لقد كانت نتيجته الإجابة من الله - تعالى - لعبده زكريا ، فقد قال - تعالى - { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } .
أى : فنادت الملائكة زكريا - عليه السلام - وهو قائم يصلي في المحراب ، يناجى ربه ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى ، لكى تقر به عينك ويسر به قلبك .
والتعبير بالفاء في قوله { فَنَادَتْهُ } يشعر بأن الله - تعالى - فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من ذا الدعاء الخاشع ، إذ الفاء تفيد التعقيب .
ويرى فريق من المفسرين أن الذي ناداه هو جبريل وحده ، ومن الجائز فى العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع .
قال ابن جرير : كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحداً وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال : ممن سمعت هذا ؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد ، وقد قيل : إن منه قوله - تعالى - { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } والقائل كان فيما ذكر واحد . ويرى فريق آخر منهم أن الذى نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى ، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة فى أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد ، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة ، فقد جرت العادة في أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد ، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإدخال السرور على هذين الشخصين اللذين كادا يفقدان الأمل في إنجاب الذرية .
وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال " وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني " .
وقوله { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و " يصلى " حال من الضمير المستكن فى قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال ، وقوله { فِي المحراب } متعلق بيصلى . والمراد بالمحراب هنا المسجد ، أو المكان الذى يقف فيه الإمام في مقدمة المسجد .
وقرأ جمهور القراء : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } بفتح همزة أن - على أنه في محل جر بباء محذوفه . أى : نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى .
وقرأ ابن عامر وحمزة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - بكسر الهمزة - على تضمين النداء معنى القول ، أى : قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى .
وقوله : { بيحيى } متعلق بيبشرك ، وفي الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى ، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة .
وفى اقتران التبشير بالتسمية بيحيى ، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته ، وبذلك تتحقق الإجابة لدعاء زكريا تحققا تاما ، فقد حكى القرآن عنه في سورة مريم أنه قال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } قال الجمل : و " يحيى ، فيه قولان :
أحدهما : وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع ، وقد سموا بالأفعال كثيراً نحو يعيش ويعمر . . وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .
والثاني : أنه أعجمي لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر ، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة " .
ثم وصف الله - تعالى - يحيى - عليه السلام - بأربع صفات كريمة فقال : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } .
فالصفة الأولى : من صفات يحيى - عليه السلام - أنه كان { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه - وهم جمهور العلماء - أن المراد بكلمة الله هو عيسى - عليه السلام - لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
وقد كان يحيى معاصرا لعيسى . وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم .
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه ، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه ، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام ، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة ، وقال كلمة أى خطبة .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله في أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله - تعالى -
{ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } وقوله تعالى - { يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } ولأن فى التعبير عن عيسى الذى صدقه يحيى - بأنه كلمة من الله ، إشعاراً بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن ، وإيماء إلى أن زكريا - عليه السلام - قد أوتى علماً بأن المسيح عهده قريب ، وأن يحيى - عليه السلام - سيعيش حتى يدرك عيسى .
وقوله { مُصَدِّقاً } منصوب على الحال المقدرة من يحيى ، أى على الحال التي سيكون عليها في المستقبل ، والمراد بهذا التصديق الإيمان بعيسى - كما سبق أن أشرنا - قيل : هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه .
و " من " في قوله { مِّنَ الله } للابتداء . والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة ، أى مصدقاً بكلمة كائنة من الله - تعالى - .
والصفة الثانية : من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله " وسيدا " والسيد - كما يقول القرطبي - الذى يسود قومه وينتهى إلى قوله . وأصله سيود يقال : فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة ، ففيه دلالة على تسمية الإنسان سيدا . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة عندما دخل سعد بن معاذ - " قوموا إلى سيدكم " وفى الصحيحين أنه قال فى الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون سيدا ، أى يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفة النفس ، بأن يكون مالكا لزمامها ، ومسيطرا على أهوائها .
والصفة الثالثة : من صفاته عبر عنها القرآن بقوله : { وَحَصُوراً } وأصل الحصر : المنع والحبس .
يقال حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني .
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات ، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الوزاج وهو قادر على ذلك - زهادة منه واستعفافا ، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك .
قال ابن كثير : وقد قال القاضى عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان { وَحَصُوراً } معناه أنه معصوم من الذنوب ، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها . وقيل : مانعا نفسه من الهشوات ، وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله - تعالى - كيحيى - عليه السلام - ثم هى في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه : درجة عليا وهى درجة درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذى لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن . . . والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء ، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب .
أما الوصف الرابع : من أوصاف يحيى - عليه السلام - فهو قوله - تعالى - { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وفى هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذى اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس ، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التى أخبره الله فيها بولادة يحيى ، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل .
قال الله تعالى : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } أي : خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته ، وهو قائم يصلي في محراب عبادته ، ومحل خَلْوَته ، ومجلس مناجاته ، وصلاته . ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } أي : بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى . قال قتادة وغيره : إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان .
وقوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } روى العَوْفيّ وغيره عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغيرهم في هذه الآية : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } أي : بعيسى ابن مريم ؛ قال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم ، وقال قتادة : وعلى سننه{[4984]} ومنهاجه . وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس في قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى : تصديقه له في بطن أمه ، وهو أول من صدق عيسى ، وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى{[4985]} عليه{[4986]} السلام ، وهكذا قال السدي أيضا .
وقوله : { وَسَيِّدًا } قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : الحكيم{[4987]} وقال قتادة : سيدًا في العلم والعبادة . وقال ابن عباس ، والثوري ، والضحاك : السيد الحكيم{[4988]} المتقي {[4989]} وقال سعيد بن المسيب : هو الفقيه العالم . وقال عطية : السيد في خلقه ودينه . وقال عكرمة : هو الذي لا يغلبه الغضب . وقال ابن زيد : هو الشريف . وقال مجاهد وغيره{[4990]} هو
وقوله : { وَحَصُورًا } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وعطية العَوْفي أنهم قالوا : هو الذي لا يأتي النساء . وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له . وقال الضحاك : هو الذي لا ولد له ولا ماء له .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في الحَصُور : الذي لا ينزل الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبًا جدا فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي ، حدثني سعيد بن سليمان ، حدثنا عبادة - يعني ابن العوام - عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المُسَيَّب ، عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
{ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } قال : ثم تناول شيئا من الأرض فقال : " كان ذكره مثل هذا " {[4991]} .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم قرأ سعيد : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } ثم أخذ شيئا من الأرض فقال{[4992]} الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة . فهذا موقوف{[4993]} وهو أقوى{[4994]} إسنادًا من المرفوع ، بل وفي صحة المرفوع نظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد قال القاضي عياض في كتابه{[4995]} الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه{[4996]} كان { حَصُورًا } ليس كما قاله بعضهم : إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا تليق{[4997]} بالأنبياء ، عليهم السلام ، وإنما معناه : أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات . وقيل : ليست له شهوة في النساء .
وقد{[4998]} بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها : إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل ، كيحيى ، عليه السلام . ثم هي حق من أقدر{[4999]} عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله{[5000]} عن ربه درجة علياء ، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ، بتحصينهن وقيامه عليهن ، واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن . بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : " حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ " .
هذا لفظه . والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ{[5001]} لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } كأنه قال : ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج ، عن سلمان بن القمري ، عن الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه ، إن شاء أو يرحمه ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من الصالحين " ، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : " كان ذكره مثل هذه القذاة " ]{[5002]} .
قوله : { وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى كقوله{[5003]} تعالى لأم موسى : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] فلما تحقق زكريا ، عليه السلام ، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الله جلّ ثناؤه، أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقلّ ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
{وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى}: فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا. فقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا. وأما المحراب: [فهو] مقدم المسجد.
{أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ} بتشديد الشين وضمّ الياء على وجه تبشير الله زكريا بالولد.
{بِيَحْيَى} فإنه اسم أصله يَفْعَل، من قول القائل: حي فلان فهو يحيا، وذلك إذا عاش فيحيى «يَفْعَل» من قولهم «حيي». وقيل: إن الله جلّ ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بالإيمان. {مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ}: إن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك، {مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله}: يعني بعيسى ابن مريم، وعلى سننه ومنهاجه... كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلمة من الله وروح.
{وَسَيّدا}: وشريفا في العلم والعبادة.
وتأويل الكلام: إن الله يبشرك بيحيى مصدّقا بهذا وسيدا، والسيد: من قول القائل: ساد يسود... في العبادة والحلم والعلم والورع... السيد: التقيّ... الكريم على الله... الفقيه العالم... الذي لا يغلبه الغضب.
{وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ}: ممتنعا من جماع النساء من قول القائل: حصرت من كذا أحصر: إذا امتنع منه ومنه قولهم: حصر فلان في قراءته: إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، وكذلك حصر العدوّ: حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف.
وأصل جميع ذلك واحد: وهو المنع والحبس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال ثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا»، قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض، فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: «وَذَلكَ أنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ، وبذلك سماه الله سيدا وحصورا».
{وَحَصُورا}: هو الذي لا ماء له... الذي لا يقرب النساء.
{وَنَبِيّا مِنَ الصالِحِينَ}: رسولاً لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم. {مِنَ الصّالِحِينَ}: من أنبيائه الصالحين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: السيد: الذي يطيع ربه ولا يعصيه... {بيحيى}: قيل: سماه به لما حيي به الدين والمروءة، أو حيي به العلم والحكمة، أو حيي به الأخلاق الفاضلة والأفعال المرضية،... ولهذا، والله أعلم، سمي سيدا، لأن السود في الخلق يكسب بهذا النوع من الأحوال، وسمي مسيحا بالبركة، أو يبارك في كل شيء يمسه بيده نحو أن يبرأ به، ويحيى، والله أعلم. وحقيقة السود أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة والأفعال المرضية. وجائز أن يكون عليه السلام جمعهما فيه، فسمي بهما، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً ونَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ} يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يُسمَّى بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى سَمَّى يحيى سيداً، والسيد هو الذي تَجِبُ طاعته؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحُكْمِ بينه وبين بني قُرَيْظة:"قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ"؛ وقال صلى الله عليه وسلم للحسن: "إنَّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ"؛ ... وقال لبني سَلِمَةَ: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يا بني سَلِمَةَ؟ "قالوا: الحرّ بن قيس على بُخْلٍ فيه، قال: "وأيّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ! ولَكِنْ سَيِّدُكُمْ الجَعْدُ الأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ"...
فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمَّى سيداً. وليس السيد هو المالَك فحسب؛ ... وقد رُوي أن وفد بني عامر قَدِمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت سيدنا وذو الطَّوْلِ علينا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "السَّيِّدُ هو اللهُ تَكَلَّمُوا بكَلاَمِكُمْ ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ"، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل السادة من بني آدم، ولكنه رآهم متكلّفين لهذا القول، فأنكره عليهم، كما قال:"إنَّ أَبْغَضَكُمْ إليَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَشَدِّقُونَ المُتَفَيْهقُونَ"، فكره لهم تكلُّفَ الكلام على وجه التّصنّع...
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تَقُولُوا للمُنَافِقِ سَيِّداً فإنّه إنْ يَكُ سَيِّداً فَقَدْ هَلِكْتُمْ"، فنهى أن يُسَمَّى المنافق سيداً، لأنه لا تجب طاعته...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
واختلفوا في تسميته كلمة من الله على قولين: أحدهما: أنه خلقه بكلمته من غير أب. والثاني: أنه سُمِيَ بذلك لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بكلام الله عز وجل...
وسَيِّداً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الخليفة. والخامس: سيد المؤمنين، يعني بالرياسة عليهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما سأل السؤال، ولازم الباب أَتَتْهُ الإجابةُ. وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة...
"مصدقاً بكلمة من الله": أن تصديقه بكلمة "الله "فيما تعبده به، أو هو مكوَّن بكلمة الله...
"وَسَيِّدًا": السيدُ من ليس في رق مخلوق، تحرَّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق، ويقال:السيد: من تحقق بعلويته سبحانه، ويقال السيد من فاق أهل عصره، وكذلك كان يحيى عليه السلام...
"وَحَصُورًا": أي مُعْتَقاً من الشهوات، مكفياً أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر...
{وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ}: مستحقاً لبلوغ رتبتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟ كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن، ولا تتقيد بمألوف الناس؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد: (فنادته الملائكة -وهو قائم يصلي في المحراب- أن الله يبشرك بيحيى، مصدقا بكلمة من الله. وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين)...
. لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء؛ ويملك الإجابة حين يشاء. وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده؛ " يحيى"؛ وصفته معروفة كذلك: سيدا كريما، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته من الانفلات. ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله. ونبيا صالحا في موكب الصالحين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {فنادته الملائكة} للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت. وقوله: {وهو قائم} جملة حالية والمقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته؛ لأنّ دعاءه كان في صلاته...
والسيد فَيْعِل من سَاد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل...
والسيّد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معاً...
وفي الحديث "أَنا سيّد ولد آدم ولا فخر "وفيه « إنّ ابني هذا سيّد» يعني الحسنَ بن علي فقد كان الحسنُ جامعاً خصال السؤدد الشرعي، وحسبك من ذلك أنّه تنازل عن حق الخلافة لجمع كلمة الأمة، ولإصلاح ذات البين،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قوله تعالى: {أن الله يبشرك بيحيى}... واقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى ان ذلك المولود سيحيى اسمه وذكره بعد موته،وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء،إذ قال كما في سورة مريم {يرثني ويرث آل يعقوب واجعله رب رضيا} [مريم 6]. وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا،فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه؛ ولذا قال سبحانه في وصفه: {مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين}... والسيد فيعل من السيادة،وهي الشرف والتفوق والعلو،وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها،ويضبطها ويأخذ بعنانها،فلا تذل،ولا تتكبر ولا تجمح،ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور،والاستغناء عما في هذا المصر؟فقيل له:الحسن البصري فقال:وبم ساده؟قيل استغنى عما في أيدي الناس،واحتاج الناس إلى ما في يده،فقال:ذلك هو السيد حقا. فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معاني السؤدد ومكارم الأخلاق...
أنه نبي من الصالحين،وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا؛ فإن الوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه،ولكن الله سبحانه وتعالى من عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله {ومن الصالحين} إشارة إلى موطن النبوة.وموضع اختيارها،والله سبحانه وتعالى اعلم حيث يجعل رسالته،وهو سبحانه وتعالى لا يختارهم إلا من الصالحين،فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة،ويعصمهم عن المعاصي بعدها...
إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه، قام إلى الصلاة، فنادته الملائكة، وهو قائم يصلي، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته، {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ}...
والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي يبشر، فهو الذي يقدر، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة، {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} لقد قال له الله: سأعطيك. وزيادة على العطاء سماه الله ب {يَحْيَى} وفوق كل ذلك: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}...
ولننظر إلى دقة الحق حين يقول: {بِيَحْيَى مُصَدِّقاً}. هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق، وهو سيأتي بكلمة من الله، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام...