[1336]} ) ، فذكر ابن فورك عن ابن عباس قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وقال الجمهور : بل كان أمر قبلة بيت المقدس بوحي غير متلو ، وقال الربيع : خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس ، ليستألف بها أهل الكتاب ، ومن قال كان بوحي غير متلو قال : كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب ، لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره ، واختلف كم صلى إلى بيت المقدس ، ففي البخاري : ستة عشر أو سبعة عشر شهراً( {[1337]} ) ، وروي عن أنس بن مالك : تسعة أو عشرة أشهر ، وروي عن غيره : ثلاثة عشرة شهراً .
وحكى مكي عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال : أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخر ، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ففرضت الخمس ، وأمَّ فيها جبريل عليه السلام ، وكانت أول صلاة الظهر ، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس ، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ربيع الأول ، وتمادى إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين ، وقيل إلى جمادى ، وقيل إلى نصف شعبان .